كثيراً
ما تكون الأحداث الكبيرة و الفارقة في تاريخ الأمم و الشعوب محل اهتمام - و مقر
لتأويلات - التاريخ عبر قدرة تلك الأحداث على ربط التفاصيل الصغيرة و المتناثرة في
سلسلة منتظمة تحدد موقع تلك الأحداث وتغزلها حولها ... فيجد عبرها المؤرخون
المفاتيح الملائمة لتأويل التاريخ وخلق انتظام خلف فوضي التاريخ.. فتختفي يوميات
الشعوب بكل ما تحمل من سيولة و فوضوية خلف ذلك الوهج الذي تمتلكه تلك الأحداث.. بل
وتختفي حتى تلك التفاصيل المكونة لتلك الحوادث لتتحول إلي ايقونات يصعب الفرار من
مركزيتها وأهميتها في تأويل كل شيء وأي شيء يتقاطع حولها .
ربما
كان ذلك هو قدر حريق الخامس من سبتمبر الذي ألتهم واقع مسرحي كامل بشكل مأساوي و
عنيف و صادم.. لقد تحول و بسرعة إلي ايقونة لفساد الواقع المسرحي و المصري بشكل
عام .. وصار من الطبيعي أن يستخدمه المحللين و السياسيين ضمن سلسلة النماذج الكبري
الدالة على تحلل الواقع السياسي (مثل حريق قطار الصعيد و غرق العبارة ... الخ)..
وبالتالي فقد تم انتزاعه كتفصيل من سلسلة من الوقائع المتجاورة و المتتالية
المتعلقة بواقع الحركة المسرحية ليصبح دالاً على فساد الواقع بأكمله و تحلل مجتمع
بأثره و انهيار نظام سياسي.. بالمجمل فلقد تحول إلي جزء من مبررات الثورة و عنصراً
دافعاً لها ودليل على نهاية عصر كامل في تاريخ الوطن.
ربما
كان ذلك أمراً مشروعاً و مقبولاً خاصة أن تلك التأويلات تقوم برفع حريق بني سويف
من حادث مأساوي خاص بفئة من المجتمع (المسرحيين) لتضعه في سياق أكثر أتساعاً وأكثر
اتساقا مع فداحة المصاب و عمق الكارثة التي التهمت جزء من عقل مصر وروحها ... كما
أكدت الكتابات و المواد الفنية (مثل فيلم دكان شحاتة) على موقعها من التاريخ
المصري .
ولكن
ورغم كل ذلك فإن حريق بني سويف كان ولا زال جزء من ذاكرة وخبرة الجماعة المسرحية
في مصر .. بل أحد أهم خبراتها .. فالحريق كما لو كان قد اختار أن يجمع شتات الحركة
المسرحية في مصر فالشهداء والمصابين كانوا يمثلون جزء هام من واقع الظاهرة على
امتداد الوطن... وبالتالي فإن المصاب كان عاماً و عميقاً في ذاكرة المسرحيين.. فكل
منا فقد في الحريق جزء من تاريخه وأحلامه وأصدقائه.. ولكن الألم لم يتوقف عند حدود
مشاعر الفقد و الألم الشخصي والجماعي.. حيث تمدد ليصبح جزء من واقع الحركة ككل
التي اكتشفت أنها لم تكن تنمو و تتقدم للإمام كما كانت تتخيل بل أنها ظلت مشدودة لتاريخ
طويل من الإهمال و التجاهل من قبل الدولة للمسرح و تعاملها معه كأداة هامشية
للسيطرة على أطراف المجتمع.. أداة يمكن استبدالها أو إهمالها.. وبالتالي فإن
الحريق كان منطقياً أن يحاول النظام تجاهله و العبور فوقه بداية برئيس الهيئة الذي
خرج على شاشة التلفزيون المصري لدعوة الجماهير لمؤازرة التمديد لمبارك في الحكم
وتجاهل الدماء التي كانت لم تزل تسيل فوق درجات قصر الثقافة .
لم
يكن من الصعب أن نتقبل فكرة بروز تحدي رئيس الدولة شخصياً لذلك المصاب عندما رفض قبول
استقالة وزير الثقافة.. لم يكن من الصعب أن نتفهم خطاب التيار الديني المحافظ الذي
حاول تأويل الحريق كعقاب من الله لعصاة وفجرة.
كل
تلك التفاصيل كانت مجرد مؤشرات على ما هو أعمق... رؤية محتقرة و متعالية على
المسرح .. تنظر له كسلعة راكدة بلا زبائن كالسينما أو التلفزيون .. القائمين عليها
لا يمتلكون بريق مثقفي المركز المحتمين في أغلفة الكتب الملونة و التحليلات
العميقة والملغزة و الأضواء الباهرة التي تنسكب من الاعتراف المتبادل فيما بينهم .
المسرح
ليس سوى سلعة راكدة .. والمسرحيين مجرد عناصر ضالة تتحرك في المحافظات دون هدف..
يسعون وراء فتات الدولة المتساقط .. هكذا كان الحال ولا زال ...
بل
أن الحدث نفسه تم التقاطه وتحويله إلي جزء من أله إعلامية لا تهتم بواقع الحركة
المسرحية بقدر اهتمامها باستغلال الحدث سياسياً
فسقط المسرحين ضحية للتطاحن بين المعارضة و الدولة التي قررت مواجهة القلق
المتصاعد من أدخنة حرائق المسرح عبر مطاردة المسرح ذاته من خلال إغلاق دور العرض
التي سببت المشكلة من وجهة نظرها .. ولأن أحداُ لم يكن يتضرر من ذلك الوضع غير
المسرحيين فإن أحداً لم يهتم به.
كان
هذا هو حصادنا المرير خلال ثمان سنوات .. مسارح مغلقة.. تنامي للرؤى المتعالية
المطالبة بتقليص الميزانيات و سحب التمويلات من مسارح الأقاليم ... تزايد العداء
للمسرح من قبل مسئولي الدولة و التيار الديني... وعشرات الشهداء و المصابين ...
والقليل من التعاطف .
في
الحقيقة لم يكن الحريق حدثاً فارقاً.. لم يكن مجرد فاجعة مفاجئة و مرعبة ستظل
محتلة لجزء من ذاكرتنا حتى ندخل لقبورنا.. لقد كان الحريق ضوء باهر يكشف عن خطاب
كامل (كان الجميع يستشعر وجوده و ينكره) من
التجاهل والرغبة في تجميد الحركة المسرحية ..
لم
يزل الحريق مستمراً يا سادة... حتى في قلب المعركة الدموية الدائرة حالياً على جسد
الوطن.. لم يزل المسرح يشتعل و يحترق ولم يزل الجميع يتجاهل صرخاته و يكتفي بوصمه
بأنه مصدر للقلق و إهدار المال العام.
الحريق
لم يزل مشتعلاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق