الخميس، أبريل 25، 2013

زنزانة لكل مواطن.. عرض مكرس لطبقة مأزومة وتائهة



قد تكون الثورة قد باغتتنا  دون سابق إنذار ... ففي لحظة خاطفة هبت عاصفة - الأحداث - هوجاء ومدمرة، جارفة في طريقها بناء كامل من الأفكار المتراكبة والمترابطة التي كانت تأخذ سمة المسلمات والبديهيات ، أفكار لطالما تم تداولها بثقة راسخة .. وبيقين المعتقد الديني، ولذلك عندما هبت علينا رياح الثورة العاتية أصبح من الطبيعي أن تبدو تلك الترسانة الفكرية  - التي يمتلكها المجتمع عن نفسه ويخلق عبرها صورته الذاتية - ملغزة وهشة ومتناقضة للحد الذي يصبح معه الانحياز الراديكالي لمنظومات فكرية بعينها ترف لا يملكه سوي القلة الطليعية التي تقود الحراك المجتمعي منذ عامين في الشارع سواء أكان انحيازها محافظ ويميني أم متحرر وتقدمي.
لقد تحللت صور الواقع  النمطية وأصبح من الطبيعي أن تبدو الفوارق والاختلافات جلية وعميقة ، بعكس ما كان عليه الوضع قبل الثورة ، فالمصريون لم يعودوا تلك الكتلة المتجانسة و المتناغمة التي يسودها التماثل ، ولم يعد المركز القاهري هو المصدر و المرجعية الطليعية والمنطلق والغاية لكافة الأقاليم (خاصة مع تآكل أسطورة التحرير) فلقد تخلقت مراكز اخرى كبورسعيد و السويس و الغربية و الإسكندرية والصعيد ..الخ وأصبح من الطبيعي أن نري تجلي شقوق وشروخ داخل الجسد المصري لم تكن ممكنة التصور قبل عقد من الزمان .. كما هو حال أزمة محافظة بورسعيد.
لقد تحطمت مصر التي نعرفها و اختفت للأبد ولم يتخلف عن تلك المنظومة الفكرية التي كان نمتلكها سوى حساء ساخن وملتهب تتنافر فيه المتناقضات الطبقية و الدينية والعرقية والإقليمية والصراعات بين الأجيال ... حساء تبدو فيه – كل الحقائق المطلقة - هش و مفارق و متداخلة على نحو مربك.. فأصبح المشهد ملتبس و معقد على نحو لم يعد معه أكثر المتبصرين بقادر على تخيل نتائج ممكنة لتفاعله أو لمسار تطوره.
وربما كان الفن المسرحي أكثر الفنون التي يمكن أن نلمح فيها حالة الحيرة و القلق التي تسود المجتمع نتيجة لطبيعته الخاصة التي تجعله غير قادر على ملاحقة المتغيرات السريعة أو امتلاك الأدوات الفنية التي تيسر له التعبير عن واقع هش ومتلاحم و متغير بشكل أني ومتزامن .
ولعل عرض (زنزانة لكل مواطن) للكاتب إبراهيم الحسيني و المخرج محمود النقلي نموذج مثالي لأزمة المسرح إزاء التعبير عن وضعية المجتمع الآن فالعرض محتجز في خطاب الطبقة الوسطي الصغيرة وقلقها وأزمتها الراهنة إزاء واقع ضاغط و محبط ، واقع جعلها غير قادرة على مواجهته سوي بالانكفاء على ذاتها والتعبير عن قلقها الخاص ورعبها التاريخي من السقوط الطبقي تحت قسوة ظروف اقتصادية خانقة وما يصحبها من تراجع لمنظومتها القيمية و نظمها الاجتماعية و السياسية و الدينية الداعمة لوجودها... وباختصار فإن العرض يعكس وبجلاء تلك الوضعية المربكة التي أصبح عليها المشهد المصري مؤخراً.
ويمكن أن نكتشف بروز حالة القلق وفقدان اليقين و الأمان ، وبالتالي عدم القدرة على تكوين رؤية متماسكة للعالم في كافة مناحي العرض بداية بالنص الذي يرتد للخلف ويعيد تشكيل لحطة زمنية كانت تلك الطبقة تمتلك فيها خطابها الخاص ورؤيتها المتماسكة للعالم ، وهي اللحظة التي وجدها النص في الفترة السابقة على الثورة والتي وضعت فيها مجموعة من السمات التكوينية الأساسية لدراما البرجوازية الصغيرة في السينما والفيديو والمسرح والتي يمكن تلمسها جميعها في نص (زنزانة لكل مواطن) – وبالتالي في العرض – بداية بالشخصية الأساسية (عزيز/ عبد الرحيم حسن) التي تتوفر فيها سمات نموذجية بداية من طبيعتها الأخلاقية المتعالية على الانهيار الأخلاقي الذي يضرب الواقع من حولها والمتمثل في شخصية صديقه (جلال عثمان) المنحرف أخلاقياً والذي يحاول في بداية العرض غوايته لسرقة ملفات قضايا من المحكمة التي يعمل بها لكنه يرفض متمسكاً (بشرفه ونظافة يده .. الخ) برغم احتياجه المالي وضعفه و خوفه الدائم من السلطة و تقوقعه على ذاته .. الخ .
وللتأكيد على تلك السمات يضيف المؤلف ظل للشخصية (أقرب للضمير) يتحدث إليه طوال الوقت ويؤكد على ضعفه وخنوعه وتمسكه بأخلاقياته .. الخ.
ويتفجر الحدث الدرامي مع تقاطع تلك السمات التي تميز الشخصية مع حدث فارق وهو هجوم القطة التي كان يحاول التخلص منها بالشارع على رئيس الوزراء و بالتالي اتهامه بمحاولة اغتياله وسجنه لتنطلق سلسلة انهيارات ذات طبيعة ميلودرامية مثالية تدور حول تفكك الأسرة و انهيارها تحت ضغط الفضائح والأزمة المالية التي تحاصرها نتيجة غياب عائلها خلف القضبان فينحرف الابن الأكبر سيد ويتحول لبلطجي (محمود الزيات) بينما تتعرض الأم صابرة (وفاء الحكيم) للاغتصاب وبالتالي للسقوط الأخلاقي والطلاق من الزوج المحبوس الذي تزيد مدة حبسه نتيجة محاولاته المتكررة للهروب .
سلسلة ميلودرامية عنيفة و متصاعدة تقوم على تمزق الأسرة و تفتيتها إلي أن تأتي لحظة الثورة لتعيد جمع شمل الأسرة الممزقة والمنهارة من جديد بعد سنوات طوال .. لتنتهي المسرحية بصرخة الأسرة الموجهة لقوة مهيمنة أو لسلطة غاشمة بأنها موجودة وصامته وأنها تعاني.
إننا أمام رؤية ترتد للخلف وتحاول التطهر من كافة الخطايا عبر الانفعالات العنيفة والعودة إلي خطاب تلك الطبقة القيمي الذي ترسم به صورتها الذاتية ، وبالتأكيد فإن تهديد مؤسسة الأسرة يعد نموذجاً مثالياً لتلك الرؤية التي تهرب من مواجهة الواقع الملتبس و المخيف الذي يمتد حتى داخل النص من خلال التناقض بين موقف الابن الأكبر سيد البلطجي الذي ينحاز للنظام القديم و عصام الابن الأصغر الحالم الذي ينحاز للثورة.
هروب من مواجهة الواقع و الهرب للمتاريس القديمة التي طالما أحتمت خلفها تلك الطبقة خلال القرن العشرين، وبالتالي أصبح العرض مباعداً بين ذاته وبين الواقع.
ربما يكون المخرج قد حاول مع مهندس الديكور أن يخففا من حده الأثر الميلودرامي عبر إعادة تشكيل الفضاء المسرحي وجعل المتفرجين يجلسون متقابلين حول (الممر/الشارع) واصل بين السجن والمنزل ، لكن تلك المحاولة قابلها تأكيد المخرج ومهندس الديكور على عملية الإدماج للمتفرج داخل الحدث على المستوي العاطفي عبر الأداء التمثيلي القائم على الإندماج و الانفجارات العاطفية وكذلك عبر الحبال و شبابيك الزنازين المعلقة في فضاء المسرح فوق رؤوس المتفرجين والتي تشبه إلي حد كبير شباك العنكبوت ، وأخيراً عبر الإضاءة التي توجه نحو الجمهور بشكل مباشر في بعض أجزاء العرض ، وأخيراً عبر الغناء الحي الذي يشكل جزء هام من جسد العرض.
ربما يبدو حديثنا هنا موجهاً - بشكل مركز - نحو تحليل النص المسرحي، وهو أمر حقيقي، ويعود بالتأكيد لسبب أساسي وهو أن العرض يأتي في لحظة زمنية صعبة ومفصلية في تاريخ الوطن وتاريخ مسرح الدولة بالتبعية.. وهو الأمر الذي يستدعي ليس فقط التكاتف من أجل دعم كل عرض مسرحي جديد ينجح في الخروج إلي النور في مثل تلك الظروف الصعبة، ولكن - كذلك - تحليل الخطاب الذي يطرحه والطرق التي يلجا إليها لدراسة الأرض التي نقف عليها.

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...