الخميس، سبتمبر 12، 2013

ممارسة الدولة للإرهاب كمحرم في الدراما المصرية


روى الجبرتي في ما روى من أخبار مذبحة القلعة أنه بعدما بدأ عسكر الباشا في قتل عسكر المماليك هرب كثير منهم إلي " بيت طوسون باشا يظن الالتجاء به والاحتماء فيه فقتلوهم وأسرف العسكر في قتل المصريين وسلب ما عليهم من ثياب ولم يرحموا أحداً وأظهروا كامن حقدهم وضبعوا فيهم وفيمن رافقهم متجملا معهم من أولاد الناس وأهالي البلد الذين تزيوا بزيهم لزينة الموكب وهم يصرخون ويستغيثون ومنهم من يقول أنا لست جندياً ولا مملوكاً و آخر يقول أنا لست من قبيلتهم .. فلم يرقوا لصارخ ولا شاك ولا مستغيث وتتبعوا المتشتتين والهربانين في نواحي القلعة وزواياها والذين فروا ودخلوا البيوت والأماكن و قبضوا على من أمسك حياً ولم يمت [...] ثم أحضروا المشاعلي لرمي أعناقهم في حوض الديوان واحداً بعد واحد من ضحوة النهار إلي أن مضي حصة من الليل في المشاعل حتى إمتلاء الحوش من القتلى [.....] وأما أسفل المدينة فأنه عندما أغلق باب القلعة وسمع من بالرميلة صوت الرصاص وقعت الكرشة في الناس وهرب من كان واقفاً بالرميلة من الاجناد في انتظار الموكب وكذلك المتفرجون ..... "
لا يخلو كتاب تاريخ مدرسي في مصر من ذكر لمذبحة القلعة بقدر من التقدير والتبجيل العميق لدورها في ترسيخ الدولة المصرية الحديثة.. بل إن تلك الكتب المدرسية تحول ذلك الفعل الدموي البشع لفصل أساسي في أسطورة ميلاد الدولة المصرية الحديثة..بعدما تجرد ذلك الحدث الدموي من تلك التفاصيل الدموية (التي يقدمها الجبرتي عبر صفحات تاريخه ) وتكتفي بإختزال الأمر في التخلص من المماليك و حكاية الحصان الطائر بصاحبه من فوق أسوار القلعة لطرافتها ... بل ويمتد الأمر إلي الأعمال الدرامية التي تناولت الحدث فنجد أن نص مسرحي مثل (الصعود إلي القلعة للكاتب أبو العلاء السلاموني) لا يتناول ذلك الحادث سوى كمرحلة غير أساسية في الصراع الأساسي بين قوى تأسيس الدولة (محمد على/ عمر مكرم) ... فالدولة تنتج خطابها حول الواقعة التاريخية ولا تقبل بوجود خطاب يناهض ما تطرحه من أفكار.. فنجد الدراما المصرية إما أنها تتجاهل الحادث أو تصوره كفعل تأسيسي لدولة محمد على.. لكنها لا تدينه أو تحاول التوقف عنده لتحليله أو إعادة تشخيص أصوات الضحايا والخطاب الذي يمثلونه.  
لقد اكدت الدراما كما هو حال التاريخ على تلك الأسطورة التأسيسية  بما يكشف لنا عن جزء هام في تشكيل وعي تلك الدولة ذاتها و كيفية تحول ممارسة الإرهاب المنظم وعمليات القمع و الإزاحة لخصومها إلي جزء من اسطورة تلك الدولة عن نفسها .. فكما قدمت الدولة المصرية في كتب التاريخ و في الأعمال التلفزيونية والمسرحية التي تناولت تلك الفترة التاريخية فإنها نشأت ورسخت لوجودها عبر مجموعة من الأحداث تبدأ بثورة 1805 ضد الوالي العثماني مروراً بوصول محمد على باشا و مذبحة القلعة و صد حملة فريزر ... ولعل تلك الأحداث تؤكد لنا على مراحل تشكل تلك الهوية الوطنية الخاصة بالدولة سواء تعاطفت تلك الروايات الدرامية أو التاريخية مع شخص محمد على أم نظرت له كديكتاتور منقلب على شرعية تلك الدولة الوليدة ..
 ولكن وعند فرز تلك الأحداث فإن مذبحة القلعة تبرز كحدث فارق فهي ليست موجه ضد قوى دولية أو إقليمية.. كما أنها ليست عمل عنيف يهدف إلي تأكيد حقوق الأغلبية أو ترسيخ الهوية الوطنية وكذلك فإنها لا تدين محمد على.... بل أنها عملية دموية سريعة و قاسية تقوم فيها الدولة - ممثلة في العسكر - بذبح خصومها السياسيين الممثلين لعالم ما قبل ميلادها (الولاية المصرية) وكذلك ذبح كل من أرتبط بهم بالنسب كأولاد الناس و حتى بالصدفة من أهالي البلد ... وأخيراً ترويع المدينة وتأكيد وحشية الدولة في مواجهة خصومها و قسوتها التي يمكن أن تمتد إلي أي فئة أو جماعة أو حتى فرد يمتلك الرغبة أو القدرة على مواجهتها.
بالمجمل لقد قامت الدولة المصرية في سنوات عمرها الأولي بارتكاب الجريمة التي سوف تخلق لها أسطورة القوة التي لا ترحم ولا تهادن من يتحدى سلطتها.. وهي الأسطورة التي لم نزل حتى اليوم نعيش في تداعياتها المستمرة .. فمن منا لم يخطر له أن يقارن بين مذبحة القلعة وبين ما حدث في رابعة و النهضة.. فهناك قوى مناوئة لسلطة مؤسسات الدولة التاريخية والسيادية (الأمن – الجيش - القضاء) تدعي لنفسها الشرعية و الحق في الحلول محل الدولة المصرية الحديثة وتعادي مؤسساتها وترغب في إعادة هيكلتها...وكذلك فإن تلك القوى تمثل أقصي اليمين المحافظ و تناهض الدولة الوطنية الحديثة بأفكار من العصور الوسطي ترغب في إزاحة الدولة الزمانية التي تقوم من أجل رفاهة المجتمع لصالح دولة مطلقة توجه قوانينها ومؤسساتها لمساعدة الفرد في العالم الأخر وتؤهله لدخول الجنة.
ربما يختلف البعض حول تلك المقارنة ويراها ظالمة لأحد أطراف المعادلة وهو أمر طبيعي فالمقارنة لا تهدف تحقيق التطابق أو التماثل بقدر ما تهدف لتوسعة مجال الفكرة التي تحملها... والتي ترى أن الإرهاب ظل طوال الوقت في الدراما المصرية مرتبطاً بالرواية الخاصة بالدولة فالثائر في مسرح الستينات لم يكن يكتسب شرعية فعله الثوري ما لم يكن متوافقاً مع رؤية الدولة لفعله سواء عبر مخاطبة السلطان كما فعل الفتى مهران أو عبر أخذ منديل الأمان منه كحلاق بغداد ... أو حتى عبر مخاطبة (مُخلص)عالق في فضاء تلك الدولة... بل أن القنبلة في مسرحية (السبنسة لسعد الدين وهبة) لا تنفجر و نستطيع وصم من زرعها أو من سرقها بالإرهاب.. فالجريمة الحقيقية هنا هي انقلاب الدولة على أدوارها وتحولها لقوة رجعية وبالتالي تتحول القنبلة إلي مرادف للثورة التي تعيد تلك الدولة إلي ممارسة أدوارها التقدمية... وهو ما يحمل في طياته خطر انهيار الدولة للدرجة التي يقف فيها صابر في النهاية محذراً من انفجار القنبلة.
لكن ذلك الثائر يفقد شرعية ثورته ويتحول لإرهابي عندما يقطع علاقته بالدولة أو عندما يناهضها كما في نص (زهرة والجنزير لمحمد سلماوي)..
بل حتى عندما أصبح من الممكن رؤية أدوار الدولة الدموية لم يكن من الممكن أدانتها أو رفضها أو وصمها بممارسة الإرهاب... فالدولة تظل دائماً حاضرة عبر أجهزتها الرقابية و الخطابية لتقوم بنفي و إقصاء أي رواية منفلتة (تاريخية أو درامية) تقوم بمناهضتها لصالح قوى ما قبل ميلادها.. 
ربما لم تنجح الدراما المصرية في رصد عنف الدولة وممارستها للإرهاب طوال تاريخها إلا في أضيق الأحوال ولصالح قوى مؤمنة بأهميتها وأهمية حضورها كقاطرة تقدمية للمجتمع.. وبالتالي فإن الدراما المصرية (والمسرحية على وجه التحديد) ظل تحمل مفاهيم الدولة عن الإرهاب تقدم القوى الدينية المتطرفة أو القوى الرجعية كقوى تستخدم الإرهاب وتمارسه بينما تظل الدولة المصرية مقدسة و غير قابلة للمراجعة.. يمكن أن نتصارع في إطارها.. لكن من غير المقبول أن نصارعها.


ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...