يحكي
أن مدينة بومبي الرومانية استيقظت ذات صباح على تصاعد أدخنة من بركان (فيزوف)
القابع في وسط الجزيرة التي أقيمت عليها المدينة القديمة ،لم يهتم السكان في
البداية وظنوا أنه مجرد إنذار كاذب ، ولكن بالتدريج بدأ البركان في قذف حممه على
المدينة التي غرقت في الظلمة بالأدخنة السوداء و الرماد ...هنا أصاب الرعب سكان المدينة فهرب العشرات
إلي شاطئ الجزيرة وهم يأملون في وقوع معجزة ما تنجيهم من ذلك المصير المخيف ،
بينما أصاب اليأس بقية سكان المدينة فقبعوا في منازلهم متلاصقين في انتظار لحظة
النهاية.
وشيء
فشيء ابتلعت الأدخنة السامة والحمم المدينة... وبينما كان الهاربين إلي الشاطئ
يتابعون ذلك المشهد المخيف هاجمهم البركان.
اليوم
يزور ملايين السياح مدينة بومبي الأثرية لمشاهدة الجثث المتحجرة التي حفظها
البركان لسكان المدينة و الهاربين إلي الشاطئ .. يتعامل السياح مع تلك الجثث
المتحجرة معاملتهم للآثار أو القطع الفنية فيستمتعون بملامح الألم و الأجساد المنكمشة على ذاتها و
جثث الأطفال المتحجرة دون شعور بالإثم أو التعاطف الإنساني ... باله من أمر مثير
للرعب.
ولكن
دعنا نترك تلك الملاحظة ونحاول أن نفترض حكاية لرجلاً إيطالياً يمتلك أفكاراً
متطرفة قرر أن يذهب إلي موقع وجود تلك الجثث المتحجرة كي يقوم بتدميرها حتى لا
تشغل الناس عن عبادة الرب ، أو لأنها لا تقدم الموعظة الكافية لبني البشر ،أو
لإنها تستحق الرحمة من قسوة قلوب السياح ، أو حتى
لأنها أصنام بمنتهي البساطة .. ترى ماذا سوف يحدث عندما يهبط معول ذلك
المتطرف الإيطالي على أول جثة متحجرة.. هل سينفجر شلال من الدماء في وجهه ؟ أم
يشعر بتمزق اللحم البشري أسفل الطبقة الرماد المتحجرة التي تغلف الجثة؟
أغلب
الظن أن تلك الجثة ستتفتت وتتحول لرماد بعد أول ضربة.
ربما
تبدو تلك المقدمة غريبة وغير مرتبطة بواقع المسرح المصري بعد مضي عامان على الثورة
، ولكن يمكن فك تلك الغرائبية و إيجاد سبل للربط بين تلك الحكاية والمسرح المصري
عبر تخليق علاقات أستعارية بين الحكاية وموضوعنا فيظهر التماثل و التطابق حيث لا
وجود للتماثل أو للتشابه... فاللعبة بسيطة و لا تحتاج سوي لقبول قواعد اللعب.
ولنبدأ
بشكل مباشر من تلك اللحظة التي هاجم فيها البركان ضحاياه و قام بتحويل أجسادهم إلي
تكوينات حجرية فاقدة للحياة وإن كانت تشير إليها ، أوضاع جسدية تحمل عشرات المعان وتشير
إليها لكنها مجمدة منذ ما يقرب من ألفي عام ..
في
البداية قررت الدولة المصرية في عدة لحظات تاريخية متباعدة منذ منتصف القرن التاسع
عشر وحتى الستينات من القرن العشرين دعم الظاهرة المسرحية كأحد عناصر بناء الدولة
الحديثة على المستوي الثقافي ، فقامت بوضع إطارها الإدارية فوق جسد الظاهرة
المسرحية الحي وبالتأكيد فلقد حاولت الدولة عبر محاولتها المتعددة أن تلائم بين
طبيعة نظامها الإداري المعقد و بين طبيعة الظاهرة المسرحية حتى لا ينهار النظام
المسرحي الذي تريد دعمه ، كما حدث عندما تم إنشاء الفرقة القومية في الثلاثينيات
من القرن الماضي فلقد استدعت الدولة مجموعة من الفنانين الذين رأت أنهم يمثلون
صورة المسرح الذي يجب أن ترعاه الدولة وتدعمه فكان يوسف وهبي وجورج أبيض و زكي
طليمات – على اختلافهم – هم النماذج الممثلة للمسرح الجاد ، كما كان توفيق الحكيم
نموذج للكاتب المسرحي .
