في
العادة ما يكون تحليل العرض المسرحي من أكثر الأمور أمتاعاً للمهتمين و المتخصصين
وذلك لما يقدمه العرض المسرحي من مادة خصبة للتحليل عبر مستوياته المتعددة و
المتداخلة من أداء تمثيلي و نص درامي وإخراج و تشكيل بصري و موسيقي.. إلي أخر
العناصر الفنية التي تشارك في تصنيع العمل المسرحي ولتي يصعب أن نجدها مجتمعة في
أي شكل فني أخر، فالمسرح عمل جماعي يبرز قدرة الكائن البشري على الإنتاج الإبداعي
الجماعي المنظم و المتكامل والذي يضفي على العمل الفني مستويات من المعني تتجاوز
أي عمل فردي مهما كانت جودته أو قيمته الفنية ، فكل مشارك في إنتاج العمل المسرحي
يضيف جزء من وعيه بالعالم ورؤيته له على العمل ليخرج العمل في النهاية في صورة
رؤية جماعية تنظمها رؤية المخرج .
وبالتالي
يصبح تحليل العمل المسرحي أحد أكثر أشكال النقد تعقيداً فهو لا يتوقف عند حدود
النص ، ولا يتعامل مع منتج نهائي وضع في لحظة زمنية انتهت وتم حفظها و تنظيم
علاقتها من خلال سارد منفصل زمنياً و مكانياً – كما هو حال العمل السينمائي أو
الروائي – بل أن النقد المسرحي هو من يقوم بتوثيق تلك التجربة العابرة (والمؤقتة)
التي يستحيل تسجيلها دون أن تفقد قدراً من متعتها و حيويتها ، توثيق ينطلق من رصد
للعناصر الفنية وهي في حال تفاعل فيما بينها بشكل حي ومتزامن في المكان والزمان .
وينطبق
هذا على أي عرض مسرحي مهما كانت قيمته الفنية أو عمقه.. فالتحليل ينفصل بطبيعته عن
التقييم وينطلق من تفكيك الأبنية التي يقيمها العمل عبر العلاقات بين لغات خشبة
المسرح من إضاءة و رقص موسيقي و نص درامي.. الخ. بينما ينطلق التقييم - في مرحلة لاحقة-
لتحديد مدي نجاح أو فشل تلك العلاقات والأبنية - التي سبق للتحليل رصدها وتفكيكها
وإعادة تجميعها- ليمارس ليعطي الحكم النقدي.
ولكن
– وذلك شرط هام - هناك حداً أدني لا يستطيع التحليل النقدي العمل فيما دونه ولعل
عرض (تشيكوفيات) للمخرج شنودة فتحي والذي قدم ضمن فعاليات مهرجان فرق القصور على
خشبة مسرح السامر ينتمي لتلك الفئة التي يصعب فيها على النقد أن يمارس عمله أو أن
يجد المادة الكافية التي تسمح له بالقيام بعملية تحليل للعناصر الفنية بسبب تفكك
العلاقات بين العناصر الفنية و عدم وجود ملامح لعمل مسرحي متكامل الجوانب يشير
لجهد تنظيمي – على الأقل – للمخرج لجمع شتات تلك العناصر الفنية من أجل تقديم رؤية
فنية تسمح للتحليل أن يجد الأرضية التي يتحرك فوقها .. وبالتالي فإن الانطلاق صوب
مرحلة التقييم تكون هي الخيار الأول والأقرب للناقد إذا ما أراد أن يمارس عمله..
وبالتأكيد فإن التقييم السلبي سيكون هو الأقرب والأيسر برغم علم الناقد أنه ليس
أمام عمل متكامل يمكن أن تنطبق عليه قواعد الحكم الجمالي .. فالعمل لم يكتمل ولم
يستطع أن يتجاوز مرحلة البروفة برغم عرضه أمام الجمهور (ولعل من المثير للدهشة أن
يكون خطاب العرض نفسه مؤكداً على ذلك الطرح عبر التصريح المباشر (والتأكيد
المتكرر) أن ما يشاهده المتفرج ليس أكثر من بروفة لعرض مسرحي لم يخرج للنور بعد).
