الاثنين، يناير 20، 2014

رئيس جمهورية نفسه .. لم يزل هناك شيء أسمه الدخان عالق في مسرح الدولة

* نشر هذا المقال في جريدة مسرحنا تحت عنوان مختلف (رئيس جمهورية نفسه .. الرهان على قدرة مسرح الدولة في جذب جمهور السينما التجارية)

في نهاية عام 1962 قدم المسرح القومي عرض (الدخان) - لمؤلف جديد أسمه  ميخائيل رومان-  من أخراج (كمال يس) وكانت دعاية العرض المنشورة بالجرائد تقوم بتعريفه و الترويج له  كدراما شعبية مصرية.
وكمعظم أعمال ميخائيل رومان تعرض العرض لموجات من ردود الفعل  تنوعت بين الترحيب الفاتر من قبل د.محمد مندور وصولاً للهجوم القاسي و العنيف من قبل د. لويس عوض الذي ترفع عن أن يهب العرض مقالاً منفصلاً و أكتفي ببضعة سطور (في بداية مقال بيت العوانس بجريدة الأهرام) تنفي عن النص صفة المسرحية  حيث وصف نص رومان بأنه (شيء اسمه الدخان)وأنه أردأ نص مسرحي ظهر على خشبة المسرح القومي منذ سنوات ، ثم تعالت نبرته ليصل لوصف المسرحية  بأنها دراما إذاعية رديئة أخطأت طريقها إلي خشبة المسرح القومي
وبين موقف د. مندور و موقف د. لويس عوض تنوعت مواقف الحركة النقدية من النص والعرض ليظل تحليل الدكتور على الراعي هو أكثر المحاولات جدية لكونه أنطلق من بحثه من التقنيات الميلودرامية التي يحتويها النص و التي تلاقت مع الرؤية الوجودية للكاتب لتخلق وضعية عدمية وعبثية حيث تصبح الثورة هي المطلب الدائم و المستحيل في ذات الوقت.
واليوم وبعد ما يزيد على الخمسون عاماً منذ العرض الأول لمسرحية الدخان في بداية الستينيات يأتي عرض (رئيس جمهورية نفسه) للمخرج (سامح بسيوني) لفتح الباب من جديد أمام ذات الأسئلة التي كانت مثارة في تلك اللحظة التي صاحبت العرض الأول للمسرحية ..
فمنذ البداية تبرز إلي العيان محاولة البيت الفني للمسرح (فرقة المسرح الحديث) العودة لذات المدخل الذي اعتمدته إدارة المسرح القومي (1962) في التعامل مع النص ولكن بصيغ بداية الألفية .. حيث اختفت جملة (دراما شعبية مصرية) التي كانت تتصدر دعاية العرض ليحل محلها صورة نجم سينمائي (محمد رمضان) يمتلك شعبية جماهيرية واسعة ليقوم بذات الدور الذي كانت تقوم به تلك الجملة الدعائية وهو جذب الجمهور للمسرح بأفق توقع قائم على التعامل مع العرض كجزء من تيار فنون الثقافة الجماهيرية التي تجد تمثيلها الأبرز في السينما و المسلسلات التلفزيونية أو الإذاعية .. بكل ما يطرحه ذلك من خلافات حول دور مسرح الدولة وعلاقته بالجمهور وهل يتقدم الدور التنموي و التنويري أم النجاح الجماهيري ؟!
من ناحية أخرى فإن نص الدخان (وبعيداً عن الدور الذي قام به النقد المسرحي في تحويله لأحد كلاسيكيات المسرح المصري المعاصر) يبدو نصاً مغرياً بالتناول السطحي فهو يستخدم موضوع تقليدي في الدراما المصرية و هو موضوع إدمان المخدرات و الانهيار الجسدي والطبقي الذي يصاحبه ، وكذلك هناك الكثير من المواقف الدرامية و الميلودرامية و الإنفجارات العاطفية التي تتكدس في كل زاوية من النص .. بالإضافة لعشرات المواقف الكوميدية التي يمكن أن تتفجر نتيجة لتقنية بناء الحوار التي تخلق قدراً من اللبس و التناقض بين الشخصيات ..
كذلك فإن النص يتحول لفخ قاتل لأي محاولة للتعامل السطحي معه فهو ينجرف دائماً للتشكيك في موضوعه (إدمان المخدرات) فحمدي ليس النموذج التقليدي لمدمن المخدرات (الشاب الذي يقوده سلوكه المستهتر أو علاقته بأصدقاء السوء للوقوع في فخ الإدمان) بل أنه على العكس شخص يذهب بمحض أرادته للمخدر كخيار للموت.وبالتالي يصبح من الطبيعي أن نجد حمدي يصرح في متن النص أن المخدرات لا تصل بأي شخص يتناولها لما أوصلته
لعل تلك الأزمة الأساسية هى المشكلة التي وقع فيها عرض (رئيس جمهورية نفسه) الذي أختار أن ينطلق من نص أشكالي و قلق .. يتسرب طوال الوقت في الحكايات التي ترويها الشخصيات نحو توسعه ذاته وتخليق روابط شديدة التعقيد بين ما نراه على خشبة المسرح وبين تلك الحكايات التي تمتد صوب الماضي و تخلق ثقلاً للعالم المرئي الذي يبدو شديد الهشاشة و التفكك .. لقد قام المخرج (سامح بسيوني) بعملية اختزال للنص وإعادة صياغة له أدت لنزع الكثير من التفاصيل البنائية وخلخلة ما هو هش و متآكل في الأصل ثم إضافة ما يزيد من تخلخل النص.
وربما يبدو أثر عمليات الحذف والإضافة واضحاً في ذلك القلق الزمني الناتج عن تداخل إضافات بطل العرض (محمد رمضان) للنص الذي حافظ المخرج على الفترة الزمنية التي يعالجها عبر صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر و عبر ملابس (بعض الشخصيات مثل شخصية فتحي/ هشام عطوة) .. مما ساهم في مزيد من التآكل في عمليات أنتاج المعني.
ومن خلال ذلك التدخل في بناء النص يمكننا أن نكتشف الكثير من المشكلات البنائية في العرض ولكن وبرغم كل ذلك فإن العرض لا يدعي فوق ما يقدم وتلك ميزة تحتسب له (إن كان يمكن التعامل معها كميزة) حيث حافظ (المخرج / المعد) على الحد الأدنى من التماسك الدرامي ولكن تلك المحافظة على الهيكل الحكائي للنص حافظ على أكثر عناصر القلق داخل النص وهي الطبيعة الميلودرامية .
وبالتأكيد فإن تلك العناصر المتعلقة بالنص يمكننا أن ننظر لها كعناصر مؤثرة في تشكيل العرض المسرحي.. حيث أعتمد العرض مجموعة من التقنيات التي تبرز العناصر الميلودرامية مثل الأداء المأساوي المغرق في الدموع و الصرخات والذي دعمه المخرج بدفع الممثلين إلي التقدم صوب مقدمة خشبة المسرح ومواجهة الجمهور أثناء إلقاءهم للمونولوجات للتأكيد على طبيعة الشخصية ..
أما ابرز عناصر العرض المسرحي فهي هيمنة نظام النجم على العرض بداية من الافتتاحية التي تقدم للصراع بين شركات الإنتاج السينمائي والمسرح الجاد على النجم (محمد رمضان) وقراره الدفاع عن المسرح ودوره كشكل فني (ممتع) كالسينما وعرض للقضية الأساسية التي يتعرض لها العرض .. وكذلك ما يمكن أن نلمحه على طول العرض من سمات هيمنة النجم وسيطرته على الفضاء و احتلاله الدائم لمقدمة خشبة المسرح ومحاولته إثارة ضحكات الجمهور ولو عبر الخروج على النص أو مناقضة طبيعة الشخصية أو حتى عبر مناهضة الإيقاع العام للعرض.
في النهاية ربما يبدو أن الأزمات التي خلقها التعامل التبسيطي مع نص الدخان وعدم الانتباه لمشاكله و معالجتها قد قادت (عرض رئيس جمهورية نفسه) إلي ذات المصير الذي عاني منه العرض الأول للمسرحية في (1962) ،وإن كان في ذلك التحليل الكثير من الإجحاف لنص مسرحية الدخان (الذي يعتبر من أهم نصوص المسرح المصري) وكذلك لعرض الدخان (1962) الذي حافظ على الأقل -كما رصد النقاد - على تميز الأداء التمثيلي والتماسك ،  عند مقارنتهما مع عرض (رئيس جمهورية نفسه) .
هناك داخل المؤسسة من يراهن على قدرة مسرح الدولة على تحقيق النجاح الجماهيري وجذب جمهور السينما التجارية إلي المسرح والحفاظ على وقار مسرح الدولة و نوعية الأفكار التي يقدمها وهو رهان لم يتحقق إلا في حالات نادرة وتحت ظروف شديدة التعقيد .

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...