ويمكن
أن نري تكرار تلك التجربة في مسرح الدولة بعد ثورة 1952 ...
ولكن
المفارقة القاسية في تلك المحاولات الطيبة و المحترمة هي ان الدولة خلقت نظاماً
مسرحياً حديدي يحتفظ بالوضعية المثالية للمسرح في لحظة تشكيل فرق مسرح الدولة لكنه
و للأسف حول مسرح الدولة بالتدريج إلي مومياء .. تحتفظ بكافة معالم الحياة .. إلا
الروح فهناك بناء يحتوي فرق مسرحية و فنانين و مخرجين و وعروض و نظام إداري و
كوادر وظيفية .. الخ لكن المسرح ذاته أصبح مقيداً خلف تلك النظم التي جعلت من
المؤسسات المسرحية في مصر جزر معزولة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي كما هي
معزولة عن الواقع الثقافي والأهم.. أنها معزولة حتى عن الواقع المسرحي وتقدم نماذج
فنية تتوافق مع لحظة زمنية انتهت منذ زمن بعيد.
لكن
أكثر ما هو مثير للريبة في تلك الوضعية هو حرص الدولة المصرية – خاصة خلال
الأربعون عاماً الماضية- على الحفاظ على تلك المومياء داخل أجواء شديدة السوء على
أمل أن تتآكل و تتحلل بمفردها ، في حين كانت مشغولة – خاصة في العشرون عاماً
الماضية – بتخليق واقع مسرحي بديل ومحدود تحت مسمي المسرح المستقل لمجموعات من
المسرحيين الذين أدي تحجر الوضع المسرحي إلي لفظهم وعدم توفير أماكن لهم ضمن
المؤسسة سواء لطبيعة تجاربهم المختلفة أو لعدم ارتباطهم بالمؤسسة التعليمية
المعتمدة (المعهد العالي للفنون المسرحية) والتي تمثل البوابة الشرعية الوحيدة
للدخول إلي منظومة مسرح الدولة .
وتمر
الأيام وتنهار مؤسسة الرئاسة والأجهزة الأمنية الداعمة لها تحت ثقل كتلة الدولة
القديمة التي فشلت تلك المؤسسات - بأساليبها القمعية - في الحفاظ عليها ساكنة
ومتماسكة بينما هم يحاولون التحرك صوب المستقبل الذي كان يعدون له العدة...
وبين
ليلة وضحاها أصبح على الجميع أن يفكر في مواجهة ذلك الميراث الثقيل الذي ترك
لنا... دولة تعاني من أمراض الشيخوخة تفقد بالتدريج قدرتها على دعم وترميم ذاتها..
وكذلك مسرح يعاني من جمود و تحجر أنظمته الإدارية و فشله في التوائم مع مجتمع لا
يملك رفاهية الذهاب للمسرح، بل لا يملك حتى القدرة على تحقيق الأمن أو الأمان
الاقتصادي.
لقد
أصبحنا جميعاً نقف أمام تلك الجثة المتحجرة التي نسميها المسرح تماماً كما يقف
السائح أمام جثث ضحايا مدينة بومبي .. بلا أدني أحساس بالتعاطف مع ذلك الجسد وبلا
شعور بالألم أو التفكير في كيفية تحرير ذلك الجسد المسرحي من تلك القيود التي
تكبله... الكل يدرك أننا أمام وضع مخيف دولة تنطلق بأقصى سرعة صوب خيارات يمينية
محافظة، وفي ظل أوضاع اقتصادية ومجتمعية شديدة القسوة والعنف، وبالتالي فالكل يدرك
صعوبة تحرير الجسد المسرحي (هنا والآن) فتسكان الجميع إلي الحفاظ على ما يمكن
الحفاظ عليه .. أو باختصار لقد حافظ المسرحيين (والدولة بالتأكيد) على وضعية
المسرح المصري خلال العامين الماضيين في حدود الحد الإدني على أمل أن تأتي لحظة
ملائمة يمكن فيها الجلوس بهدوء والتفكير في خيارات التعامل مع الظاهرة المسرحية
ككل .
لكن
المشكلة أن هناك رجل إيطالي متطرف يمسك بالمعول وينتظر اللحظة المناسبة كي ما يضرب
ضربته النهائية للجثة المتحجرة... والخوف كل الخوف أن لا يبقي من تلك الجثة
الحجرية شيء يمكن لنا أن نعيد به بناء الظاهرة المسرحية .
لقد
مر عامان على الثورة والمسرح بين والمسرح في قاعة الانتظار بينما هناك من يتسلل
ليقضي عليه...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق