الأحد، ديسمبر 29، 2013

قلعة الموت.. كتابة جديدة لحكاية قديمة

* هذه المقدمة مكتوبة خصيصاً لنص مسرحية (قلعة الموت) للكاتب عبد القادر إبراهيم و الذي نشر ضمن سلسلة نصوص مسرحية (عدد 139) الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة .. وقد صدر الكتاب في شهر ديسمبر 2013

التاريخ.. تلك السردية الكبيرة التي تتسع يوماً بعد يوم وتضيف في كل لحظة سطوراً جديدة إلي صفحاتها لتوسع من حدود الخبرة البشرية وتعمق الإدراك بإمكانيات العقل الإنساني و حدود قدرته و مجالات قوته و ضعفه.. بهدف تجنيب الجنس البشري السقوط في عبثية تكرار تجاربه السلبية.. كالاستسلام لقوي الرجعية، والعنصرية العرقية، أو حتى التطرف الديني الذي يحول الدين من طريق لتخليص الروح لمبرر لممارسة القمع والعنف.
من هنا تأتي قيمة تلك السرديات التاريخية الكبري التي لم يمل الوعي من  تذكرها والعودة إليها مرة تلو المرة - لتنشيط الذاكرة المتآكلة – حتى لا يتم نسيان تلك التجارب الدالة و العنيفة في تاريخ الجنس البشري .. فالنازية و الحروب الصليبية و جحافل التتار والفايكنج و العبودية و التطهير العرقي .. الخ من تلك التجارب العنيفة ستظل هي ناقوس الخطر المعلق فوق رأس البشر لتذكيرهم بتلك اللحظات القاسية التي تراجعت فيها البشرية وانحطت لمرتبة متدنية.
 من هنا تأتي أهمية عودة نص (قلعة الموت) - للكاتب عبد القادر إبراهيم - من جديد إلي وقائع تاريخية لطالما أثارت مخيلة الأدباء .. بداية من الكتاب العالمين أمثال بورخيس وفلاديمير بارتول وأمين معلوف ونهاية بكتابنا المسرحيين المعاصرين - مثل أبو العلا السلاموني و إبراهيم الحسيني -  فتلك المرحلة التاريخية الثرية بأحداثها وشخصياتها تمثل مرحلة شديدة الثراء ، والدلالة ، والتأثير في التاريخ الإسلامي حيث قام خلالها "حسن الصباح" (1050 م – 1124م) بتأسيس جماعته الدينية المتشددة والمحاطة بطبيعة طقسية عنيفة والتي مثلت تحولاً تاريخياً في تاريخ العمل السياسي السري عبر تبنيها لنموذج جديد من العنف السياسي المنطلق من قاعدة دينية ، كما عاصرها كل من العالم والشاعر الكبير "عمر الخيام" (1048م- 1131م) ، والوزير القوي ورجل الدولة "نظام الملك" (1092 -1018)الذي كان أحد أهم المناوئين السياسيين لجماعة الصباح  ، مما يجعل من تلك المرحلة التاريخية مادة ثرية لأي مبدع معاصر يريد مناقشة العلاقات المعقدة والمركبة التي تربط بين المثقف كمدافع عن الديمقراطية والحرية ورجل الدولة كنموذج لجهامة وقسوة النظام واحتكار السلطة .. وأخيراً المتطرف كشخص يبرر لنفسه ممارسه العنف لتحقيق أفكاره .
بالتأكيد فإن تلك القوي  كانت - ولم تزل- حاضرة في واقعنا فالسلطات القمعية حاضرة في الدول الشمولية و الديكتاتوريات العسكرية وفي مقابلها تقف جماعات العنف الدينية و السياسية التي تبرر القتل و العنف لتحقيق أفكارها ، وبين هذه وتلك تقف جماعة أكثر ضعفاً نتيجة عدم امتلاكها للسلطة لتقوم بمعارضة و مناهضة كلا الخيارين في مقابل نموذج لعالم خالي من التطرف و العنف والتسلط و القمع ، وبالتالي فإن تلك الجماعة المثقفة تكون هدفاً سهلاً للقمع و التهميش إذا ما أصرت على موقفها من الطرفين ، كما تكون وسيلة للتزييف والتضليل إذا ما نجح أي من اطراف الصراع شرائها أو تجنيدها لصالح غايته.
من هنا فإن نص (قلعة الموت) يحاول إعادة صياغة تلك العلاقة الثلاثية التي تجمع بين رجل السلطة،والمتطرف،والمثقف لتنشيط ذاكرة مجتمعنا في تلك اللحظة الفارقة من تاريخه الذي برزت فيها إلي السطح من جديد تلك القوي المتنازعة على المستقبل بذات ترتيبها القديم ، من المؤكد بالطبع أن الواقع قد أختلف ولم تعد المعادلة بذات الحدود التي كانت عليها في عصر الخيام لكن قدرة الحكاية التاريخية على التماثل مع الواقع من ناحية ، ومن ناحية أخري التشابه بين جماعة الصباح الدينية و الجماعات الدينية المتطرفة التي لجاءت للعنف منذ منتصف السبعينيات في مصر قبلما يمتد مجال نشاطها ليصل لذروته خلال العقد الأول من الألفية الجديدة لتتحول لفاعل مؤثر عالمياً.
كل ذلك قدم للكاتب نموذجاً استعارياً للواقع يوفر له تفسير الواقع و تحليله عبر تفعيل تلك العلاقات المعقدة و المتشابكة التي تربط بين واقعنا و الحكاية التاريخية الشهيرة التي تحل موقع مهم في ذاكرة العقل البشري.
ولعل تلك القدرة على تمثيل الواقع هي ما تفسر عودة الكثير من المبدعين (ومنهم الكاتب عبد القادر إبراهيم بالطبع) للتركيز على تلك الفترة التاريخية المظلمة عبر إعادة تسليط الضوء على الطائفة النزارية (المعروفة تاريخياً باسم طائفة الحشاشين) والعصر الذي نمت فيه وبرزت تاريخاً ، وكذا الشخصيات التي أحاطت تاريخياًُ وجغرافياً بقلعة (آلموت) التي أتخذها (حسن الصباح) مركزاً لطائفته الدينية ودولته ومنطلقاً لعمليات الاغتيالات التي نفذتها الطائفة .
فبداية من قصة بورخيس "لغز إدورد فتزجرلد" التي تتناول العلاقة بين إدوارد فتزجرلد المترجم الإنجليزي الذي قام بترجمة رباعيات الخيام ، وشخصية الخيام عبر المرور على حياة عمر الخيام (العالم والفيلسوف والشاعر) والإشارة إلي علاقة صداقة قد ربطته بكل من نظام الملك وزير دولة السلاجقة السنية وحسن الصباح الداعية المتطرف إلي المذهب الإسماعيلي والذي أستخدم الإرهاب و الاغتيالات لفرض أفكاره و بسط نفوذه السياسي .
مروراً بأمين معلوف وقصه مخطوط الرباعيات الذي يتركه الخيام في (قلعة آلموت) وإن كانت الرواية تتعرض للعلاقة بين الخيام والصباح ونظام الملك ولكن في إطار حبكة أخرى .
وأخيراً وليس أخراً الكاتب (إبراهيم عبد القادر) الذي نقدم هنا لنصه (قلعة الموت).. والذي ينطلق نصه المسرحي  من ذات الفرضية التي طالما أعتمد عليها المبدعين الذين تعاملوا إبداعياً مع تلك الواقعة التاريخية وهي وجود علاقة صداقة قديمة كانت تربط بين الأبطال الأساسين، لكن الكاتب هنا يحاول بناء العالم الدرامي عبر دمج مدينة نيسابور وقلعة الموت في مكان واحد (برغم بعد المسافة التي تفصل بينهم واقعياً) ، وعبر وإعادة بناء العلاقات و زراعة مستويات وشخصيات جديدة ومبتكرة إلي الحكاية التاريخية لتحقيق بنية جديدة يمكنها أن تحقق أكبر قدر من التعبير عن الأزمات التي المعاصرة للمجتمع الذي أنتج فيه وله نص (قلعة الموت).
وكمثل على تلك الإضافات التي قام بها الكاتب يمكننا العودة إلي علاقة الحب التي تجمع بين (فارس/تلميذ الخيام) و (زهراء/ ابنة الخيام) ، حيث تمثل تلك العلاقة نموذجاً مثالياً على التعامل الإبداعي مع المادة التاريخية وتخليق خطوط درامية تستكمل النواقص والمسكوت عنه في النص التاريخي الذي لا يأبه سوي بالوحدات الكبري والمواقف الفارقة .
 فمن ناحية أولي يستخدم الكاتب ذلك الخط الدرامي لإثراء العالم الدرامي وإضفاء أبعاد إنسانية تخفف من ثقل الخطاب الذي يمكن أن يسود العالم الدرامي في حال اكتفاء النص بالتركيز على العلاقة الثلاثية (الصباح/الخيام/نظام الملك) التي تتحرك على مستوي الصراع العقائدي والأيديولوجي معظم الوقت .. وهو ما يتم التأكيد عليه عبر إضافة عنصر ثالث لعلاقة الحب تلك.. وهو شخصية (على الصباح) الذي ينافس (فارس) في حبه (لزهراء)...
من الناحية ثانية فإن علاقة الحب تلك تكتسب أهمية درامية إضافية عبر الدور الإستعاري الذي تقوم به لقصة الحب القديمة التي كانت تجمع بين الخيام وسعاد أم أبنته الزهراء ومنافسة كل من حسن الصباح ونظام الملك له في حبها. وبالتالي فإن تلك العلاقة تقوم باختزال العالم الدرامي و تكثيفه وتحقيق بديل درامي قوي لتقنيات ربما تؤدي لتعطيل العالم الدرامي مثل (الفلاش باك).
وأخيراً فإن تلك العلاقة تدعم الخطاب الذي يحمله النص وتؤكد عليه ، كما تدعم بناء الشخصيات و تكشف عن مواقفها من بعضها البعض و من العالم .
وعلى ذات المستوي يمكننا أن نقف عند مشاهد السوق وشخصياته التي ترسم الخلفية التاريخية و الاقتصادية والاجتماعية التي تدور فوقها ومن خلالها أحداث النص.
إن تلك الامثلة التي اشرنا إليها تمثل المنهج الذي أختاره الكاتب في التعامل مع الوقائع التاريخية والجغرافية ، فالكاتب أقتفي أثر كل المبدعين الذين سبقوه في التعامل مع تلك السردية التاريخية الشهيرة ، فأعاد صياغتها و تشكيلها و تطويعها لتلائم موقفه و رؤيته للعالم ولم يتبع الطريقة التقليدية التي يعتمدها القليل من الكتاب في التعامل مع التاريخ والتي تقوم على تقديس الواقعة التاريخية و عدم العبث بها أو تبديلها و تعديلها .. والاكتفاء بإضافة مجموعة من الرتوش الدرامية و التركيز على ما هو أنساني وغير مؤكد عليه في النص التاريخي.
من هنا يكتسب النص الذي نقدم له هنا قيمته .. فنحن أمام نص يتعامل مع التاريخ بأفق أبداعي لا يحاصر ذاته في زاوية مغلقة أو يحيط نفسه بقواعد مقيدة في التعامل مع مادته.. بل يحاول الانطلاق نحو تخليق فضائه الخاص بكل ما يحمل ذلك من مغامرة و مخاطرة بعدم القدرة على تحقيق الاستغلال الأمثل للخبرة التاريخية التي يقدمها النص التاريخي ، أو الوقوع في فخ المباشرة.
بالمجمل فإن نص (قلعة الموت) بالطريق الذي أتخذه لنفسه وضع نفسه عرضه للمقارنة والتقييم في ظل النصوص التي سبق لها أن اعتمدت تلك القصة التاريخية .. ولكن ورغم قسوة تلك المقارنة و عدم عدالتها فإنها يمكن أن تؤشر لنا على وجود رغبة قوية في تحقيق عمل فني رغم كل ما يحيط ذلك من مخاطر.

     


ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...