قبل
عقود عاد طلاب الدراسات العليا من أمريكا وأوربا ( وعلى وجه خاص ألمانيا ) حاملين
معهم مصطلحاً شديد الغموض والإبهام (الدراماتورج)، وربما عاد سبب غموضه (في تلك
المرحلة) إلي ندرة المحاولات جادة لترجمة ذلك المصطلح إلي اللغة العربية باستثناء
محاولة د. محمد صديق (رحمه الله) والتي
توقف فيها عند وصف الدراماتورج بأنه (شيف/ طباخ ) وعرفه بأنه شخص يقوم بجمع
المكونات الأولية للعمل المسرحي وتقديم المنتج النهائي للمتلقي . وعلى ما في هذه
المحاولة من طموح إلا أنها تظل قابعة في عالم الوصف الخارجي لمهنة غامضة وغير
مفهومة ومتداخلة مع مهن مسرحية أخري (المؤلف/ المخرج / الناقد) ... وهو ما جعله تعريف هش وبدائي للغاية، لكنه لم
يزل يمثل نموذجاً مثالياً للمحاولات الأولي والأساسية التي حاولت طرح تلك الوظيفة
على دولاب العمل المسرحي.
وبالتأكيد
فإن عدم وجود ترجمة أو تعريف مكتمل لتلك المهنة جعل من الممكن (بل ومن الطبيعي) أن
يتم شغل المصطلح من قبل أقرب المهن الدرامية (المعد الدرامي)
لم
يتم الأمر بمثل تلك الدقة والوعي من جانب الممارسين للإعداد المسرحي ، لكن شيوع
المصطلح و ضبابية معناه جعل من الممكن شغله كما حدث مع مصطلح السينوغرافيا على
سبيل المثال .
ولكن
مع مرور الزمن أصبح من الممكن - ونتيجة لتراكم الكتابات النقدية والتعليمية و
المقالات التوضيحية و التفسيرية.. الخ – أن يجد الباحث الكثير من المواد التعريفية
لمصطلح الدراما تورج وتعريف لمهنة الدراماتورجية و تحديد لمهامه بل والمهارات التي
يجب توافرها فيه ، ويمكن بالعودة لمحرك البحث جوجل العثور على الكثير من المواد
التوضيحية بل والمفسرة للاختلافات الدقيقه بين مهنة الدراماتورجي الأمريكي
والدراماتورجي الانجليزي وألماني ..الخ
ومن
هنا ربما لم تعد هناك حاجة لترجمة المصطلح تماماً مثل مصطلح السينوغرافيا الذي
توطن داخل اللغة المهنية الخاصة بالمسرحيين ، لكن أزمة الدراماتورج الحقيقية وعلى
خلاف السينوغراف أنه لم يستطع التوطن داخل المهنه المسرحية أو إيجاد موقع له بالعملية
الإنتاجية للعدد (على الرغم من توطنه الاصطلاحي) من الأسباب يمكن أن نجملها في :-
1- أن
أقرب مسمي وظيفي لمهنة الدراماتورج داخل منظومة مسرح الدولة تحتله وظيفة الباحث
المسرحي وهي مهنة شديدة الفقر والجمود تتوقف عند حدود إبداء الرأي في العمل
المسرحي وهو ما يعني عدم وجود علاقة بينها وبين الهيكل الإنتاجي للعرض المسرحي ،
وهو ما يجعل من الصدام بين الباحثين و الإدارة الفنية أمراً اعتيادياً بسبب إصرار
الباحثين على تحويل تقاريرهم إلي جزء فاعل في الخطط الإنتاجية لمسرح الدولة ، في
حين تحاول الإدارة والفنانين التملص من تلك السلطة المتعالية على العرض المسرحي
والمفارقة لواقع عملية الإنتاج عبر تهميشها أو تفتيتها .. الخ . وبالتالي فإن بزوغ
مهنة الدراماتورج يصبح أمراً شديد الصعوبة بل يدخل في طور الاستحالة ما لم تعاد
هيكلة دور الباحثين وإعطائهم مهام الدراماتورج أثناء البروفات والعرض.
2- على
مستوي الهواة والفرق المستقلة وغيرها من أشكل الإنتاج الفقير يصعب تخيل أثقال
العرض المسرحي بمهنة جديدة خاصة وأن الفرق الصغيرة ربما لا تحتاج لكثير من المهام
الإنتاجية و الفنية التي يتحملها الدراماتورج في الفرق الكبيرة والمستقرة مالياً
وهيكلياً .
3- الإدعاء
الدائم بندرة العناصر صالحة للقيام بدور الدراماتورج .. وعلى غرابة و سخف مثل تلك
الإدعاءات إلا أنها تستمد وجاهتها من عدم وجود عناصر فنية أو نقدية مؤهلة للقيم
بعملية تحول مهني نحو الدراماتورجية ، وهو ما يعود بالتأكيد لعدم وجود موقع فني
ومالي داخل العرض المسرحي يحقق دخل مادي ومعنوي ملائم يدفع لظهور مشتغلين بتلك
المهنة وإحداث حالة تنافسية فيما بينها.
4- مهنة
الدراماتورج مهنة مثقلة لميزانية العرض المسرحي ، فهي تفترض وجود إصدار مصاحب
للعرض لتعريف المتفرج بالنص والكاتب و فريق العرض وكذلك تحليل للنص وتقدم للمدرسة
الفنية التي ينتمي إليها العرض .. الخ وهو ما يتجاوز بالتأكيد الصورة البدائية
للبامفيلت الذي تحتجزه الإدارة لكبار الزوار لتوفير المصاريف الإنتاجية !!! وكذلك
فإن دخول الدراماتورج على خط أنتاج العرض المسرحي يستدعي تقليل سرعة عجلة الإنتاج
و كبحها مما يعني إطالة فترة البروفات .. هو أمر مزعج بالتأكيد للكثير من ممارسي
المهني بسبب سياسيات الإفقار التي تجعل من فترة البروفات فترة مرهقة مالياًً
لميزانية المشاركين بالعرض دون عملية تعوض حقيقي.
بالمجمل
فإن مهنة الدراماتورج تظل خارج العملية الإنتاجية لدواعي إنتاجية ولعدم وجود مردود
مادي لممارستها حتى وإن توافرت الخبرات الكافية.وهو ما يعني تعطيل الدراماتورج
كمهنة وتحويله إلي مصطلح يمكن التشدق به من جانب بعض ممارسي المهنة مصرياً وعربياً
.. أو الدعوة لإيجاد المهنة دون محاولة تخطي الصعوبات التي تواجه شرعنتها داخل
العملية الإنتاجية والقبول بها .
من
هنا ربما كانت الدعوة لتفعيل مهنة الدراماتورج ترتبط بالأساس بالفرق الكبيرة و
المستقرة لكنها ومن جانب أخر تظل غائبة بسبب عدم توافر أرادة سياسية أو أدارية
لتخليص تلك المهنة من سياسات الإفقار التي مارسها النظام السياسي السابق والتي
تصاعدت بعد الثورة في ظل سحب هيمنة تيار معادي للفنون على الواقع السياسي .
وعليه
فإن الدعوة لعودة مهنة الدراماتورج لابد أن تعني في ما تعني رفع سياسات الإفقار ،
إعادة هيكلة المنظومة الإنتاجية بما يكفل واقع جديد صالح لنمو تلك المهنة ، تنمية
فرع دراسي بالمؤسسات التعليمية (المسرحية) لتدريب وتكوين عناصر صالحة للقيام بمهنة
الدراماتورج (حتى لو كان ذلك يعني إضافة مادة جديدة لدارسي قسم الدراما والنقد
المسرحي) ، إعادة هيكلة وتقنين وضع الباحثين للقيام بدورهم الأساسي داخل منظومة
إنتاج العرض المسرحي وليس كعناصر هامشية أو استشارية أو في أفضل الأحوال نقدية
معزولة عن عملية الإنتاج المسرحي .
تلك
مجرد افتراضات تستدعي وجود تحرك جماعي ومنسق بين مؤسسات عديدة (إدارية، تعليمية،
تشريعية، مالية.. الخ)وهو أمر مستبعد حالياً أو في المستقبل القريب بسبب الحالة
العدائية التي يواجه بها المسرح والتي تجعل من النظر إليه كسلعة تعاني الكساد هي
الأكثر انتشاراً تستدعي أنشاء إدارات للتسويق وليس كمنتج إبداعي يعاني من فشل
إنتاجي يستدعي إعادة هيكلة لمنظومته الإنتاجية ودعمه مالياً ليخرج من أزمته.
وحتى
يصبح ذلك ممكناً فلا تحلموا بأن يكون هناك دراماتورج في المسرح المصري.
هناك تعليقان (2):
استمتعت بقراءة هذا المقال الرائع، وإن كنت أرى أن وجود وظيفة متفردة للدراماتورج في مسرح الدولة خصيصاً سيكون أجدى من وظيفة الباحث التي تتسم بالشكلية، شريطة أن تحدد له مهام واضحة لعدم الخلط مع مهام المؤلف أو المخرج، إن عمل الدراماتورج يتصل بكل عناصر العرض المسرحي، وليس النص فقط، وقد تكون مرحلة بناء نص العرض، بما تتضمنه من تفاصيل تخص كل عناصره أحد أهم وظائف الدراماتورج، وكذلك البحث عن طبيعة الجمهور المستهدف، أما بالنسبة للفرق المستقلة والإنتاج محدود التكلفة والمسرح الرسمي الفقير، أتصور أنه من الأجدى أن يقوم المخرج - إذا استطاع - بهذه الوظيفة. تحياتي
في البداية أعتذر عن التأخر في الرد.
.. إما بالنسبة لتعليقك يا دكتور فأنا فخور برايك بالتأكيد واتفق معك في ما تطرحه فوظيفة الباحث المسرحي وظيفة غائمة المهام و عالقة داخل دولاب العمل فلا هو إداري بالمعني المفهوم ولا هو فنان .
إرسال تعليق