تظل
العودة لنصوص مسرح شكسبير هاجساً مؤرقاً للمسرحين حول العالم .. فشكسبير تخطي
لأسباب مختلفة إحداثيات زمن وكان إنتاجه لنصوصه المسرحية ليتحول إلي أيقونة لما
نطلق عليه المسرح الجاد (بكل ما تحمله ذلك التعبير من معان ايجابية وسلبية) ..
فذلك الرجل الإليزابيثي استطاعت نصوصه وشخصياته عبور رؤيته الكلاسيكية للعالم
لتتحول لوسيلة لقراءة الكائن البشري وفق الرؤية المركزية الغربية في بعض الأحيان ،
أو مناهضة تلك الرؤية المركزية في أحيان أخرى بأسم الحداثة أو ما بعد الكولونيالية
.. الخ .
ولذلك
فإن عرض جديد لنص من نصوص شكسبير لم يعد منذ زمن طويل حدثاً يجب التوقف عنده و
التساؤل حول التقاطعات التي يخلقها ذلك اللقاء الاستثنائي بين نص منتمي للقرن
السادس عشر و لحظتنا الراهنة بكل تعقيداتها و تناقضاتها مع تلك اللحظة التي أنتج
بها النص. فمسرح شكسبير أصبح يقدم كأيقونة للرقي و الثقافة و الثراء الفكري و
الإبداعي بمعزل عن تقاطعات العرض مع واقع المتفرج .
وبالتالي
فإن محاولة استكشاف تلك العلاقات الثلاثية الرابطة بين الملك ماكبث الأسكتلدني (الذي
عاش في القرن الحادي عشر وأستطاع السيطرة على عرش اسكتلندا لمدة أربعة عشر عاماً
قبلما يقتل في معركة لمفنن Lumphanan على يد مالكوم كنمور) ..
وبين نص مسرحية ماكبث (التي كتبت على الأرجح في عام 1606)
لتتقاطع
مع رؤية وزمن شكسبير .. وأخيراً عرض الليلة ماكبث (الذي قدمه المخرج تامر كرم على
خشبة مسرح الهناجر في الربع الأخير من عام 2013)... أي محاولة لتكشف تلك العلاقات
و الترابط الذي جعل من الممكن أن تتلاقي تلك اللحظات الزمنية المتباعدة بين
اسكتلندا القرن الحادي عشر وانجلترا القرن السادس عشر و مصر القرن الواحد و
العشرين لن تنتج في النهاية إلا مزيج شديد التعقيد و التراكيب للدرجة التي تبدو
معها تلك الروابط في بعض الأحيان اعتباطية و غير مؤسسة بشكل قصدي .
لذلك
فسوف نتراجع بعض الخطوات في طموحنا و نتوقف عن الأزمة الأساسية التي جمعت بين
شخصية ماكبث في تلك اللحظات الزمنية المتباعدة وهي أزمة (التي أختار العرض التوقف
عندها) شخصية تمتلك طموح غير محدود في مواجهة واقع شديد التعقيد يحول كل خطوة في
نجاحها إلي خطوة أضافية نحو قمعها و إفشالها ..
ولعل
ذلك يمكن أن نلمحه بوضوح في العرض تحليل عمليات تخليق العلاقات داخل الفضاء
المسرحي.. فمنذ بداية العرض نجد أن المخرج قد وضع إستراتجية أساسية في تشكيل
الفضاء متمثله في تخليق وضع مركزي لشخصية
ماكبث (محمد غيث) على خشبة المسرح فهو
يتحرك في غالبية زمن العرض بمنطقة منتصف مقدمة خشبة المسرح بينما يحيط به باقي
الممثلين دائماً .. وهو ما يعكس الرؤية العرض لشخصية ماكبث في علاقته بمجتمع العرض
فهو مركز ذلك المجتمع وهو ما يتم التأكيد عليه عبر الملابس حيث تم توحيد ملابس
جميع الشخصيات على مستوي التصميم و الألوان (عدا الليدي ماكبث (سها عادل)) ليصبح
العالم المسرحي سواء على مستوي العلاقات بين الشخصيات داخل الفضاء أو على مستوي
الصورة المسرحية انعكاس لرؤية العالم لدي العرض .. وهي رؤية تحاول إعادة مناقشة
تلك الفكرة القديمة التي مثلت أحد مستويات تحليل نص مسرحية ماكبث لوليم شكسبير وإن
لم تكن المستوي الوحيد .
