ربما لم يحظ
عرض - خلال العام المسرحي السابق- بمثل
ذلك الإهتمام و الترحيب النقدي الذي حظي به عرض (المحاكمة) - خلال فترة عرضه
القصيرة - للحد الذي وصل بالكثيرين من النقاد و المسرحيين و المهتمين لإعتباره أحد
أفضل العروض المسرحية التي قدمت خلال ذلك العام ، بالطبع ربما يحوي هذا الرأي على
حكم قيمة يفتقد لمعايير الدقة و الموضوعية في ظل عدم أستطاعتنا الإحاطة بكافة
العروض المسرحية التي أنتجها المسرح المصري - بمختلف أنماطه و ومستوياته
الإنتاجية- خلال العام المنصرم . لكن ذلك الإهتمام ربما يتيح لنا مدخلاً لإستكشاف
الأسباب الفنية التي صعدت بالعرض ليحتل ذلك الموقع المميز وسط الإنتاج المسرحي
للمسرح المصري خلال عام كامل.
لعل أحد أهم مصدر
الإهتمام بالعرض يكمن في ميل العرض الدائم إلي التأكيد على ماهو مسرحي من جانب و
ما هو ملامس لواقع المتفرج من جانب اخر .
فنجد ان على
مستوي (ما هو مسرحي) أهتمام المخرج (طارق الدويري) ومهندس الديكور(محمد جابر) بالخروج
من فضاء المدينة الصغيرة ودار قضائها – وهو العالم الذي يتناوله النص الأصلي – إلي
فضاء عالمهم الخاص الذي لا تشكل فيه المدينة سوى هامش ضيق - وبالتالي لم يتجها صوب تجسيد المشاهد المسرحية المنصوص عليها
في الإرشادة المسرحية والتي تحدد العالم و تغلقه في حدود بعينها بل على العكس فلقد
حاولا التحرر من المدينة و دار القضاء عبر تجريد الفضاء المسرحي ، وكذلك أنتزاع
الملامح الواقعية التي تميز النص من خلال تذويب المساحة الفارقة بين مساحة الأداء
و مساحة التلقي و أستغلال صالة المسرح حتى في أثناء فترة الإستراحة كمساحة أداء
... الخ .
كما يبرز
نزوعهم التحرري من عالم النص في أتجاههم نحو تشكيل الفضاء المسرحي بشكل إيجابي
ومتحرك طوال الوقت من خلال عدة تقنيات في مقدمتها القرص الدوار الذي يغير من زاوية
المنظور - بما يستتبعه ذلك من تحدي
للطبيعة المعمارية لدار العرض (ميامي) التي تفرض زاوية منظور واحدة – و يحطم من أي
أمكانية لتخليق وضع سكوني في العالم المتحرك و المتغير و المتبدل طوال الوقت .
وعلى نفس
المستوي فلقد أهتم المخرج ومهندس الديكور بتخليق مستوي رأسي للمشهد المسرحي من خلال صعود وهبوط الشخصيات للسلم الصاعد الموجود
في خلفية المسرح وعبر تسلقه أو التأرجح عليه ...الخ
وأخيراً عبر
حيادية اللون الأسود الذي أستخدم في تشكيل كافة عناصر الفضاء المسرحي .
إن ذلك الوصف
المبسط لطبيعة عمليات التشكيل البصري التي مال إليها العرض ربما يمكن تفهم طموحها
و نحو تخليق تشكيل متحرك و حيوي من خلال الحركة الدائمة و المستمرة – معضظ أجزاء
العرض – لمجموع الممثلين ، وكذلك الإضاءة التي أعتمد المخرج عليها بشكل كبير في معظم أجزاء العرض لتخيق
مساحة المشهد و الأجواء العامة التي تميزة وكذلك تحديد مجال الرؤية كما في مشهد
المرافعات ... الخ .
لقد أعتمد
المخرج بشكل واضح على كافة تقنيات تشكيل الفضاء المتوافرة تحت يديه لتخليق صورة
مسرحية متحركة و متطورة – بل مبهرة وشاعرية في كثير من الأحيان- أستطاع عبرها تخطي
عالم النص المسرحي (ميراث الريح) المحدود و المغلق على واقعه محاكمة معلم أمريكي
لتدريسه نظرية النشؤ و الإرتقاء البيولوجي الدروينية في إحدي المدن الصغيرة و التي
تحولت لفصل في الصراع بين المحافظين المتدينين و دعاة حرية التفكير أنتهي بأنتصار
المتحررين .
لقد تخطي (طارق
الدويري) ذلك العالم الخاص بالنص المسرحي الإصلي عبر دمج عالم النص في فضاء تشكيلي
حي و ممتزج بعالم المتفرج الحي وبالتالي فلقد تحطمت المساحة الفارقة بين أمريكا
النصف الأول من القرن العشرين و مصر في مطلع القرن الحادي و العشرين بكل ما يمر
بها من مخاض عسير ومتعثر لثورة تتخاطفها قوى الرجعية الدينية و تعرقلها القوى
المحافظة الوطنية التقليدية .
ربما كان ذلك
كافياً بالنسبة للكثيرين لكن العرض كان يمتلك ما يتجاوز ذلك الطموح صوب مستوي أعلى
مرتبط بمحاولة دمج المسرحي بالصورة المسجلة (فوتوغرافية- سينمائية) وبالتالي تخليق
مستوي بصري أخر يدخل في علاقات (نقض – مقارنة – تفاعل – تداخل – مجاورة – تفتيت ..
الخ) مع الصورة المسرحية الحية .. حيث أدي ذلك الأستخدام للصور المسجلة إلي تخليق
مستوي مختلف من المعني ، كما خلق خط حكائي مناقض ومناهض لما يعايشه المتفرج ..
مستوي يحتل فيه (رجل الدين/ حمادة شوشة) موقع السيطرة و الهيمنة على العالم عبر
خطابه و سطوته و حضوره الأسطوري و الطقسي .. وذلك برغم هامشية حضوره داخل المشهد
المسرحي المزدحم و المعقد و كذلك هامشيته داخل سلاسل السلطة التي تتحكم في عالم
العرض.
إن حضور الصور
المسجلة أسهم بشكل كبير في تنمية الفضاء المسرحي و تفعيل المستويات الأفقية و
الرأسية في تشكيل الفضاء المسرحي و بالتأكيد أسهمت تلك الصور في دفع و تنمية
الحالة الديناميكية المميزة للتشكيل الحي للفضاء المسرحي.
وبالتأكيد فإن
ذلك الطموح الكبير الذي ميز العرض – وصانعيه بالتأكيد – لم يتوقف عند مستوي الصورة
المسرحية .. أو لنقل أن هناك تفاعلاً قوي و مستمر بين ما هو مسموع و بين ما هو
بصري تصاعد في أثناء تشكيل العرض و دفع بعناصره المسموعة و البصرية للنمو .
فنجد – وعلى
المستوي الأول – النص المسرحي و قد أصبح ساحة للصراع بين الفصحى و العامية بكل ما
يميزهما من تناقض وأختلاف و توافق ودلالات بداية من الدور الذي قامت به العامية في
تقريب ومزج العالم المسرحي مع عالم المتفرج .. ونهاية بالأدوار التي قامت بها
الفصحى في التأكيد والتدعيم لخطاب العرض .
وإلي جوار ذلك
الحوار الدائم و تبادل المواقع – الهيمنة – بين العامية و الفصحي نجد على مستوي
أخر حوار و وتبادل للمواقع بين شريط الصوت و الصوت الحي .. بداية من الموسيقي
الحية (الأوكورديون) في مقابل الموسيقي المسجلة ، مروراً بالتناقض بين الأصوات
البشرية الحية والأصوات المسجلة (بالتحديد صوت رجل الدين) العميقة و القوية و
المهيمنة بطابعها الصوتي المميز .
وعبر كل تلك
التقابلات و المصادمات و الحوارات التي تجري على مستوي ما هو مسموع – وبين ما هو
مسموع و ما هو مرئي – أو على مستوي ما هو مرئي تتحقق للعرض هدف أساسي و هو الحيوية
و الديناميكة الدائمة التي تخدم في النهاية أطروحات العرض وتقدم لموقفه من واقعه
الذي يلامسه ويتخذ منه موقفاً رديكالياً .
إن ملامسة
الواقع كانت أحد أهم أسباب نجاح العرض لدي متلقيه - كما أشرنا في مقدمة المقال -
فالعرض وعبر كل تلك التقنيات المسرحية التي عرضنا سريعاً لها أو تلك التي لم نتوقف
عندها رغم أهميتها – مثل الأداء التمثيلي الذي يستحق الكثير التوقف عنده لما يمتاز
بهمن تنوع وحيوية – يمتلك في النهاية رغبة ملحة في مصارعة واقع سياسي ملتبس و
أوضاع أجتماعية و أقتصادية و دينية شديدة التأزم .. ولعل ذلك يتضح في الإدانة
المستمرة للقمع و الرجعية التي تمثلها
السلطة الدينية .. أو في نهاية العرض التي تؤشر على أستمرار القمع وألعاب السلطات
المحافظة و الرجعية في صورة ضابط الأمن الذي يهيمن على الفضاء في النهاية .
ربما كان ذلك
الطموح و تلك المقدرة الفنية والتقنية أحد أهم أسباب نجاح العرض على المستوي
النقدي لدي عرضه لكن يظل السبب الأهم و الأكثر قوة هو تمازج كافة تلك العناصر
المسرحية في سبيل تقديم رؤية نقدية للواقع تلامس سيولته و تنغمس فيها دون أن تنجرف
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق