الثلاثاء، نوفمبر 05، 2013

محاولات للتعرف على الجحيم في لا مفر


ربما كان محاولة  سارتر في الوجود و العدم هي أخر المحاولات الكبري للتفاؤل التاريخي بالإنسان والإيمان به .. ولعل ذلك ما جعل من الممكن أن تحظي تلك الرؤية الفلسفية و طبعاتها الشعبية و الأدبية و الأيديولوجية بذلك القبول الجماهيري في فترة التي تعد من أحلك فترات التاريخ البشري (زمن الحرب العالمية الثانية ) ومن ثم أربعينيات القرن العشرين.
فوجودية سارتر كانت القشة التي تعلق بها  العقل الأوربي في لحظة انهيار كل ما أطلق عليه (جان بودريار) : زمن انهيار الحكايات الكبري و الأيديولوجيات الكبري...  وهو الانهيار الذي صاحب تلك الأوقات الصعبة التي تخلت فيها أوربا عن كل قيمها و صورها الكبرى عن ذاتها و موقعها من العالم وتحولت الحضارة عن غايتها لتلتهم ذاتها .. وهو ما أستمر في ما بعد في عدة صور منها الحرب الباردة و التهديد النووي الدائم بإفناء العالم و حركات التحرر الوطني التي صعدت معها نظريات ما بعد الاستعمار و التعدد الثقافي و خطاب المهمشين والأقليات .. وفي خضم كل ذلك التيارات الفلسفية والنقدية التي وصلت في مداها الأكبر إلي اعلان فوكو موت الإنسان/ المؤلف.
لقد كانت الوجودية أخر النزعات المتفائلة بإمكانية الإنسان صناعة عالمه الفردي في معزل عن الخطابات التي تتنازع و تتقاطع و تقسم و تشكل جسده و هويته.
من هنا ربما تبدو إعادة الحياة إلي نص مسرحي مثل (لا مفر) لجان بول سارتر فرصة ذهبية لإعادة استكشاف ذلك الاحتضار الأخير  للإنسان كخالق لعالمه والتي صاحبت النهاية عالم الحداثة ... فإعادة أحياء ذلك النص الذي يعد من كلاسيكيات التيار الوجودي تنتزعه من عالمه وزمنه و أرفف المكتبة لتضعه في خضم عالم مختلف وعلاقات مختلفة و أفاق جديدة يمكننا أن نكتشف من خلالها أثر ذلك الصدام العنيف بين خطاب قادم من أربعينيات القرن العشرين (التي تبدو الآن موغلة في القدم) وبين لحظتنا الراهنة بكل ما فيها من سيولة و تشابك وتناقضات و تقلص للعالم الذي نعرفه واعتدناه لصالح عالم جديد .. وبالتالي يصبح التساؤل حول قدرة النص على عبور تلك الفجوة الزمنية التي تفصل بين زمن ومكان ولغة إنتاجه (فرنسا /1944) وزمن ومكان ولغات عرضه (القاهرة / 2013) ؟ وهل تمكن العرض من إعادة الروح – لو جاز التعبير- لذلك النص أم أنه أعاد تصنيعه من جديد  لتلائم مع واقع مختلف ؟ ... الخ
ربما تكون محاولة الإجابة أيسر لو أننا انطلقنا من محاولة الإجابة على السؤال الأخير والمتعلق بكيفية تعامل المخرج عمر المعتز بالله مع النص... و لعل الانطلاق من المعطيات التي يقدمها العرض يمكن أن يصل بنا إلي تلك الإجابة التي نبحث عنها.
ولتكن البداية من التناول البصري للنص الذي يقدم فضاء الدرامي يتمثل " غرفة جلوس على الطراز الإمبراطوري الثاني " بكل ما يحمل ذلك من إشارات لواقع الطبقة البرجوازية في فرنسا قرب منتصف القرن العشرين وما يترتب على ذلك من تصور لطبيعة العالم وطبيعة العلاقات الرابطة بين الشخصيات ومفهوم الجحيم السارتري ..    
لقد قام الدراماتورجية (عمر المعتز بالله و سارة خليل) بتصفية ذلك التصور الذي كان يقوم عليه بناء الفضاء في نص سارتر لصالح تصور مختلف للجحيم يقترب وإلي حد كبير من التصورات الميتافيزيقية للجحيم فيتحول الفضاء من غرفة جلوس إلي فضاء فارغ ومكشوف يتوسطه قفص حديدي يتحرك على عجلات و تشكل ملامحه حركة الشخصيات في ذلك القفص بالإضافة للحركة الدائمة لما يمكن أن نطلق علية أشباح الجحيم (الأفقيه حول القفص أو الحركة العمودية التي توسع من الفضاء الدرامي عبر التشكيلات الجسدية التي يقوم بها المؤديان صعوداً و هبوطاً في مؤخرة المسرح).
إن ذلك التشكيل الدائم و المتحرك للفضاء المسرحي و الذي يتسع في لحظة خاطفة ليشمل صالة المتفرجين عندما يتوجه الخادم للصالة لسؤال المتفرجين عن رأيهم في شخصية (جارسان) وتقيمهم الأخلاقي لحياتها التي تسردها ينقل العالم المنضبط والتحليلي لفضاء (لا مفر) إلي مساحة جديدة تحمل معها العرض لعالم مختلف بل ومناقض لعالم سارتر ذاته .. فعلى خشبة المسرح خليط وتنازع بين خطابات مختلفة بداية بالأصوات التي تسمع في بداية العرض الممثلة لأصوات قادمة عبر أجهزة إرسال مشابه لتلك الموجودة بالطائرات و التي تشير لعملية انتقال لمكان مختلف.. مروراً بالتصور التجريدي للفضاء المسرحي الذي تتقاطع معه تلك التصورات العجائبية للشخصيات التي تحول خادم نص سارتر إلي لحارس الجحيم الذي يوقظ ذاكرة المتفرج و يعود به إلي التصورات التقليدية التي تقدمها سينما الرعب الأمريكية بكل ما فيها من (سلباً وإيجاباً) .. وكذا ملابس الشخصيات (ملابس السجن البرتقالية اللون و التي تنقل المتفرج لعالم السجن) .. وأخيراً ذلك الحضور شبه الدائم لبث مباشر لما يحدث داخل القفص على الحائط الخلفي للمسرح.. بما يعود بنا لترابط المراقبة و المعاقبة الدائمة لمساجين خاضعين للفحص والضبط الدائم عبر عين الكترونية متيقظة ترى من زوايا لا يمكن للمتفرج(الذي تحول لمشارك وربما لمُراقبِ ومراقبَ للحظات عابرة)... أو جحيم عالم المراقبة الدائمة الذي وصف فوكو ملامح تشكله و الذي تحول لجزء من العالم الافتراضي الذي يتمدد كل يوم ليلتهم ما نطلق عليه الواقع.
إن ذلك الخليط غير المتجانس (السجن/ الجحيم / المنفي/ سينما الرعب/الطائرات/ الفضاء المسرحي العاري .. الخ) يتضافر ليضع المتفرج في مقابل فضاء مناقض (إن لم يكن مناهض) لعالم سارتر و الأفكار التي يطرحها .. فحتى لو صرخ الممثل عالياً وبشكل مسرحي مبالغ فيه (الآخرون هم الجحيم) فلم يعد هناك جحيم سارتر .. حتى أن الجملة تبدو فجة و مضحكة لمن يعرف مصادر تشكيلها... كل ما يوجد هو تصور ما بعد حداثي للجحيم تتجاور فيه صور الجحيم الشعبية و الدينية (التي يتم عرضها لمناهضتها نفيها) .
ربما تبدو إجابة السؤال الذي نحن بصدد محاولة الإجابة عليه قد اتضحت معالمها (حتى لو بشكل تأويلي) لقد تم نفي وتقليص نص (لا مفر) التاريخي لصالح نص جديد و مختلف تحت أسم ذات الاسم..
وربما تقودنا تلك الإجابة إلي إجابات للأسئلة الأخرى التي طرحنها.. فالنص الفرنسي الذي أنتج في زمن الحرب وقدم لجمهور فرنسي /برجوازي وحل بدلاً منه عرض قائم على تداخل بين (العامية المصرية/ الفرنسية/الانجليزية) ولجمهور قاهري وبرجوازي يتقاطع مع العرض في لحظة زمنية مختلفة وإن لم تكن أقل ثقلاً وصعوبة محلياً و عالم متقلص تسوده رؤى كوكبية عابرة للثقافات واللغات .
أخيراً ربما يبدو العرض أكثر طموحاً لتحقيق رؤاه عن طريق تخليق جماليات بصرية تنطلق من رهانات بتحقيق الإبهار للحد الذي جعل المخرج يهمل الأداء التمثيلي الذي بدا أن كل ممثل حاول العمل بشكل منفرد عليه للدرجة التي يبدو فيها أن هناك مساحات شاسعة بين اساليب الأداء 

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...