فمنذ
البداية (التي تتمثل في جلوس الممثلين (أو الكورس) في شكل مربع ناقص ضلع حول ماكبث
الممدد على خشبة المسرح) و حتى نهاية العرض التي يعاد فيها ذلك التشكيل من جديد
يتحول ماكبث للذات الوحيدة الممكنة بينما تتحول بقية الشخصيات (بما فيهم الليدي
ماكبث) إلي ترديدات للصراعات التي تدور داخله من ناحية ، وناحية أخرى صورة للمجتمع
الذي يقوم بقمع تلك الشخصية ويحاصرها بطموحها و جرائمها ليقضي عليها في نهاية
مظلمة تؤكد على أن انغلاق العالم و عدم أمكانية الخروج من أسر تلك الدائرة المغلقة
التي يفشل فيها الفرد دائماً في النجاة من ذلك القدر الكوني/ الاجتماعي الذي
يحاصره ويحدد مصيره ويقوده صوب نهايته.
ربما
يبدو الوضع هنا أننا أمام إعادة إنتاج تعبيري لنص وليم شكسبير .. وهو أمر يستحق
التوقف عنده و التفكير في معطيات تلك الفرضية حول العرض.. ولعل أول ما يمكن أن
نتوقف عنده هو ملابس الليدي ماكبث (سها عادل) ففي النصف الأول من العرض يختار لها
المخرج - ومصممي سينوغرافيا العرض (محمود صبرى / احمد حشيش) - فستان طويل متسق
الألوان مع بقية مجموعة الممثلين (الكورس) لكنه يحمل كذلك سمات جلد الثعبان .. وهو
ما تم التأكيد عليه عبر الحركة.. وهي رؤية للشخصية تبدو أخلاقية و مسطحة للشخصية
لكنها متسقة إلي حد كبير مع تلك الرؤية التعبيرية للعرض
كذلك
فإن ملابس شخصية ماكبث السوداء و التي تتناقض مع الطبيعة اللونية لملابس الليدي
ماكبث في مونولوج إزالة بقعة الدم (ملابس بيضاء) يؤكد على تلك الفرضية التي نطرحها
هنا ..
وكذلك
فإن المخرج و المعد الدرامي (محمد الخيام) قاما باستخدام تقنيات سينمائية للتأكيد
على العلاقة بين وعي ماكبث ورؤيته ورؤية
المتفرج للعرض (في مشهد التتويج يقوم المخرج بإعادة لحظة مرور ماكبث و الليدي
ماكبث أسفل نعش الملك المقتول) وهي تقنية عند نزعها من مجال نشوئها (أفلام العنف)
تصبح انعكاس لوعي الشخصية .. وهو ما يمكن أن نجده في مشهد التخطيط لقتل الملك الذي
يقدم مرتين (مرة على مستوي الخيال و مرة على المستوي الواقعي)
يمكننا
بالطبع الاستمرار في تحديد العلامات الدالة على الطبيعة التعبيرية للعرض ولكن ربما
كان من الأفضل الاقتراب من جديد من السؤال الأساسي الذي يمكن أن يثار في ذهن أي
متفرج حول العلاقة بين العرض وواقعه الملتبس و القاسي والقلق.. هل هناك علاقة ما
بين بزوغ تلك الرؤية التي تقوم بتمجيد الفرد و تحويله إلي مركز للعالم وبين واقع
الطبقة المنتجة و المستهدفة بعرض (الليلة ماكبث) ؟!!! ربما يكون ذلك السؤال يحتاج
في إجابته إلي ما يتجاوز حدود تلك المقال و حدود العرض ذاته حتى يمكننا الاطمئنان
للنتائج التي نحصل عليها.
وهو
ما يعود بنا إلي الخيار خيار عدم الاقتراب من العلاقات الرابطة بين زمن المتفرج
والأزمنة التي يحتويها العرض بمستوياتها المختلفة.
ربما
يكون من الإنصاف وصف عرض (الليلة ماكبث) بأنه عرض متماسك و منضبط قائم على مجموعة
عمل تتحرك بشكل منسجم وبنعومة معتمدة على استغلال قدراتها التمثيلية و الغنائية و
الحركية و توظيفها بشكل جيد حتى لو ظهرت بعض نتائج ذلك الاستخدام مبتورة وغير
مكتملة مثل استخدام الغناء الاوبرالي في
مشاهد الساحرات - ومشاهد أخرى - دون تطوير
لذلك التكنيك ليصبح منتجاً للمعني وكذلك الحال في استخدام العزف الحي (عازفة
الكمان في مؤخرة المسرح وعازفي الإيقاع في أطراف مقدمة خشبة المسرح) وهو الاستخدام
الذي كان يبدو مبشراً لولا تفريغ العرض لقيمته عبر استخدام الموسيقي المسجلة
وهامشية دور العازفين طيلة العرض لدرجة تحول عازفة الكمان إلي عنصر تشويش تماماً
مثل الشعار الملكي الذي يحتل مساحة بارزة في الفضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق