الأحد، أكتوبر 07، 2012

اللعبة.. القهر قدري وتشاؤم




يعد الصراع مع القدر أحد أقدم الموضوعات التي شغلت بال المسرحيين.. فمنذ الدراما الاغريقية القديمة - وحتى اليوم - يظل ذلك الصراع العنيف بين حتمية القدر والإنسان الراغب في امتلاك مصيره والسيطرة على حياته هو أحد أكثر المواضيع إثارة لمخيلة الكتاب و المخرجين المسرحين .. بالطبع تغير مفهوم القدر عبر العصور فلم يعد هناك هذا القدر الأوليمبي القاسي الذي خلق أبطال التراجيديات الكبري .. فلقد حل بدلاً من صور أخري لذات السلطة المهيمنة و المتحكمة في المصائر، عرفت في بعض الأحيان باسم القيم المجتمعية وفي أحياناً أخري باسم السلطات وأحياناً باسم الأقدار الوراثية .. الخ.
وعلى الرغم من تواتر عمليات الاستبدال للقوي التي تحتل ذلك الموقع .. فإن ذلك التبادل للقوي لم يؤثر في الموقع الذي تحتله داخل بنية الصراع ولم تغير من طبيعة الدور الذي تقوم به .
فإن أسمينا تلك السلطة باسم ميتافيزيقي، أو أوجدنا لها تجسيد في وظيفي كالمخرج المسرحي أو القائد أو قوانين الوراثة .. الخ فلن يختلف دورها في تلك العلاقة.. ولن يختلف دور الإنسان المدافع عن حريته الشخصية والراغب في امتلاك مصيره، لكن ما يختلف هو التقاطع الزمني والمكاني الذي يشهد ذلك الصراع والذي يهبه قيمته ومدي قوته فأوديب سوفوكليس المصارع للقدر الأوليمبي يختلف بطبيعة الحال عن أوديب أندريه جيد أو جان كوكتو .
وبالتالي فإن محاولة مناقشة ذلك الصراع بعرض (اللعبة) - للمخرج (محمد جبر) و(فرقة ستديو بروفة) والذي قدم ضمن فعاليات موسم الفنون المستقلة الأول (المسرحي الرابع) – لم تبتعد كثيراً عن ذلك الاهتمام المسرحي القديم فالعرض يقدم لمحاولة كشف شبكة العلاقات التي تربط بين الشخصية المهيمنة(المخرج) المتحكمة في مصائر الشخصيات في مقابل بقية شخصيات العمل الدرامي التي تقع فريسة لتلك (اللعبة/القدر/المخرج) الذي تمتلكهم وتتحكم فيهم، كما أنه لم يبتعد أيضاً عن ذلك النزوع لمناقشة علاقة الإنسان بالسلطات القمعية عن طريق مناقشته لطبيعة العلاقة التي يقيمها المخرج بين الشخصيات على خشبة المسرح ،والتي حددت مكان مهيمن لشخصية المخرج في مقابل المواقع التي تحتلها كافة الشخصيات سواء الشخصيات الأساسية التي تحتل منتصف مساحة الأداء المحاصرة ، أو الشخصيات الثانوية التي يستدعيها - كشخصية وكيل النيابة - من مواقعها المحيطة بمساحة الأداء الرئيسية (أمام مرايا التجميل) .
ومن خلال ذلك التوزيع الجغرافي للشخصيات بالفضاء المسرحي فإن المخرج بموقعة المهيمن والمسيطر - سواء على الشخصيات الثانوية أو على الشخصيات الأساسية المحاصرة بالمخرج والشخصيات الثانوية – يعكس لرؤية شديدة الانغلاق والتشاؤم بالعالم ، فشخصية المخرج تتقدم في بداية العرض من بين صفوف المتفرجين لتصعد إلي خشبة المسرح بما يعكس رغبة في التأكيد على امتداد هيمنته و شمولها مساحة التلقي ، وهو ما يتأكد عبر توجه الشخصية إلي مقدمة منتصف خشبة المسرح و توجهها بالحديث إلي المتفرج الافتراضي ، برغم عدم تأكيد العرض على ذلك .
وكما أن تلك الرغبة القوية والمتشائمة بالعالم تتجلى عبر توزيع الشخصيات على خشبة المسرح وعبر العلاقات التي تربط تلك الشخصيات - والتي تم التأكيد عليها عبر الأداء الجسدي الذي يبرز هيمنة المخرج وسيطرته عليهم عبر خيوط ماريونت وهمية – فإن بقية عناصر العرض تتضافر لتؤكد على ذلك بداية من الفرقة الموسيقية التي تعزف بشكل حى خلف ستار والتي تخضع لسيطرة ذات الشخصية المهيمنة (المخرج/ المايسترو) ، مروراًَ بالنص المعد - والذي قدم كتأليف !! - والذي يقوم على محاولة شخصية المحقق التمرد على تلك الهيمنة المطلقة والوصول لحقيقة مقتل الشخصيات الأساسية التي دفعت دون رغبة منها إلي دخول قصر الحاكم أثناء مظاهرات عمالية... وهي المحاولة التي تفشل المرة تلو المرة أمام قوة وهيمنة المخرج الذي يصر على تأويله لمقتل الشخصيات كانتحار رغم مخالفة كافة الوقائع لذلك الطرح.
وحتى على مستوي الحادث المستعاد والذي تدور حوله أحداث المسرحية فإن تلك ذللك الحصار المفروض على الشخصيات والمصير المرسوم سلفاً والمعروف من قبل المتفرج يؤكد على ذلك الطرح المفترض ..
ولكن ومن جانب أخر فإن العرض يطرح رؤية ذات طابع سياسي يخفض من ذلك الطابع الميتافيزيقي الذي يحيط بشخصية المخرج عبر التأكيد أزمة المطالب العمالية والعلاقات التي تربط بين الشخصيات كممثلين لطبقات اجتماعية وكذلك العلاقة التي تربط الشخصيات وقصر الحاكم وعملية قتلهم للإقتحامهم قصر الحاكم ..وهو ما يؤدي إلي تحريك مفهوم القدر ليتحول من صورته الميتافيزيقية ليصبح قمع سياسي واقتصادي وهو ما يبرر التمرد الذي تقوم به كافة الشخصيات بما فيهم الموسيقيين في نهاية العرض على النص المفروض وتمزيقهم اياه.
بالمجمل ربما كان عرض اللعبة للمخرج محمد جبر يمثل امتداد لمجموعة من العروض التي تعكس حالة الإحباط السياسي والاجتماعي التي تلت الثورة والتي تنطلق من شعور بوجود قوي اجتماعية وسياسية ذات ثقل تمتلك القوة و الرغبة في تدمير كافة المكتسبات التي استطاعت الثورة إحرازها خلال مرحلتها الأولي .. وهو تيار من العروض لم يزل في طور التشكل لكنه يكشف عن عدم القدرة الكثير من القوي المجتمعية قبول ذلك الضغط العنيف للقوي الرجعية في ظل عدم وجود مشروع سياسي بديل.
  

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...