الاثنين، أغسطس 18، 2014

حول تآكل النظام المسرحي في مصر التوجه التنموي للمسرح في مصر أزمة ازدواجية الخطاب


هل يوجد ما يمكن أن نطلق عليه نظام مسرحي في مصر؟ وبالإضافة إلي ذلك السؤال المبدئي هل يمكن توصيف ذلك النظام أو تحديد العناصر الفاعلة في تكوينه أو السلطات المهيمنة التي تقوم بالحفاظ عليه و دعمه و نفي عناصر الفوضى أو العناصر المناهضة له ؟ وبالتأكيد فإن ذلك سوف يقودنا لعشرات الأسئلة الفرعية و الجانبية التي تطفو على السطح مثل البحث عن القوانين المنظمة للعلاقات بين عناصر تشكيل ذلك النظام ؟ و أثرها في تشكيل العلاقات بين المسرح و المجتمع و التصورات الجمالية الممكنة و المقموعة .. الخ.
إن ذلك السيل من الأسئلة المتراكمة التي يمكن أن تنهال علينا ستعرقل محاولتنا لاستكشاف القوي الفاعلة في الحركة المسرحية المصرية المعاصرة لكنها سوف تهبنا بالتأكيد مدخل محدد للتعامل مع ظاهرة عميقة و متشعبة تمتد جغرافياً من أسوان جنوباً  إلي الاسكندرية شمالاً .. كما تمتد على المستوي الكمي لتصل – وفقاً لبعض المحاولات الاحصائية - لأكثر من ألف عمل مسرحي مختلف سنوياً.
كذلك فمن الأصعب (وفق ذلك التصور لحجم وعمق الظاهرة) أن نحاول تخطي كل ذلك التنوع للوصول إلي نتائج متسرعة و مجتزئة حول المسرح المصري كإختزال الظاهرة في أسماء بعينها أو تيارات مسرحية (أو إنتاجية).. ففي النهاية يظل رفع سقف الطموحات أفضل من  تلفيق نتائج لتناسب أهواء أو خيارات مسبقة.
من هنا ربما كان من الأفضل أن ننطلق من محاولة الفصل بين - ما نطلق عليه - النظام المسرحي وبين نظام الحكم حيث يمكن الخلط بين الأول و الثاني عند التعرض للعلاقات المعقدة التي تربط بين مؤسسات الدولة الثقافية و التي تمثل أذرع للسلطة السياسية وبين النظام المسرحي الذي تشكل المؤسسات الحكومية جزء من تكوينه و بنيته لكنها تظل مجرد مكون في بنية النظام وليست النظام ذاته .
فالنظام المسرحي في مصر بناء شديد التعقيد والتداخل بين مستوياته المختلفة .. بداية من المؤسسات التعليمية التي تضطلع بمهمة إعداد الكوادر المؤهلة أكاديمياً للعمل في مجال المسرح ، وفي مقابلها المراكز التدريبية الخاصة (و الحكومية) التي تقوم بتأهيل الهواة و تطوير مهارتهم بما يوفر لهم القدرة على الصعود داخل البنية الهرمية للنظام المسرحي ليتحولوا لمحترفين (أو أنصاف محترفين).. أو الانتقال من المسرح إلي السينما و التليفزيون.
وهناك المؤسسات الإنتاجية بمستوياتها المختلفة التي تسيطر عليها الدولة المصرية و التي تتنوع بين مسارح الهواة المدعومة إنتاجياً بالكامل مثل المسرح الجامعي ومسارح الأقاليم وصولاً للفرق الاحترافية التي تكون ما نطلق عليه مسرح الدولة .. وفي مقابل تلك الهيمنة هناك المسارح المدعومة من مؤسسات المجتمع المدني ،أو التي تحصل على تمويلات خارجية ،أو حتى المعبرة عن تيارات دينية ،أو عن قوى سياسية معارضة.
وبالتأكيد فإن ذلك النظام يظل ممتلكاً لمساحات من التنوع و التمايز بين تيارات مسرحية مختلفة ، كما يظل موزعاً بين مسارح معترف بها ويتم تصنيفها كجزء أساسي من الفنون الرفيعة ، وذلك في مقابل مسارح هامشية تتحرك في مجال شديد الضيق ولجمهور نوعي ومحدد .
كذلك فإن البنى الأساسية (دور العرض) تمثل جزاً هاماً من تشكيل الظاهرة المسرحية بتنوعها ومشاكلها سواء أكانت حاضرة أم معطلة أو غير موجودة .. وعلاقة الفرق المسرحية بها .. الخ.
كما يبدو فإن محاولة استكشاف النظام المسرحي في مصر أشبة بمحاولة وصف عالم كامل في مقال واحد.. وبالتالي فإن الأفضل و الأقرب للمعقولية هو التركيز على شبكة العلاقات ذاتها و تأجيل (أو تحاشي) الاقتراب من القضايا الكبرى التي تؤرق المسرح المصري.

 البحث عن مركز
ربما كان الحديث عن افتقاد الجمهور وهجر المتفرجين المفترضين لقاعات المسرح أبرز العناوين التي تشغل النظام المسرحي المصري وتهدده.. فالمتفرج الغائب والمعرض عن المسرح لصالح السينما أو التلفزيون أو حتى شبكة الإنترنت .. هو الشاغل الأهم بالنسبة للمسرحين، وبالتالي فإن الطرق المفترضة لاستعادته تمثل الخيارات المتاحة للنظام لاستعادة توازنه من ناحية ووعيه بمواقع تفسخه و تآكله من ناحية أخرى.
يمكننا أن نحصر رؤى المسرحيين لغياب الجمهور في عدد من الرؤى التي تعبر عن الخطابات المتصارعة على مركز النظام و التي تريد الهيمنة عليه و تهميش غيرها .
أولها: ذلك الخطاب القائل بأن هجران المتفرجين للمسرح نتيجة مباشرة لصعود تيار المسرح التجريبي الذي أنتزع المسرح من أدواره الترفيهية والتربوية نحو الانعزال في أنماط التجريب بشكله الغربي.. وينطلق ذلك الخطاب نحو وضع حلول متنوعة ومتناقضة مثل استعادة نظام النجم أو عبر اللجوء للأعمال الكوميدية الخفيفة.. الخ.
ثانيهما : هو الخطاب الذي يحاول المجادلة بأن المسرح لم يصل لجمهوره الحقيقي وهو الطبقات الفقيرة في المدن و الفلاحين..  وأن هذا الجمهور المفتقد هو العنصر الغائب والأهم الذي يجب على المسرح التوجه إليه و التحدث بلسانه عبر البحث عن العناصر الأدائية و الدرامية والتراثية التي تشكل ثقافة هذا الجمهور سواء أكانت  محلية (والثقافة العربية في مستوي أخر) .
ثالثهم : خطاب يرى أن الجمهور لن ينجذب إلا لما هو جمالي و متسق مع اللحظة الكونية التي نحياها و التي تتداخل فيها الثقافات و الهويات وبالتالي فإن الخصوصية الثقافية يمكن أن تتحقق في ظل استخدام لتقنيات مسرحية أو درامية منتمية لتيارات الحداثة أو مع بعد الحداثة .
بالتأكيد إن تلك الخطابات ليست على هذا القدر من الثبات و الانفصال الذي يبدو هنا.. فهم يتداخلون و يتمازجون و يقومون بنفي بعضهم البعض (عند الحاجة).
لكن لنحاول ولو بشكل مؤقت أن نستكشف العلاقة بين ذلك المركز المقترح (الجمهور) و تلك الخطابات.
إن الملاحظة الأساسية التي يمكن أن نخرج بها هي إن الجمهور ليس هو العنصر الأكثر حضوراً بقدر ما هو جزء من مجادلة أيديولوجية بين تيارات متنافسة تمتد على سلم ممتد بين الأكثر أصولية (مسرح الأخوان المسلمين) و تصل للأكثر تحرراً و تمرداً.
وبالتالي فإن الجمهور ليس هو الهدف بقدر ما هو عنصر مساجلة بين خطابات تتصارع على المستوي الاجتماعي والاقتصادي.. وهو ما يعني أن مركز ذلك النظام ربما يكمن في مكان أخر.. أو لنقل أن القبض على مركز النظام أمراً يحتاج لمزيد من التأمل.
هل يمكن أن نجادل بأن مركز ذلك النظام يكمن في نظم الإنتاج ؟!!
 إن المسرح المصري ربما يكون نموذجاً غير متكرر ..  فالدولة تمارس الإنتاج المسرحي بشكل مباشر عبر وزارة الثقافة.. كما تقوم بتوفير الدعم للنشاط المسرحي بشكل غير مباشر من خلال المسرح الجامعي ومسرح وزارة التربية و التعليم و مسارح وزارة الشباب و الرياضة.. كما تقدم منح إنتاجية مشروطة (وأحياناً غير مشروطة) لفرق من المستقلين وإن كان ذلك لم يزل مثار جدل...
كذلك فإن هناك مانحين دوليين يمارسون الإنتاج المسرحي في مصر من خلال وسطاء كالجمعيات أو المراكز الثقافية ..
وهناك بقايا المسرح التجاري التي تمارس النشاط في حدود ضيقة للغاية .. كما يوجد نظام الفرق المستقلة التي تحاول دعم ذاتها عبر بيع ليالي عرض لمواقع مثل ساقية الصاوي .. أو إعداد عروض مخصصة للمشاركة في مهرجانات دولية أو محلية.. أو العروض المدعومة من المراكز السياسية أو الدينية مثل الكنيسة المصرية أو شعبة النشاط الفني في جماعة الإخوان المسلمين (المطاردة حالياً) أو الأحزاب.. الخ.
كل شيء موجود تقريباً ... لكن لنكون أكثر مصداقية فإن الدعم الذي تقدمه الدولة المصرية للنشاط المسرحي هو القاعدة الحقيقية للظاهرة المسرحية في مصر بعد الانهيار الكبير للمسرح التجاري في التسعينيات.
لنعتمد تلك النتائج الأخيرة التي كشفها لنا تتبع طرق وأنماط الإنتاج ومركزية دور الدولة كداعم للنشاط المسرحي كنشاط تنموي وترفيهي للمواطن في الاقتراب أكثر مما نبحث عنه وهو مركز النظام المسرحي .
إن ذلك الدور الكبير الذي تقوم به الدولة وما يرفقه من أهداف وهو ما يعود بنا للجمهور المفترض من جديد ولكن من أفق مختلف.. فالجمهور هنا لم يعد الجمهور الغائب نتيجة لعدم القدرة على فهم احتياجاته لكنه جمهور مستهدف بالتنمية الثقافية؛ فالمسرح يقدم له كخدمة عامة مدعومة من قبل الدولة كالوقود أو مياه الشرب أو الكهرباء.. وذلك لتحقيق الأدوار التنموية التي ألزمت الدولة نفسها بها، ويمكن أن نجد نفس التوجه لدي المسرح المدعوم من المراكز الثقافية والجمعيات وإن كان بأجندات مختلفة.. بل وحتى المسارح ذات الطبيعة الطائفية تأخذ في بعض نواحيها ذات التوجه وإن كان هدفها الرئيسي هو تدعيم موقف الطائفة و طرح رؤيتها على المسرح كمؤسسة اجتماعية و فنية.
ها نحن نعود للجمهور من جديد ولكن في ظل ثنائية مختلفة تنتزعه من موقعه كمركز وحيد ونهائي و تضعه في مواجهة نظام إنتاجي يحدد بشكل مسبق هوية المتفرج المفترض وطبيعة الدور الذي يقوم به المسرح.. أنه متفرج لا نفترض في المسرح أن يلبي احتياجاته أو أن يعبر عن رؤاه الثقافية أو أن يتحدث بلسانه.. أنه متفرج مستهدف بالتنمية الثقافية سواء عبر طرح المسرح لخطاب مناهض للخطابات المهيمنة أجتماعياً أو العمل على تنمية هويته الثقافية أو تأكيدها أو استبدالها.        
لقد عثرنا على مدخل يمكن أن يوفر لنا نظرة مختلفة للنظام المسرحي في مصر، نظرة للمسرح كعملية تنموية بالأساس و ليس كمنتج جمالي.. وبالتالي فإن العلاقات الحاكمة للنظام المسرحي تقوم بتحديد طبقات النظام وفقاً لمدي اقترابها أو ابتعادها عن التنمية الثقافية كهدف نهائي للمسرح المصري و منطلق له في ذات الوقت.
ولكن يبقي سؤال هام .. هل يمكن الثقة في ذلك المركز وتحليل شبكة علاقات بين المستويات الإنتاجية المختلفة انطلاقاً منه أم أنه يظل مجرد غطاء هش يخفي تناقضات وتفاعلات مستمرة تبقي هذا النظام في حال حركة مستمرة ؟
ربما تكون الإجابة على هذا السؤال كامنة في زمن أخر.. زمن تأسيس ذلك النظام خلال فترة الستينيات التي شهدت تحول كبير وقطيعة مع نظام مسرحي سابق لم يكتب له النجاح (حيث تعرض للانهيار نتيجة للحروب الكبرى و الانهيارات الاقتصادية المفجعة خلال النصف الأول من القرن العشرين) فخلال الستينيات تحول مركز الحركة المسرحية المصرية من الفرق الكبيرة التي تمتلك قدر من الثبات وتعتمد على شباك التذاكر نحو المسرح المدعوم من قبل الدولة الذي يقوم بدور تنموي، ويحاول استعادة المشروع الأصلي للمسرح المصري و العربي في لحظات التأسيس والمتمثل في القيام بأدوار تنموية للمجتمع و نقل التجربة المسرحية الغربية وقيمها كخطوة للاقتراب من المركز الغربي .ولكن تلك العودة للمشروع التأسيسي أتت بأفق يتوافق مع التحولات التاريخية في الستينيات والتي تعالت فيها الأصوات المناهضة للمركزية الغربية التي تطرح نفسها كنموذج لأقصي مراحل تطور التاريخ البشري.
لقد نشأ نظام مسرحي قائم على تناقض أساسي وعميق بين ترسيخ و تأسيس المسرح بشكله الغربي من ناحية و تأصيل الظاهرة المسرحية كعنصر مقاومة لتلك الهيمنة الثقافية والاقتصادية للمركزية الغربية .
فتم تفعيل دراسة الفنون المسرحية وفقاً لمناهج الأداء الأوربية المعتمدة بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تحول إلي فاعل رئيسي في الحركة المسرحية ، وفي المقابل تدخلت الدولة لتنشئ عشرات الفرق المسرحية المتعددة التوجهات (والتي تتنوع بين فرقة مسرح الجيب(الطليعة) التي قامت على تقديم أخر منجزات الحركة المسرحية الغربية كمسرح كنصوص المسارح الطليعية في أوربا و التقنيات المسرحية المرتبطة بها .. وصولاً إلي مسرح الثقافة الجماهيرية الذي يهدف إلي نشر الثقافة المسرحية في الأقاليم المصرية المختلفة وتنمية المظاهر الأدائية الشعبية ودعمها من ناحية أخرى ).
وبالتالي أصبح المسرح المصري يتحرك على مثال الدولة المصرية بين تدعيم مفهوم الخصوصية الثقافية للمجتمع المصري من ناحية، و القيام بدور في تطوير المجتمع وفقاً للنظرة التطورية للتاريخ التي تتخذ من الغرب النموذج و المثال الذي يجب تتبع خطواته من ناحية اخرى.
لقد تم تأسيس نظام مسرحي قائم على علاقات هرمية تحتل قمتها الرؤية المزدوجة التي قامت عليها الدولة المصرية الحديثة لعمليات تنمية المجتمع.. وبالتالي ظلت بقية عناصر النظام تتحرك لتحقيق تلك الرؤية  على قاعدة غير مستقرة نتيجة لازدواجية رؤية الدولة بين أصولية ثقافية تتجه نحو القاعدة العريضة الممتدة في الأقاليم ، وانجذاب للنموذج الغربي في المؤسسة النقدية و التعليمية و المسرحية المحترفة التي تمثل الرؤى النخبوية للطبقة البرجوازية الملتحقة بالغرب.
من ناحية أخرى وحتى لا نكون مجتزئين فلقد تمت عمليات تشكيل للحقل المسرحي من خلال الرقابة القانونية، وترسيخ رؤى الطبقة البرجوازية التي تمثل القاعدة الأساسية لمتلقي الفن المسرحي في مصر ، والخطاب الديني المغلق الذي يعرف المسرح كبدعة غربية محرمة أو مشكوك في أمرها ، ودولة ترعي المسرح بخطاب هجين ، ومنافسة من السينما و التلفزيون حولت المسرح بالتدريج إلي فن نخبوي وهامشي... الخ.

تآكل النظام ونموه
تحولت رهانات نظام الحكم المصري  منذ السبعينيات نحو تعميق خطابه المهجن ، فزاد من ارتباطه التدريجي بالنظام الاقتصادي الغربي ، كما أكد روابطه  بالخطاب المحافظ من ناحية أخرى .. وهو ما أنتج على المستوي الاقتصادي ازدواجية مؤلمة بين تزايد دور الدولة الراعية التي تنوب عن المجتمع من ناحية ، وانفتاح اقتصادي يدفع نحو تقليص دور الدولة في عمليات الرعاية والدعم الاقتصادي والتدخل المباشر في الحياة الاقتصادية للمجتمع.
وبالتالي فلقد زاد تفسخ نظام الحكم نتيجة التناقضات التي دفعت من ناحية لنمو كيانات أصولية تحاول تعويض دور الدولة المنسحبة عبر الأنشطة الخيرية و السياسية و الاقتصادية وتحويل دور العبادة لمركز بديل للدولة المتراجعة عن أداء دورها  (وهو ما تطور سريعاً في صورة نشاط راديكالي عنيف مناهض للدولة الحديثة ولكافة مؤسستها التي خذلت المجتمع وتراجعت عن أداء وعودها بالرعية و تحسين شروط الحياة).
من ناحية أخرى أزداد تورط الدولة في الرعاية و الدعم  كنتيجة لضغط قوى الطبقة المتوسطة و الفقيرة التي رفضت التخلي عن مكتسباتها من الدولة .. وكنتيجة أيضاً لمحاولة نظام الحكم التوازن والاستمرار في ظل ظروف متطرفة بالنسبة له.
وهنا يأتي المسرح كنموذج مثالي على أتساع وتعمق التناقضات .. فخلال الفترة الممتدة من منتصف الثمانينيات و حتى اليوم يمكن رصد مجموعة من المتغيرات الأساسية داخل النظام المسرحي في مصر:-
أولها :هو فتح الدولة المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني (المدعومة غربياً) للدخول كشريك هامشي في تنفيذ الدور التنموي ، وهو ما تلاقي مع تبني بعض المسرحيين لخطاب يدعو لتقليص دور الدولة في الحياة الثقافية وبالتالي إحداث إحلال واستبدال داخل النظام المسرحي عبر نعت التدخل المباشر للدولة في المسرح بالفساد و التبعية للنظام الديكتاتوري والإبقاء على ذات مرجعية النظام المسرحي التنموية لضمان استمرار الدعم المالي. 
 ثاني الظواهر التي يمكن رصدها: هو نمو بدائل للمؤسسة التعليمية الأهم (معهد الفنون المسرحية/التابع لوزارة الثقافة) سواء عبر إنشاء أقسام للمسرح بعدد من الجامعات المصرية من ناحية وعبر الورش التدريبية الدائمة أو المحدودة.. الخ. وهو ما يعكس محاولة الدولة التحرر من دورها في تخليق كوادر الحركة المسرحية عبر التدخل المباشر في العملية التعليمية التي ترتبط بوزارة الثقافة بشكل مباشر ، وهو التدخل الذي ينتج عنه مجموعة من الاستحقاقات مثل إلزام الدولة بتعيين خريجي المعهد في الفرق الاحترافية التابعة للدولة والتي يتم النظر إليها حالياً كعبء ..  كما تبرز تلك الظاهرة توسع الحركة المسرحية وتخلخل هيمنة الدولة (على الفضاء الأدائي والنظام المسرحي) كلاعب أساسي ومحدد لمن يحق له الدخول للنظام ،ومن لا يحق له الانتساب ويتم إلزامه بالبقاء في الهامش.
إما ثالث تلك الظواهر : فهو النمو الكبير في حركة المسرح الإقليمي التابع للدولة و الذي يؤكد زيادة تورط الدولة في الدور التنموي للأقاليم المختلفة وهو ما نتج عنه ارتباط الحركة النقدية بمسرح الأقاليم .
يمكننا في كل ظاهرة من تلك الظواهر أن نرصد عشرات الوقائع الدالة لكنا سنتوقف عند هذا الحد وسنحاول .. تأمل وضعية ذلك النظام الذي حاولنا توصيفه طوال الوقت في ظل تلك المتغيرات المستمرة و التي لم تزل تمزق في النظام حتى لحظة كتابة تلك الكلمات.
لقد وصفنا نظاما مسرحيا قائما على رؤية تنموية للمجتمع.. نظاماً لا يدعم التنافسية الحرة بين فرق مسرحية تحاول جذب الجمهور بأي طريقة كانت بل أسهم في تدمير المسرح التجاري أيضاً...  نظاماً لا يهدف لتنمية المهنة أو تطويرها إلا في إطار تحقيقها لدورها وهدفها المركزي..  لقد وصفنا نظاماً يسعى لتحقيق رؤية تنموية مزدوجة ومتناقضة.. نظاماً يرتبط بالدور التاريخي للدولة المصرية الحديثة الممتدة من عصر محمد على وحتى اليوم (وليس بالنظام السياسي بالمعني الضيق)..
لكن ذلك النظام تآكل مع الوقت وصار يعاني من أزمة حقيقية نتيجة زيادة التناقضات داخله ، مما أدى لتآكل و فساد بعض المؤسسات و للنمو غير المتكافئ لبعضها .. للدرجة التي صار فيها من الممكن أن تحاول أطراف مشاركة وفاعلة التملص من النظام و التعالي عليه.. مثل أعضاء فرق مسرح الدولة الذين ينظرون للجسد الحقيقي للظاهرة المسرحية في مصر على أنهم مجموعة من الهواة الهامشيين.. لأن النظام الأساسي يدعم وجودهم كواجهة للحركة المسرحية وكقاطرة لها ،وعلى طرف النقيض يبرز المستقلين (وهو توصيف يستحق الكثير من التوقف عنده وتأمله بعيداً عن الشعارات المعلنة) ليقوموا بعملية نفي مضاد و استبعاد و قمع لكافة العناصر الفاعلة في تشكيل النظام ، بل ومحاولة احتكار النظام المسرحي ذاته داخل توصيفات فضفاضة ومدمرة ..
إن عمليات الاستبعاد المتبادل بين تلك الأطراف نتيجة مباشرة لتخلل النظام وتآكله وعدم قدرته على تحقيق الغايات المطلوبة أو استيعاب المتغيرات على أرض الواقع التي انتزعت من الدولة الكثير من الصلاحيات و ذوبت مركزية القاهرة لصالح نمو لمراكز مسرحية بديلة كالإسكندرية. 
ومن ناحية أخرى فإن عمليات النفي المتبادل تلك تؤشر على استمرار النظام وقدرته على الحياة بدليل وجود صراع على احتلال مواقع متقدمه داخله.
في دعم لكل ما سبق يمكننا أن نشير إلي أنه لا يوجد في مصر ما يمكن أن نطلق عليه مسرح احترافي (بالمعني الواقعي للكلمة) أو مسرح قادر على تغطية تكاليف إنتاجه على الأقل الظاهرة المسرحية ارتبطت بالتنمية الثقافية للمتفرج.
لنعد الآن من جديد لذلك السؤال الأساسي الذي طرحناه في بداية المقال وهو هل يوجد نظام مسرحي في مصر ؟  أعتقد ان الإجابة ربما تكون بمسألة ما نقصده تحديداً بكلمة نظام التي يمكن لنا الآن أن نعرفها كخطاب تتوزع سلطته بين عدد من السلطات المهيمنة أجتماعياً والتي ترى أن المسرح فن نخبوي يجب توسيع قاعدة مشاهديه لتحقيق التنمية الثقافية لطبقات المجتمع المختلفة وإلحاقها بالنخب الثقافية .. لكن أزمة تلك النخب كما رصدنا هو ازدواجيتها وفشلها وبالتالي فإن النظام (كما أطلق عليه) تعرض للتفسخ و التفتت مع مرور الزمن و زيادة عناصر الفوضى داخله نتيجة النمو غير المتكافئ لبعض القوى و تعطيل اخرى واحتجازها
ويصبح السؤال بالتالي هو كيف نقوم بتخليق نظام جديد قادر على الاستفادة من مميزات النظام المترهل و الفاسد الموجود حالياً.. نظام يستطيع استيعاب ذلك التنوع الموجود من ناحية و يحقق ما هو غائب عنه من ناحية أخرى؟ كيف نحافظ على الجانب التنموي للظاهرة المسرحية الذي تقوم فيه الدولة بدعم المسرح كخدمة عامة (كما كان يدعو فيلار) ويحقق تنمية المسرح كمهنة.  
إننا في زمن مضطرب .. تتعرض فيه كافة الثوابت للخلخلة وإعادة التقييم ... وربما لن ينجو المسرح المصري إذا لم يستطع أن يعيد رسم طريقه من جديد كمهنة و كدور.
  

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...