هل
يمتلك شكسبير - الإنجليزي القادم من عصر النهضة الأوربية - و البعيد زمنياً و
مكانياً عن مصر في تلك اللحظات الملتهبة من تاريخنا ما يقدمه أم أن حضوره –أو إعادة
استدعائه للحياة - اليوم عبر عرض (حلم ف ليلة نص
الصيف) - للمخرج أحمد شوقي وفرقة قصر ثقافة التذوق (سيدي جابر) - لن
تبتعد كثيراً عن تلك الصور النمطية التي طالما أرتبط بها شكسبير في مخيلة المتلقي المصري
؟
ربما
تبدو الإجابة على ذلك السؤال بديهية بالنسبة لكثير منا .. فشكسبير هو أحد أيقونات الثقافة
العالمية كما أن نصوصه أكسبت قدر من القداسة والاحترام العميق نتيجة الاهتمام
الأكاديمي بها الذي حولها إلي جزء أصيل في
ما يطلق عليه الثقافة الرفيعة و العميقة ، وبالتالي فإن إعادة استدعائه لا يجب أن
ترتبط بالواقع المعاش انطلاقا من مقولات الفن الخالد والإنساني الصالح لكل زمان
ومكان .
ولكن
هناك أيضاً من يعرف مثل يان كوت مؤلف (شكسبير معاصرنا) أن نصوص شكسبير تمتلك الكثير من مرونة و قابلية
للتشكل و إعادة التكيف مع المتغيرات تاريخية بما جعلها من الخيارات التقليدية
للمخرجين و الممثلين منذ العصر الرومانسي و حتى التجارب ما بعد الحداثية .. إما
للتعبير عن أصالة أفكارهم وموهبتهم أو للتعبير عن غضبهم و رغبتهم في التمرد على
القديم وتحطيمه أو إعادة تشكيله بما يتوافق مع رؤيتهم لعالمهم و تفاعلهم معه...
بالمجمل
فإن شكسبير يبقي معاصراً وحاضراً إما كمقدس أو كصنم يجب تحطيمه .. وبالتالي فإننا نتقبل شكسبير (بأي
حال يطالعنا به) وننتظر منه أن يقدم لنا ما نحن في حاجة إليه وإن لم يفعل فإننا
ندفعه دفعاً ليقوم بذلك الدور.
وبالتالي
فأي من الطريقين أختاره المخرج أحمد شوقي ومجموعة العمل لن تأخذه بعيداً أن يتوافق
مع أفق توقعاتنا من ناحية حول شكسبير كممثل للثقافة الرفيعة والتعبير عن الواقع
الإنساني من ناحية أخرى.
ولكن
ألا يمكن فصل شكسبير للحظة عن كل تلك الشبكة المعقدة التي تشكلت حوله والتساؤل عن
ما يمكن أن يقدمه لنا ذلك الكاتب القادم من القرن السادس عشر لمجتمع مجهد يحاول
تفادي الكارثة بالتظاهر و الرقص و الغناء و الكلام والدم .
إن
ما تقودنا إليه تلك الأسئلة ربما تظهر شكسبير كأثر قديم وجميل مقام في وسط ساحة
حرب .. غريب وشاذ و منفصل ومتعال..
ولكن
في تجربة أحمد شوقي (حلم ف ليلة نص
الصيف) ربما كانت هناك العديد من الرهانات التي تبدو ذات طابع تقني
وجمالي يطمح لتجاوز كل شكسبير ذاته واستغلاله في ذات الحين .. ففي البداية هناك الترجمة
و صياغة الأشعار بالعامية المصرية التي قام بها (عبد الرحيم يوسف) والتي حاولت
انتزاع شكسبير من الفصحى التي ظل مرتبطاً بها نتيجة الترجمات التي كانت تلجأ إلي
الفصحى كخيار وحيد عند تعاملها مع نصوص شكسبير لعدد من الأسباب في مقدمتها
بالتأكيد العلاقة التي تربط بين الما هو أصيل ورفيع و عميق وبين الفصحى التي طالما
رسخت لرؤية العامية كمستقر للبسيط و
السطحي و المبتذل ، كذلك العلاقة علاقة الفحصى والكتابة .. فالفصحى هي لغة الكتابة
و الترجمة المعتمدة والمقبولة بشكل عام فما بالنا ونحن نتعامل مع شكسبير ؟!
إن
تقديم شكسبير بالعامية المصرية ربما يجعلنا إزاء مغامرة شبيهة بتمزيق نصوص شكسبير
أو تمصيرها أو إعادة صياغتها وتأليفها ، فشكسبير العامي غير مألوف أو معتاد بل
ويبدو كأنه خارج وسطه الطبيعي.
وربما
تتأكد تلك المغامرة مع الصياغة الموسيقية (لأحمد حمدي رؤوف)التي جعلت العرض أقرب
ما يكون للأوبريت – إن لم يكن قد صار كذلك بالفعل – وهذا ما يرفع من سقف مخاطرة
العرض .. فشكسبير الذي ظل لعقود وعقود شبه محاصر في الفصحى وأيقاعتها الرصينة أصبحت
كلماته تغني بالعامية المصرية وبألحان شديدة الحيوية تبدو في بعض الأحيان ذات ملامح شرقية واضحة .
إن
شكسبير أحمد شوقي - وكما يبدو - مرح ومصري يغني ويرقص ويحكي قصص الجن و العفاريت
بالعامية المصرية .. ويحاول أن ينتزع نفسه من كل قيد يحاصره و يطبق عليه سواء أكان
أسم هذا القيد الثقافة الرفيعة و الصارمة الملامح أم كان أسمه بؤس الواقع وكآبته
وفشله وذلك عبر عالم نص (حلم ف ليلة نص
الصيف) السحري الذي يحطم الواقع و قوانينه و يعيد صياغتها قبلما
يختفي ببطء وقد ترك بعضاً من سحره على الواقع وجعله أكثر إنسانية واتساقاً
وجمالاً .
ربما
يمكن إيجاد الكثير من السبل التقليدية لاستنطاق شكسبير هنا وجعله يقول ما نرغب في
سماعه عن واقعنا ولكن يبدو أن المخرج ومجموعة العمل كانوا يحاولون إبعاد كل ما
يمكن أن ينغص على العرض سعادته و برأته التي تجعله منفصل عن واقع المتلقي من ناحية
و مقترب من مشاعره وثقافته ولغته من ناحية أخرى.
ولكن
ورغم كل ذلك تأتي عناصر بناء العرض البصرية لتنتزع شكسبير من تلك الأجواء التي
يبدو فيها قريباً و معتاداً وتعيد إلقاءه في مساحات من الغربة عبر خلق مفارقة بين ما هو مسموع وما هو مرئي ..حيث يقوم كل من مهندس
الديكور أسامة الهواري ومصمم الحركة و الرقصات محمد فؤاد بصياغة أجواء مناهضة
لعالم النص الممتلئ بالألوان و بالأشجار و الأزهار والجان والعشاق ، وذلك عبر فضاء
محايد أبيض اللون بلا أية ملامح أو سمات مميزة لتقوم الإضاءة و الموسيقي وأجساد
الممثلين بعملية تلوين و تشكيل المشهد وتنتزع المتلقي من الإندماج مع عالم النص
السحري و تدفعه لتأمل التشكيلات الجمالية التي يتم بنائها و هدمها طوال الوقت .
ولكن
ألا يعيدنا ذلك من جديد ملاحظة إصرار العرض على الخروج من الواقع و الهروب منه
سواء عبر اختيار شكسبير أو عبر انتزاع شكسبير ذاته من شبكة علاقاته أو من خلال
الإطار الموسيقي الذي مثل أحد رهانات العرض الكبيرة أو نهاية بعمليات تشكيل الفضاء
المسرحي.
ربما
كانت تجربة أحمد شوقي مخيبة لأمال من ينتظر من المسرح أن يعبر عن أزمات الواقع و
تناقضاته و صراعاته و دمويته .. وربما أيضاً تكون مخيبة للآمال هواة الكلاسيكيات
وعشاق الثقافة الرفيعة التي تبقي.. لكنها تبقي ورغم ذلك ممتعة و بسيطة و صادقة لا
تحاول استخدام شكسبير لتتخفي خلفه أو أن تستنطقه بما ترغب في قوله .. بل وعلى
العكس تبقي مؤكدة على بساطتها و وتأكيد رهاناتها الفنية في أنتاج مسرح موسيقي
وتجاهل الواقع والبحث عن الأمل والمتعة
كشكل من الهروب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق