مع
أول أيام غزو العراق من قبل القوات الأمريكية و الإنكليزية في مارس من عام 2003
خطت الحركات الاحتجاجية في الشارع المصري خطوة فاصلة في تاريخها .. حيث عادت لقوى
الاحتجاج القدرة على أكتشاف قدرتها على الحشد بعد سنوات طويلة من الكمون و الخفوت
أمام سلطة الدولة القمعية التي كانت تحاصر أي ملامح احتجاجية ضد النظام .. في ذلك اليوم تجمع الآلاف في ميدان التحرير
للتعبير عن رفضهم لغزو العراق وبالتدريج اختفت المظاهر الاحتجاجية ذات الصبغة
السياسية المباشرة القائمة على الخطب السياسية الحماسية و التظاهرات التي تطوف
الميدان بالتدريج لتحل محلها حالة احتفالية وصلت لمداها مع غروب الشمس فتآكلت
مظاهر هيمنة الدولة بميدان التحرير الذي كان يعد المركز الأهم لحضورها سواء عبر
الحضور المتعين(مجمع المصالح الحكومية والذي يحتل صدر الميدان بنمط البنائي
الحداثي) أو عبر مركزية الميدان و مفصليته التي تجمع شتات المدينة عبر توسطه بين
الشمالها وجنوبها وشرقها وغربها .. أو حتى عبر الحضور الأمني المكثف الذي كان يحول
الميدان لمركز له طبيعة مقدسة لدي الدولة.
اختفت
كل تلك الملامح وحلت محلها احتفالية بالتحرر الجزئي من سلطة القبضة الأمنية للنظام
وكان لظهور راكبي الدراجات الهوائية الذين كانوا يطوفون الميدان أثر عميق في تأكيد
تلك الحالة الاحتفالية للحد الذي دفع أحد الأصدقاء للصراخ فرحاً: لقد حررنا ميدان
التحرير.
منذ
ذلك اليوم تصاعدت المظاهر الادائية بالتظاهرات و الإعتصامات في توازي مع صعود
المظاهر الفنية و الاحتفالية التي سادت المسيرات و الأعتصامات الاحتجاجية في
العالم (تظاهرات مناهضة العولمة ، تظاهرات الشواذ .. الخ).. حيث اكتشفت القوى
الاحتجاجية حول العالم في أوقات متقاربة قدرة التظاهرات ذات الصبغة الكرنفالية على
تحقيق الرسائل التي تحملها تلك التظاهرات (خاصة في ظل النمو المتوازي لوسائل
الاتصال و تطور تقنيات البث المباشر و نمو وسائل الاعلام الاخبارية بمختلف
مستوياتها وأنواعها التي أدت لبزوغ فجر جديد للحركات الاحتجاجية يتجاوز ما كان
ممكناً لسنوات طويلة) ... لقد اكتشفت الحركات الاحتجاجية حول العالم قدرتها على
التواصل المباشر مع الشارع و المتلقين حول العالم عبر تلك المظاهر الكرنفالية .
فظهرت
في نهاية عام 2004 أول تظاهرة لحركة كفاية والتي أختار منظموها التعبير عن رفضهم
للقمع السياسي عبر وضع ملصقات الحركة على أفواه المشاركين .. لكن تلك المشهدية لم
تكتمل دون جيش قوات الأمن المركزي الذي كان يحاصرهم عند سلم مكتب النائب العام ..
لتتحول التظاهرة لمشهديه تتجاوز حدود التظاهر ضد النظام لتصل لوصف تشكيلي يستغل
جغرافية المكان وتوزيع الاجساد وعلاقات الكتل و الحصار .. ليصل المشهد في النهاية
لحالة أدائية لوضعية المجتمع في ظل النظام الأمني الذي يحاصر ويمنع و يقلص أي
أمكانية لبروز اصوات مناهضة في ظل غياب لسلطة القضاء ومحاصرة لها... لقد تحول
الجميع لمشاركين (المتظاهرين .. الأمن.. المكان) بينما تحول المارة ومشاهدي
التلفاز لمتلقين/مشاركين سلبيين لذلك
الفعل الأدائي الاحتجاجي .. وهو ما أكد على الهوية التي تحملها تلك الحركة
وعلاقتها بالمجتمع.. حركية مطلبيه تدفع المجتمع للالتفاف حولها لتحقيق مجموعة من
المكتسبات المحددة عبر التأكيد الأدائي على الضعف و الهزال للمعارضة وصمت المجتمع
ولعل أبرز ما تحقق في ذلك المجال كان مظاهرة (كنس السيدة) التي تحرك فيها
المتظاهرين نحو مسجد السيدة زينب لممارسة طقس شعبي تقوم به النسوة لدي شعورهن
بالظلم و عدم القدرة على رد الظالم ,,فتصبح السيد زينب هي قوة الردع المناسبة ..
لقد تحركت الحركات الاحتجاجية نحو الاستخدام الادائي للطقس وبالتالي نهو الهوية
الثقافية للمجتمع.
في
ذات الوقت كانت قوي اليمين السياسي (الاخوان المسلمين بشكل أساسي) لم تزل عالقة في
طبيعة تظاهراتها ذات الطبيعة الأدائية المغلقة الدلالة (طوابير طلبة التيار
الاسلامي داخل الجامعة التي تردد الله أكبر ولله الحمد) التظاهر أمام المساجد (مثل
مظاهرة مسجد الفتح في 2005) و هي تظاهرات
كانت تؤكد على طبيعة الانتماء الديني و السياسي لتلك المجموعات وربط لها مع
المساجد و طبيعة التنظيم .. الخ
ولكن
التحول البارز في الطبيعة الأدائية للتظاهرات والتجمعات بدأت مع تصاعد التظاهرات
الفئوية خلال النصف الثاني من عقد الألفية (عمال يخلعون ملابسهم أمام مجلس الشورى
... رجل يعتصم أمام مجلس الشعب هو وأبنائه و في أعناقهم مشانق.. عروض الألتراس في
مباريات كرة القدم .. الخ)
وفي
النهاية كان اعتصام ميدان التحرير (يناير 2011) كبوتقة لجمع كافة تلك المظاهر
الاحتجاجية في إطار واسع و ممتد خرجت منه الحركات الاحتجاجية وهي أكثر وعياً بقدرة
المظاهر الادائية على التعبير عن هويتها وطبيعة مطالبها .. فطورت كل مجموعة
احتجاجية مجموعة من المظاهر الأدائية التي تعبر عن هويتها وطبيعة مطالبها وكذلك
طبيعة المتلقي المستهدف لها .
فالألتراس
جلبوا للشارع الغناء الجماعي والأجساد المتشابكة القافزة في إيقاع صاخب .. وصارت
لتلك المظاهر الأدائية تعبيراً عن هويتهم الخاصة و طبيعة مطالبهم كجماعة مغلقة
متشابكة ومنفصلة في طبيعة ذوقها العام في الموسيقي عن المجتمع وأخيراً التأكيد على
طبيعة هويتهم كجماعة مشجعين لكرة القدم يعبرون عن انتمائهم لفريق بعينه ويدعون الناس للانضمام لطائفة
مشجعي ذلك الفريق.
إما
التيار المدني فلقد أختار الأقنعة (قناع فانديتا Vendetta) بخلفيته الثقافية وكذلك الطبيعة الاحتفالية بذلك التيار (الطبول
.. أعلام مصر .. الموسيقي.. الغناء.. الخ).. وهو ما يحدد هوية ذلك التيار الثقافي
و علاقته بالحركات الاحتجاجية العالمية وطبيعة متلقيه المستهدف الذي يجب أن يكون
على علم بالمعني الكامن خلف ذلك القناع
المبتسم .
ولعل
أعتصامات المثقفين (اعتصام وزارة الثقافة 2013 - و اعتصام مسرح بيرو التونسي 2013)
على تطور العلاقة بين الأداء كمؤشر لهوية و مطالب المتظاهرين نموذج مثالي (موسيقي –
رقص – مسرح .. الخ)..
ولكن
وعلى ما يبدو فلقد لحق التيار الاسلامي أخيراً بذلك الركب المتقدم لتظهر أغاني
خاصة بذلك التيار (ثورة دي ولا انقلاب؟) التي يردد المشاركين في التظاهرات الخاصة
بذلك التيار إجابة على السؤال الذي تطرحه الأغنية (انقلاب .. انقلاب) أو أغنية (مصر أسلامية) التي المغناه بلهجة غير
مصرية و التي تلقي تجاوب محموم من قبل المنتمين لذلك التيار .. وكذلك بروز العربات
التي تحمل سماعات ضخمة لبث تلك الأغنيات (المأخوذة من تظاهرات غزة ).. والأصابع
المرفوعة المستوحاة من رئيس وزراء تركيا .. الخ
وهو
ما يؤشر على تلك الهوية التي يحاول المتظاهرين التعبير عنها (معارضين للانقلاب ..
مؤمنين بهوية أسلامية متجاوزة للحدود الوطنية.. الخ) ويمكنك أن تضيف إلي ذلك المنصات
المليئة بالمظاهر الأدائية و التمثيلية و الغنائية التي أستخدمها ذلك التيار
وأخيراً استمرار استخدام المساجد كخلفية و مركز لتلك التظاهرات.
بالمجمل
لقد خرج الأداء من المسرح للشارع لأسباب متنوعة أهمها بروز تنوع في الحركات
الاحتجاجية و اهدافها وهوياتها التي تريد الدفاع عنها وتأكيدها عبر التأكيد على
ذوقها الخاص في الموسيقي و الأداء الحركي، كذلك فإن بروز تلك الطبيعة الأدائية
يبرز بالتأكيد حالة احتياج للأداء الحي في ظل تصاعد الفواصل التكنولوجية بين البشر
.. وأخيراً بروز التنوع الثقافي داخل المجتمع وهو أمر افتقدته مصر لزمن طويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق