الخميس، أبريل 25، 2013

برنامج البرنامج.. الكوميديا كأداة تدميرية للخطاب




لا شيء أقسي من السخرية... فهي سلاح ماض تمتلك قدرة فائقة على تحطيم أي موضوع أو شخص، كما تمتلك القدرة على تقويض أي خطاب عبر إبراز مواطن تناقضه، أو عبر فضح ثغراته وتعريته من المنطق وتسليط الضوء على جموده وفقدانه للمرونة اللازمة للتحقق واقعياً.. ولعل ذلك يعود إلي تلك الأسباب المؤدية للضحك التي رصدها (برجسون) - في كتابة الشهير (الضحك)- والتي تدور في مجملها حول اكتشاف عدم القدرة على تحقيق شروط العقلانية والمنطق ،أو شرط المرونة اللازمة للتكيف مع الواقع المتحرك والمتحول بشكل دائم .
من هنا فإن فن الكوميديا ارتبط ومنذ نشأته في اليونان القديمة بكل ما هو واقعي ومادي وخشن ومتحول فكان التوجه نحو الجنس و السياسة و علاقات الحب والطباع الشخصية.. الخ كموضوعات للكوميديا أمراً منطقياً.
فالضحك والسخرية يقومان على اعتماد الواقع وقواعد المنطق كمرجعيات يتم عبرها تحطيم أي خطاب يهدف لتفسير الواقع أو احتجازه أو تأطيره بحدود نهائية .. فالكوميديا تنطلق دائماً من إبراز مواطن تصلب الخطاب وانغلاقه.
ربما تبدو تلك المقدمة مفرطة في التحليل والتأمل للحد الذي يؤهلها لأن تكون هي ذاتها مادة للسخرية  بسبب تعلقها في فضاء تجريدي مفارق للواقع المادي ،وهو ما يمثل مدخل مثالي للسخرية ، وبالتأكيد فإن جاهزية المقدمة لأن تكون مادة للسخرية تتأكد مع تلك المفارقة بين عنوان المقال المتعلق بتحليل عمل محلل كوميدي شهير مثل باسم يوسف وبين ذلك التجريد التحليلي المفارق للواقع والذي يتعامل مع السخرية كموضوع تحليل عقلي .
ولكن تلك المفارقة ليست على هذا القدر من العمق أو الأتساع ففي النهاية تظل الكوميديا و التحليل النقدي أعمال متعلقة بالتحليل و البحث عن مواطن الخلل وكشف آليات عمل الخطاب بشكل عقلي بارد.
ولعل تلك القرابة هي ما تتيح للكثيرين وصف برنامج " البرنامج" بأنه نقدي /ساخر .. فهو يقوم بمهمة نقدية للوقع السياسي والاجتماعي، لكنة يتميز عن النقد العقلي الجاف والبارد بأنه ساخر بما يكسب تلك الطبيعة النقدية مسحة من القسوة المؤلمة لدي كثير ممن يتعرض لهم "البرنامج" فيختلط النقد السياسي بما هو شخصي كما يختلط السياسي و النسبي بما هو ديني ومطلق .. فيغضب الشيوخ ومقدمي البرامج و السياسيين والفنانين.. الخ لشعورهم بالمهانة الشخصية.. في حين يختلط أعجاب الجمهور بقدر من الشعور بالتفوق الاخلاقي والعقلي على تلك النماذج المهيمنة على الفضاء الاعلامي ، والديني ،والسياسي ،والاجتماعي ، والتي تمثل واجهة لخطابات مهيمنة على الواقع.
ولكن لنترك تلك القضية الهامشية المتعلقة بالعلاقة بين البرنامج الساخر وضحاياه من السياسيين ورجال الدين ولننتقل إلي التحول الكبير الذي لحق بالبرنامج  خلال الموسم الثاني له ، فلقد أنتهي البرنامج من مرحلة كونه برنامج تلفزيوني مسجل داخل ستديو يعتمد بشكل أساسي على المقابلة بين مواد مصورة - معاد ترتيبها عن طريق المونتاج - من ناحية ، ومعلق ساخر من ناحية أخرى.
إما الموسم الثاني فلقد تحول (البرنامج) إلي عرض حي يقدم لجمهور.. بل لقد أصبح هناك طاقم من المؤديين يشارك باسم يوسف في تقديم الحلقات.. صحيح أنهم يبقون في الخلفية مهمشين لصالح هيمنة (باسم /النجم) إلا أن حضورهم وحضور الجمهور أعاد تشكيل (البرنامج) وحوله لعرض أدائي ساخر يجمع بين التعليقات الساخرة و إلقاء الشعر والمشاهد التمثيلية و الغناء .. الخ، فلم تعد المادة المصورة هي الموضوع الأساسي بل تراجعت وأصبحت تحتل المرتبة الثانية بما يعد تحولاُ كبيراً في البرنامج... تحول تبرز ملامحه بداية من كونه يقدم بقاعة عرض مسرحي مروراً بالتفاعل الحي بين باسم يوسف و الجمهور وصولاً إلي دور الجمهور ذاته في تشكيل البرنامج عبر أصوات ضحكاته التي تنقل لمتلقي التلفزيون.
إن ذلك التحول في شكل البرنامج أدي لترسيخ هيمنة (النجم) الذي ينتقل بعد نجاحه في الموسم الأول إلي فضاء أوسع وأرحب يؤكد و يرسخ لنظام النجم المهيمن على كافة العناصر ،وهو ما يتأكد في أداء باسم يوسف الذي أصبح أميل للاستمتاع بأثر نكاته على الجمهور كما هو حال ممثلي الكوميديا المحترفين بالمسرح .
ولكن إلي جوار ذلك الأثر السلبي فإن ذلك التحول في شكل البرنامج أدي لتشجيع معدي ومقدم البرنامج على أجتراح العديد من المحظورات الأخلاقية التي تمثل تابوهات رقابية ، فقبول الجمهور لكلمات معيبة أخلاقياً أو محرمة في الفضاء الاجتماعي العام  ، بل والسباب .. أدي لتطوير البرنامج و تشجيع صانعيه على تحطيم الخطاب الديني التقليدي/ المتطرف .. لدرجة أزعجت التيار الديني المحافظ  وأثارت حفيظته بل وغضبه.
إن اللقاء الحي والمباشر للجمهور يبث الثقة و الطمأنينة لدي المؤدي في ما يقدمه... لكن تلك الطمأنينة لا تكتمل دون الهجوم على الجمهور ذاته كما حدث عندما قام باسم يوسف في الحلقة الخامسة بوصف الجمهور "بالجرابيع" أو التأكيد على أن الحضور لا يدفعون مقابل حضورهم للعرض .. بل والسخرية من الجمهور في بعض الأحيان .. الخ.
إن "البرنامج" يقوم على تحطيم الخطابات وكشف زيفها بداية من الهجوم على القناة التلفزيونية التي يعرض عليها البرنامج والسخرية من مقدمي البرامج بها وهو ما يمثل ضربة لأفق توقع المتلقي كما يمثل تحطيم للسلطة المهيمنة والمتمثلة في العلاقة المالية بين البرنامج والقناة كمنتج ..
وإذا كان ذلك هو الحال على مستوي العلاقة مع السلطة الإنتاجية فإن "البرنامج" يستمتع بتلك الحرية التي ينتزعها عبر الكوميديا بالتخلص من سلطة الجمهور حتى يتحرر بشكل كامل من كافة السلطات المكبلة له كبرنامج تلفزيوني..
من هنا تبرز قيمة السخرية من الجمهور الحاضر لتسجيل الحلقة.. فهو جزء من جمهور أوسع يمتد ليشمل الجالسين بالمنزل أمام شاشات التلفاز.. وبالتالي فإن البرنامج يكتسب شرعية تحطيمه لكافة الخطابات السياسية بأن يحطم الخطاب الاجتماعي والإعلامي الذي يحيط بأي مادة إعلامية.. أنه لا يهدف لإرضاء الجمهور .. لا ينتمي لرؤية رأس المال المهيمن على القناة.. وبالتأكيد فهو غير محايد و لا يعلن أنه يسعى لنقل الصورة بشكل مطابق للواقع.. بل على العكس فهو منحاز وقائم على تشويه الوقائع و اجتزاء مقاطع بشكل عمدي بهدف التحطيم والتشويه.. إن البرنامج يكتسب شرعيته من تلك المناهضة الصريحة والمعلنة للخطاب المحيط بالعمل الإعلامي.
ومن هنا فإن البرنامج يصبح أكثر حده بالتدريج.. أكثر عنفاً و شراسة .. دون قلقاً من أن يتحول هو ذاته لمادة للسخرية فهو يسخر من مقومات وجوده (المنتج/الجمهور) وبالتالي يصبح الإمساك به أمراً شديد الصعوبة يوماً بعد يوم.
بالمجمل ربما كان موطن قوة ونجاح الموسم الجديد لبرنامج البرنامج هو تلك القدرة على تحطيم أي مساحة يمكن بها دمج البرنامج داخل النسق الأعلامي. 

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...