بالتأكيد
هناك فرقاً كبير بين أن يناقش عرض مسرحي وضعية بناء العرض المسرحي (البروفة) - بكل
فوضويتها – وأن يتمثلها وأن يتماهي فيها .. فالبروفة يمكن أن تكون موضوعاً للعرض
المسرحي الذي يرغب في الكشف عن السلطات التي تشكل العمل المسرحي و التي تختبئ خلف
الستار (سواء أسميناها المخرج أو التقاليد الاجتماعية أو الوضع الاقتصادي أو أي
سلطة أخري ممكنة ..) وهو بالتأكيد عمل شديد التعقيد يحتاج لكثير من الدقة
والالتزام و العمق حتى لا تتسلل تلك السلطات التي يفترض فضح عملها و تتحكم في
العمل المسرحي من جديد.
لكن
أزمة العمل المسرحي (تشيكوفيات) تتمثل في أن المخرج لم يستطع أن يقوم بذلك الدور الذي
(أفترض) أنه كان هدف و غاية التي وضعها لنفسه هو والمعد (يوسف مسلم) .. فلقد تمثل
العرض فوضوية البروفة بكل ما فيها من صخب وتداخل خشن بين العناصر الفنية بما يؤدي
لتشويه تلك العناصر و إبراز عدم انسجامها وتنافرها .
وحتى
نقترب أكثر من تجسيد ما نحن بصدد طرحه ربما كان من الطبيعي أن نعود إلى أكثر
العناصر تماسكاً في العرض (النص) بسبب انفصاله الجزئي عن مرحلة البروفة و أسبقية
انجازه زمنياً .
ولتكن البداية من (تشيكوف) القاص والمسرحي
الروسي الكبير .. الذي أشتق من أسمه العرض و أعتمد على ثلاثة قصص من أنتجه القصصي
، أليس من الطبيعي أن يكون أول تساؤل يطرح على العرض هو ماهية الأسباب التي أدت لاختيار
تلك القصص دون غيرها ؟ وبالتالي ماهية العلاقات المفترضة بين قصة خلع ضرس رجل دين
على يد متدرب ، وبين قصة الموظف المذعور نتيجة عطسه عفوية في وجه مديره بقاعة
المسرح .. ؟!
ربما
تلك الأسئلة المبدئية - خاصة عندما يكون هناك نص وسيط متمثل في معالجة "نيل
سيمون" لتلك القصص – هي ما يشغل حيز من اهتمامات المخرج في مرحلة البروفات لتدفعه
ليبحث عن الروابط التي يمكن أن يقيمها بين تلك الحكايات طالما قرر أن يتدخل هو
والمعد في بناء النص.
وتزداد
الأزمة اتضاحا عبر تقييم تلك الروابط التي أقامها المخرج - عبر الفرقة المسرحية
التي تتمرد على المخرج وتقرر أن تعرض المسرحية برغم رفضه - ألم يكن من المفترض
التشديد على العلاقات بين المسرحية الداخلية (قصص تشيكوف المسرحه) والإطار الخاص
بالفرقة ؟ ألم يكن من الطبيعي التفكير - في مرحلة أسبق- التفكير في الدوافع التي
تقود شخصية (المخرج/حسن جاب الله) لاختيار ذلك النص لفرقته ( ونفس الأمر ينطبق على
المخرج الفعلي شنودة فتحي) ؟ وما هي علاقة الفرقة بذلك النص ؟ وهل يشعر الممثلين –
داخل العرض – بعلاقة بين واقعهم وواقع شخصيات تشيكوف ؟ وما هو المعادل البصري الذي
يمكن أن يعبر عن العلاقة بين الممثلين والشخصيات التي يقومون بأدائها في المسرحية
الداخلية ؟ ما هي الألوان التي يجب اعتمادها ؟ ما هي الصيغ التشكيلية التي يمكن
اللجوء إليها ؟ هل من الطبيعي الذهاب إلي محاولة إقامة علاقة بين الواقع الفعلي
لفرقة سفاجا وبين موضوع العرض وبالتالي تصبح معطيات الواقع جزء من الصورة المسرحية
أم لا ؟
عشرات
من الأسئلة ربما كانت الإجابة عليها ستوفر علينا الكثير ؟ وكانت ستتيح للمتفرج الاستمتاع
و للناقد القيام بدوره دون الدخول في تلك المهام التي لا يمكن لهم القيام بها
بطبيعة وضعهم وعلاقتهم بالعرض .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق