في أطار الموسم الصيفي للفرقة القومية للعروض المصرية (الغد) قدم المخرج/ ناصر عبد المنعم عرض (ليل الجنوب) للكاتب/ شاذلي فرح ، وبشكل مبدئي فإن المتابع للإعمال كل من المخرج والمؤلف يمكن أن يدرك - من النظرة الأولي- وجود مجموعة من السمات التي تربط هذه التجربة بالتجارب السابقة لكل منهما . ففي حين تبدو تلك التجربة استكمال لمشروع ناصر عبد المنعم المسرحي الذي يعكف عليه منذ سنوات ويكرس له معظم عروضه المسرحية ويتناول فيه عالم جنوب الوادي بطقوسه وأفكاره الحاكمة بداية من "الطوق والأسورة" و"خالتي صفية والدير" .. ونهاية "بناس النهر" و"النوبة دوت كوم" فتلك العروض تبدو مترابطة ومتقاربة في أسلوب المعالجة البصرية الذي يصل لدرجة التماثل في موقع الراوي في كل من عرض "النوبة دوت كوم" و عرض "ليل الجنوب" ، وما يتبع ذلك من العلاقات التي تربط الراوي بالحدث والشخصيات ، وكذلك سيادة روح روائية على العرض ربما لم تكتمل في (ليل الجنوب) كحال العروض التي أشرنا إليها والتي كانت تعتمد على أصول سردية . وقبل كل ذلك محاولة إعادة تخليق الفضاء المسرحي ليصبح أكثر ثراء وتعبيراً وعمقاً سواء عبر إعادة تشكيل العلاقة بين مساحة الجمهور ومساحة العرض أو عبر تخليق عمق للصورة أو حتى عبر تقسيم الفضاء بين مستويات كما هو حال (ليل الجنوب).
لكن
الشيء الأهم والأكثر حضوراً - في كافة تلك التجارب السابقة والذي يعيد المخرج
تأمله في هذا العرض - هو الحنين إلي ذلك الماضي بكل ما فيه من براءة وعفوية وطفولة
و قسوة، حنين يدرك منذ البداية أنه لا يمكن إشباعه إلا عبر الحكي وإعادة سرد القصص
التي أغلقت إلي الأبد وخطت أقدار أبطالها المأساوية .. لكن ذلك الإشباع لا يحمل
إلا الحسرة و الندم على ضياع ذلك العالم و تهدمه ولذلك فهو حنين أبدي... يتلبس في
كل مرة صورة مختلفة.. فأحياناً ما يصبح حنين إلي عالم النوبة الغارق .. وأحياناً حنين
إلي عالم النجع كما هو الحال في ليل الجنوب.
لكن
ذلك الحنين إلي الفردوس الجنوبي المفقود غالباً ما يتضافر مع محاولة لتكشف أسباب
انهيار ذلك العالم و تآكله.. وهو ما يعني بالضرورة نجاح ناصر عبد المنعم في تجاوز
الرؤى المثالية والمُقدسة للماضي والغارقة في السعي وراء خطواته.. ولعل ذلك ما
يجعل من حالة الحنين التي تشع بالشجن في عروض (ناصر) مرتبطة طوال معظم الوقت بنقد
للمجتمع المغلق وتساؤل حول الهوية لكل من المدينة والقرية والعلاقات التي تربط
المجتمع المصري الحديث والمجتمع التقليدي الذي يندثر ومقابلة بين عزلة الراوي داخل
المدينة بحداثتها والحالة الاحتفالية التي تسيطر على القرية بمجتمعها المترابط
والمنغلق على ذاته .. بما يعيد تشكيل التساؤل حول هوية المثقف العربي وموقعه من
مجتمعه، وهو السؤال الذي طالما شغل المبدعين المصرين والعرب كالطيب صالح ويحيي حقي
وغيرهم.
بالمقابل
فإن تجارب شاذلي فرح السابقة ككاتب ومخرج منتمي للصعيد المصري يمكن أن تقودنا إلي
تصور مختلف بعض الشيء ، فشاذلي يبدو مهتم أكثر بالقدرية المأساوية التي تحكم واقع
الجنوب وتعيد إنتاج واقعه بشكل تكراري خاصة على مستوي المجتمع المغلق والذكوري
الذي يشوه و يدمر طيلة الوقت من أي محاولة للتغيير أو تحديث ذلك المجتمع .
ولعل
تلك العلاقة بالجنوب ونقد المجتمع الذكوري كانت هي نقطة اللقاء بين كل من ناصر عبد
المنعم و شاذلي فرح في عرض (ليل الجنوب) .
ففي
بداية العرض يجلس شاب (يحيي أحمد) إلي مكتبه ويتحدث عن إحساسه بالغربة ورغبته في
العودة إلي الجنوب.. لكنه يدرك أن العودة مستحيلة لأن العالم الذي ينتمي إليه قد
دمر وأنتهي ، كما أن علاقته قد بترت إلي الأبد بذلك العالم بعدما تركه (كما يؤكد
له تجسده وهو طفل/حازم عبد القادر).. لكنه يكتشف قدرته على إعادة ذلك العالم عبر
السرد.. وبالتدريج ينكشف عالم الجنوب (النجع) الذي يستعرضه الراوي عبر أربعة نساء
(نخلة– ولع– شوق– نور) حيث تمثل كل منهم جزء من أزمة المرأة في مجتمع الجنوب
الأبوي القاهر للنساء و المكبل لهم داخل حدود أجسادهم التي تصبح فريسة للقهر و
الاستغلال و الاستباحة من قبل المجتمع ، وهو ما يشكل في النهاية تلك المصائر
المأساوية لهن .
وبرغم
العلاقات التي تربط بينهن طوال العرض إلا أن كل منهن تمتلك حكايتها الخاصة
والمنفصلة ، بينما يجمع – ويشكل- كل تلك الحكايات المنفصلة موقع صانع الحبال من
ليف النخيل (الحباك) – وهو الموقع الذي يحتله كافة الشخصيات الذكورية تقريباً .. كما
أنه الموقع الذي يهيمن من مركزه المرتفع على عالم النساء في الأسفل ويحاصرهن
بالحبال التي يثبتها الرجال طوال الوقت حول مساحة النساء.
وعلى
الرغم من الإيحاءات الميتافيزيقية التي يمكن أن تتسرب من هيمنة (صانع الحبال
/الحباك) إلا أن المخرج تجاوز تلك الإيحاءات الممكنة وقام بقمعها عبر وضع الشخصيات
الذكورية في موقع تلك الشخصية الغائبة بما يفتح المجال إلي تأويلات مرتبطة بدور
المجتمع الذي يهيمن عليه الذكور في تخليق واقع النساء المزدري .. أكثر من
الطبيعة القدرية التي تذكرنا بربات القدر
اليونانيات التي يمتلكها (الحباك) في نص شاذلي فرح.
عالم
من الحكايات
يمكن
للتحرك بين الحكايات المختلفة أن يكشف لنا مدخلاً أكثر أتساعاً للتعرف علي تلك
الشبكة المعقدة التي حاول المخرج - عبرها - تخليق عالم متعدد المستويات بداية من المستوي
البصري عبر تقسيم الفضاء المسرحي إلي ثلاثة مستويات متداخلة يحتل الأول الراوي وهو
المستوي الذي يجلس فيه الجمهور بما يعطي انطباع مباشر بمعاصرته للمتفرج وتشاركه
عالمه ، وعلى المستوي الثاني يقبع عالم
النساء و(الراوي /الطفل) ولعل العلاقات التي تربط بين كل من الراوي الأساسي وتجسده
الطفولي الذي يصل إلي أقصه في نهاية العرض عبر تبادل موقعيهما يقدم لمدي التداخل
يربط بين مستوي الراوي ومستوي الحكاية .. وإن يبقي من المستوي الثاني ذلك التقسيم
الذي بين داخل وخارج..ففي عمق المستوي توجد (أبواب / جحور) تخرج منها النساء ويعدن
إليها في نهاية العرض.
إما
المستوي الثالث فهو مستوي الحباك والفرقة الموسيقية ومجتمع القرية .. حيث يهمن الوعي
الذكوري ، ويقدم المخرج في ذلك المستوي المشاهد التي الجماعية (كالغناء للقمر المخنوق،
أو المولد.. الخ) وإن كان وجود الفرقة الموسيقية في ذلك المستوي بما كان قد أثر
بالسلب على مساحة المستوي ولم يعطي مردود على مستوي المعني أو التشكيل البصري.
ويربط
بين تلك المستويات التشكيل الذي صممه مهندس الديكور (د. محمود سامي) والذي يربط
بين العالمين والمتمثل في جديلة ضخمة من الحبال تمتد من المستوي الثاني وترتفع نحو
الفضاء المظلم للمسرح... بكل ما يحمله ذلك من إيحاءات.
وإلي
جانب ذلك التعقيد البادي على الصورة المسرحية فإن ذلك التعقيد يتصاعد مع توجه نص
العرض إلي تقديم عالم النجع من خلال أربعة حكايات – شبه منفصلة – ولا يربط بينهم
إلا اختيار الراوي وهيمنته المطلقة التي تجعله هو الحابك الأكثر قدرة وهيمنة .
فبداية
من (نخلة/ دعاء طعميه) المرأة الطويلة القامة التي ينغص علاقتها مع (زوجها/نائل
على) عدم الإنجاب مروراً بحكاية (ولع/وفاء الحكيم) المرأة التي قام زوجها بقتل
أخيها في ليلة عرسه ، وأصبحت في مواجهة دائمة مع أخوتها الراغبين في الثأر لأخيهم
عبر قتل طفلها بعد موت زوجها بالسجن .وكذلك (شوق/شريهان شاهين) التي تركها (زوجها/محمد
دياب) ويسافر للعمل بالخليج مما يدفعها إلي إقامة علاقة جنسية مع (عطوة /محمود
الزيات) ، وتنتهي حياتها بأن تتحول إلي صوفية تطوف أرجاء مصر لزيارة موالد
الأولياء للتبرك والذكر للتخلص من عقدة الذنب .وصولاً لحكاية (نور/سامية عاطف)
الفتاة الجامعية التي يقرر ابوها تزويجها من (أبن عمها الجاهل والفاسد/معتز
السويفي) رغماً عنها رغم علاقة الحب التي تربطها بشاب نوبي (مرجان / محمد نصر)
لتنتهي حياتها بالتحول لمختلة تدور بالشوارع بعدما تقوم النسوة بختانها.
وكما
يبدو فإن كل حكاية تشكل جزء من الصورة المظلمة لوضع المرأة في المجتمعات الذكورية
المحافظة ، كما أن كافة تلك الحكايات تدور في أجواء يهيمن عليها تمرد الجسد الأنثوي
على الوضع القمعي، حتى حكاية ولع التي
تبدو مرتبطة بالواقع القبلي للمجتمع الصعيدي تحتوي ندر ولع بأعطاء جسدها لأول عابر
طريق لحماية طفلها ياسين (زياد إيهاب) من الموت .. كما أنها تتمرد على أنوثتها
(بعدما تقتل طفلها بيدها شفقة عليه من أن يقتل بيد كبير المطاريد) وترتدي ملابس
الرجال وتصعد للجبل لتقيم به وهي تتوعد الجميع بالموت.
إن
الجسد الأنثوي هنا هو أداة المقاومة و التمرد على المجتمع وهو الهدف والغاية التي يسعى
المجتمع لمقاومتها عبر البتر أو عبر إتاحة مجال لإشباع احتياجاته عبر الطقوس.
نهاية
عالم النجع
في
النهاية فإن العرض يطرح لكيفية عدم تساوي القوي المتصارعة عبر الانهيار العقلي
الذي يصيب كافة الشخصيات النسائية بالعرض... فالنساء هنا هم الضحية ولذلك فإن
العرض يقدمهم في معظم الأوقات متشحات بالسواد – وإن كانت هناك محاولات قامت بها (مصممة
الملابس / نادية المليجي) لتحديد كل شخصية عبر إضافة لون مميز (فنخلة الحالمة
بالطفل تأخذ اللون الأخضر في مقابل ولع التي ترتدي زى به مساحات حمراء .. الخ) وهو
ما يشير إلي محاولة لتخليق هوية خاصة بكل شخصية برغم توحيد الزى .
كما
حاول المخرج ومصمم الإضاءة المشارك (عمرو عبد الله) تبسيط العلاقات بين المستويات
المختلفة و الحكايات المختلفة عبر البؤر الضوئية المحددة التي تؤكد طوال الوقت على
هيمنة الراوي وحابك الحبال على العالم دون استخدام للإضاءة الملونة في مقابل سيادة
البؤر اللونية على عالم النساء للتأكيد تلك المشاعر العنيفة التي تموج بالشخصيات .
وبعيداً
عن الحالة البكائية العنيفة التي تسيطر على كثير من أجزاء العرض ، و التي كان يمكن
للمخرج تفريغ الكثير منها دون إخلال بالعرض ، فإن الأداء التمثيلي في العرض لم
يبتعد كثيراً عن الإطار الشاعري الذي أعتمده المخرج لكافة عناصر العرض فصار جسد
الممثل وحدة تشكيلية في مقابل أسلوب أدائي مغرق في الانفعالية سواء على مستوي
الممثلات أو على مستوي الممثلين الذكور.
في
النهاية ربما لم يتجاوز ناصر عبد المنعم عبر (ليل الجنوب) تلك المرحلة الفنية التي
يعمل عليها منذ النصف الثاني من التسعينيات بأشكال مختلفة، لكنه ومن جانب أخر حافظ
على تلك المتعة الفنية التي يتميز بها مسرحه.
هناك تعليقان (2):
رائع يا محمد موهبة نقدية فريدة
ربنا يكرمك ويخليك
إرسال تعليق