تراهن أمسية " بردة البوصيرى" - التي
قدمتها الفرقة القومية للعروض المصرية
(الغد) – على تخليق حالة من المشاركة الروحانية والدينية بين المتفرج والعرض
المسرحي ، وعبر ذلك الرهان فإن (بردة
البوصيري) تصنع تميزها الخاص و فرادتها ، فمن خلال أفق العرض الهادف لنقل التجربة
الصوفية التي يتمثلها، فإن المخرج (حمدي أبو العلا) أستخدم كافة عناصره الفنية من
موسيقي و غناء و أداء تمثيلي و صورة بصرية .. الخ للتأكيد على تلك الحالة
الوجدانية و الدينية بهدف نقلها ومشاركتها
مع المتفرج ... وهو ما يعكس علاقة مختلفة بين العرض المسرحي و الصوفية الدينية ،ربما
ليست بالجديدة على المسرح المصري، لكنها تظل دائماً هامشية و فرعية أمام التيار
الأساسي للمسرح المصري الذي يظل محتفظاً بمساحة تبعيدية مع الصوفية ومحدداً تلك
العلاقة داخل أطار محدد لا يتجاوز في العادة استخدام بعض العناصر الأدائية للصوفية
المصرية التقليدية كرقصة التنورة أو الأداء الانفعالي لشخصية الدرويش النمطية ..
الخ.
من
هنا تبرز أهمية الاقتراب من مثل تلك التجارب الإبداعية التي تختلط فيها - وبشكل
واضح وصريح - النزعة الدينية لصناع العرض/ الأمسية مع الأدوات والتقنيات المسرحية،
حيث يغدو المسرح ملزماً بنقل التجربة الصوفية بعيداً عن المظاهر الأدائية الشهيرة
التي تميز الصوفية الشعبية والتي تعتمد الجهد الجسدي والاستغراق العاطفي لتحقيق
اكتمال التجربة الصوفية ، فهنا تتراجع وبشكل متوازي الأدائية الصوفية أخذه في
طريقها الكثير من الإمكانيات المسرحية الأدائية ، وهو ما يحصر العالم المسرحي في
اجواء تجريدية إلي حد كبير يعتمد على الأداء الغنائي و التمثيلي في المقام الأول
لنقل التجربة و مشاركة المتفرج فيها .
تعتمد
الأمسية على النص الذي أعده المخرج (حمدي أبو العلا) بشكل أساسي، فالنص المشكل من خليط
متجانس من أشعار منتسبة لبردة البوصيرى إلي جانب أشعار للمخرج (وربما كان هناك
تواجد لمصادر أخرى) لكن النص يعلى من بردة البوصيرى بشكل أساسي ويجعلها مركزه بل
وعنواناً له، ومن هنا أصبح من الطبيعي أن تختفي كافة الملامح المسرحية عن النص ولا
يبقي سوي صوت واحد لموضوع واحد وسط غياب لأي إطار درامي، وهي ميزة أساسية في
الأمسيات المماثلة التي لا تعتمد الأطر الدرامية التقليدية (أو غير التقليدية) بل
وعلى العكس فإنها تطرد الدراما بتعددها الصوتي لتحقيق عدد من الغايات تتمثل في :
أعطاء مساحة كاملة و غير منقوصة للصوت الصوفي للانطلاق الوجداني صوب هدفه دون أي
معوقات يمكن أن تشتته أو تفقده امتلائه وكثافته وتركيزه – وهي السمات التي تهب
للتجربة تميزها وتحقق شروط تحققها ، من ناحية أخرى فإن الإطار الديني القائم على
مدح النبي(ص) - وذكر خصاله والتقرب منه و تمثله والصلاة عليه والدعاء بلقائه
وحيازة شفاعته يوم القيامة – ينظر بقدر من التعالي والشك للفن الدرامي فالأول ينظر
لنفسه على أنه حقيقي و مخلص و صادق في يقوم به ، بينما الأخير(الفن الدرامي) يقوم
بالأساس على اللعب والإبعاد وتنوع الأصوات ، ومن ناحية ثالثة فإن طرد الدراما يحقق
ميزة أساسية للصوت الشعري العربي وهو تفرد الصوت وغنائيته الملتفة على ذاتها و
المندمجة مع موضوعها إلى حد يصعب معه فصلهما عن بعضهما البعض.
وعبر
طرد الدراما فإن المخرج ومجموعة العمل الفنية المشاركة في الأمسية المسرحية تنطلق
من حالة التجريد الصوفي و الديني التي تطبع النص و تهيمن عليه و تنزع منه أي صوت
يمكن أن ينازع الصوت الأساسي في هيمنته أو يهدد تواجده أو يعرقل تحقيق هدفه .
ويمكن
أن نجد ذلك بشكل مبدئي في الصورة المسرحي التي تشارك فيها مصمم الديكور(أحمد فرج)
مع مصمم الملابس (أحمد الألفي) - كل في مساحته – لتحقيق الرؤية العامه للأمسية ،
فنجد أن الزخارف الإسلامية الهندسية و النباتية كانت عي السمة الأساسية والمميزة
للصورة المسرحية دون منازع تقريباًً ، وذلك بهدف التأكيد على الخطاب الأساسي للعرض
وتحديد لهويته و مصادره و إغلاق لأي احتمالية تشويش أو جذب انتباه المتفرج بعيداً
عن الهدف الأساسي للأمسية. وهو ما تحقق بشكل كبير على الرغم من التنوع اللوني
الكبير الذي يتقاسم المساحة المسرحية ، خاصة على مستوي الملابس، وذلك عبر توحيد
الزى بين المؤدين في مقابل مجموعة الموسيقيين. وهو ما أعاد حالة من السكونية على
المشهد تتناسب وطبيعة الأمسية.
ولكن
إذا كان هذا هو الحال على المستوي التشكيلي فإن الأمسية وعلى المستوي الأدائي كانت
تشهد قدر عالى من التنوع بين المؤدين ، فنجد كل من (أحمد الشافعي وأحمد الشريف)
محافظين على قدر من الانضباط الإلقائي الخالى من المؤثرات الانفعالية بشكل يقترب
إلي حد كبير والنماذج التقليدية للأمسيات القائمة على الإلقاء الشعري ، ولكن في
مقابل ذلك فهناك حالة من الأداء الانفعالي في أداء (فتحي الجارحي) ، بينما يتذبذب
أداء شريف عواد بين الأداء الأول والأخير .
ربما
يمكن أن يؤخذ ذلك على الأمسية ، لكن ومن جانب أخر فإن طبيعة الحالة التي تهيمن على
الأمسية يمكن تسمح بقدر من التحرر الأدائي لكل مؤدي بما يتفق ورؤيته الخاصة و
موقعه الشخصي من العمل .. طالما أننا أمام استحضار لحالة وجدانية و روحانية
يستشعرها المؤدي والمتفرج ولسنا أمام شخصيات درامية.
وطالما
أننا أمام حالة لها طبيعة صوفية فإن الموسيقي والغناء يتم استحضارهما لتحقيق إيقاع
وتنشيط المشاعر والتواصل مع أعمق المشاعر الإيمانية، وهو ما حققه المغنين بشكل
كامل سواء المطرب (طارق فؤاد) أو كل من (أحمد منير وفارس) ، فالتساوي بين مساحة
الغناء والأداء التمثيلي ربما كانت تشير إلى أهمية الغناء والطبيعة الغنائية في
تلك الأمسية والدور الكبير لها ، وهو ما يتضح من إبراز الملحن (طارق فؤاد)
لجماليات الصوت البشري و إتاحته الفرصة أمام المغنين لاستعراض إمكانياتهم الصوتية.
في
النهاية ربما كانت (بردة البوصيرى) نموذج جيد لكيفية استغلال المسرح لتحقيق حالة
من التواصل الروحاني وتنمية المشاعر الدينية و استحضارها ، بما يجعله عرض مناسب
جداً لشهر رمضان الذي يقدم فيه. فهو عمل يستطيع التواصل مع متلقيه عبر جماليات
الشعر والموسيقي والغناء برغم حالة السكونية التي ينطلق منها والتي تتجلى على مستوي عدم اهتمام
المخرج برسم خطوط حركية معقدة أو جمالية ، فاعتماده على الصوت البشري و جماليات
اللغة و التواصل الروحاني كان هو الشاغل الأهم والأكبر ، وقد نجح فيه بشكل كبير.
هناك تعليقان (2):
قراءة واعية و مستنيرة للعمل ..
شكراً يا ريس
إرسال تعليق