ربما
لم تشهد مصر نجاح لثورة الشعبية مثل تلك التي قادها رجال الأزهر في مطلع القرن
التاسع عشر - والتي انتهت بتأسيس "محمد على" الدولة المصرية الحديثة كما
نعرفها الآن – فخلال ما يزيد على مائتي عام لم يقدر لأي ثورة موجهة ضد نظام الحكم
أن تحظي بالنجاح كافي لتخليق واقع جديد ، فلقد ظلت تلك الثورات و الانتفاضات
الشعبية المتوالية ذات أفق محدود بتحسين ظروف الواقع أو مواجهة المستعمر ، وفي
أفضل الأحوال كانت تنطلق نحو التعبير عن طموحات طبقة البرجوازية المصرية ومشروعها
المقموع.
وإذا
كان ذلك هو واقع الثورات المصرية فمن الطبيعي أن نصل إلي يقين بأن كافة المؤسسات
الاجتماعية و مؤسسات الدولة لم تهتم سوي بإضافة تراكمات وتحسينات للنموذج الأصلي
القائم على احتكار الدولة المصرية للمجال العام والتأكيد على دورها أبوي تجاه
المجتمع القانع بدور الرعية والمُسلم زمام قيادته و مصيره للدولة المركزية في
مقابل تعهد الدولة بتنظيم وتحديد ورعاية و حماية المجتمع ككل ..
ولأن
المسرح لم يكن في يوم من الأيام مجرد فن نخبوي أو معزول عن واقع المجتمع ؛ فلقد قامت
الدولة المصرية منذ عهد الخديوي إسماعيل بإضافته على جدول مهامها الثقافية
والتربوية التي تسهم في تنمية المجتمع والقضاء على بقايا الدولة القديمة المناهضة
للتنظيم المركزي والتي أقامتها الدولة المملوكية التي تكتسب فيها الدولة شرعيتها وقوتها
من هشاشتها وكونها نظام يقوم لصالح
مجموعات عسكرية متصارعة ومجزئة للوطن .
من
هنا كانت السكك الحديدة و دار الأوبرا والمعمار الأوربي من أوائل المظاهر التي
اندفعت إليها الدولة المصرية في عهد إسماعيل لتحقيق حلم الدولة القومية الحديثة ، فالسكك
الحديدية لربط الأطراف بالمركز و المعمار الأوربي بالقاهرة والإسكندرية (خاصة بمناطق
وسط مدينة الحديثة) لتخليق المدينة الحديثة ذات الشوارع الواسعة والمفتوحة والمستقيمة
للقضاء على أبواب الحارات التي تفصل وتجزئ الدولة بحدود داخلية ، والقضاء على
الطرقات الأفعوانية التي يصعب على الأمن فيها فرض سيطرته. وبالتأكيد فإن المسرح
ودار الأوبرا و الجامعة والجيش والشرطة النظامية.. الخ يستكملون عناصر هيمنة
الدولة على الواقع ويفسحون المجال لتخليق الثقافة الملائمة للدولة القومية
المركزية بنمطها المصري.
من
هنا كان المسرح - ومنذ البداية - نموذج مثالي للدولة القومية الحديثة التي كانت في
قمة مجدها في منتصف القرن التاسع عشر.. فهو وجه مدني يكتسب حيويته من علاقته
التاريخية بالمدينة .. كما كان دوماً مناقضاً لثقافة العصور الوسيطة القائمة على
القلاع والإقطاعيات التي تناهض بسط سيادة الدولة.. كما أن العلاقة الجديدة التي
أقامتها البرجوازية الأوربية مع فن المسرح نزعته من التصور الكلاسيكي الذي كان
يحتجزه في قصور النبلاء و الموضوعات التراجيدية التي تهتم بأزمات تلك الطبقة و تؤكد
هيمنتها .. ووضعه في قلب المدينة كمظهر من مظاهر تحضرها ورمز لثقافتها .
إن
المسرح إذن كان بالنسبة للدولة المصرية الحديثة التي أنشئاها محمد على أقرب للاحتياج
ولم يكن مجرد مظهر للتعبير عن الترف الفكري لطبقة (برجوازية) محدودة لم تزل في طور
التكون بعدما عادت من البعثات العلمية بأوربا.
من
هنا كان على الدولة المصرية أن تقدم نفسها كراعي أساسي (داعم) لفن المسرح .. وهي
الرعاية التي ظلت تتطور بإشكال مختلفة وتنوعت بين الرعاية المباشرة عبر دخول
الدولة كلاعب أساسي في عملية الإنتاج أو عبر الرعاية غير المباشرة عبر الدعم
المادي أو المعنوي والقانوني والأمني للفرق المسرحية، و حمايتهم من هجوم القوي
الدينية أو الرجعية.
ومن
خلال ذلك كله أكتسب الفن المسرحي بمصر علاقة متميزة مع الدولة يصعب أن نجدها في أي
مكان أخر بالعالم حتى في الدول الأوربية التي قدمت للدولة المصرية النموذج الحضاري
، ذلك أن المسرح الأوربي ظاهرة اجتماعية وفنية أصيلة داخل ثقافة تلك المجتمعات ، وبالتالي
لم يكن على الدولة القومية الأوربية الحديثة لعب دور أضافي لتنمية المسرح ، بينما
وعلى العكس فإن المسرح المصري فن تمت زراعته داخل تربة تمتلك مظاهرها الأدائية
الخاصة بها .. وبالتالي كان من الواجب حمايته ودعمه بشكل مباشر من قبل الدولة في
مقابل تشديد قبضة الدولة على بقية الفنون الأدائية (الشعبية) وملاحقة فنانيها أمنياً
وأخلاقياً تحت دعاوى مختلفة (متشردين – شحاذون – لصوص – منحطي الأخلاق .. الخ).
ونتيجة
لذلك كله يمكننا أن نصل للاستنتاج مفاده إن المسرح المصري ليس مجرد تلك العروض
المسرحية التي تقدمها مسارح الدولة وترعاها وزارات التعليم والشباب والمحافظات في
المدارس والجامعات ومراكز الشباب..الخ. لكن دوره الأخطر يكمن في الدور السياسي و
الاجتماعي الذي يحققه وجوده ، تماماً مثل بقية مؤسسات الدولة التقليدية التي حافظت
عليها الأنظمة المتعاقبة بداية من النظام الخديوي ، مروراً بالنظام الملكي الذي
أعاد رعاية الدولة المباشرة للمسرح بعدما انهارت الفرق المسرحية في الثلاثينيات نتيجة
للأزمة الاقتصادية والحرب العالمية، وصولاً للنظام الجمهوري الذي أعاد هيكلة
مؤسسات الدولة السياسية والاجتماعية بما يحقق هيمنة أكثر قوة وعمقاً للنظام ويدعم
خيار الدولة الحديثة ويناهض قوي ما قبل الدولة القومية التي ظلت كامنة ولم تنجح
الدولة الحديثة في التخلص منها بشكل تام .
ومن
خلال ذلك الاستنتاج يمكننا أن نؤكد أن مستقبل الظاهرة المسرحية في مصر مرتبط الآن
بالتطورات المتلاحقة والسريعة التي تعصف بالدولة المصرية منذ اندلاع (ثورة 2011 )،
فلقد اصبحت تلك الدولة على المحك، وأصبح إعادة صياغة دور الدولة وعلاقتها بالمجتمع
من المطالب الأساسية لكثير من التيارات السياسية ، وهو الأمر الذي أدي لنمو
تعبيرات وتعريفات مثل الدولة العميقة ، أو هدم الدولة ، أو إعادة هيكلة المؤسسات
الأمنية والقضائية .. الخ.
وبالتأكيد فإن إعادة تعريف الدولة المصرية
لذاتها ولطبيعة علاقتها بالمواطن و تحديد مهامها وواجباتها يعني بالتأكيد إعادة
صياغة شبكة كاملة من العلاقات التي تربط بين الدولة والمسرح ، وهو الأمر الذي يعني
أن الظاهرة المسرحية في مصر على شفا انقلاب تاريخي يمكن أن يدفع بها في أي طريق ..
خاصة وأن كافة الخيارات لم تزل متاحة.
بالتأكيد
فإن تلك النتيجة النهائية تبدو بديهية للكثيرين – خاصة إذ ما وضعنا في الاعتبار
طرح الإسلام السياسي للدولة الجديدة – ولكن ما يقبع خلف تلك السيناريوهات المخيفة
التي يتخيلها العاملين والمهتمين بالمجال المسرحي والثقافي ليس مجرد تصفية المؤسسات
المسرحية التي تمتلكها الدولة ، أو تصفية الظاهرة المسرحية والفنية بمصر عبر
البدائل المنتجة من قبل القوي الإسلامية ، أو حتى تجريم الفنون .. الخ.
إن
ما يقبع خلف تلك السيناريوهات هو اختبار حقيقي للظاهرة المسرحية ومدي قدرتها عبر
ما يزيد عن مئة و خمسون عاماً على تخليق روابط حقيقية بينها وبين المجتمع المصري ،
والتساؤل حول مدى أحقية تلك الظاهرة في التواجد ، وما هي البدائل الأدائية الممكنة
التي يمكن أن تحل مكانها في حال ذوبانها ، أو نمط المسرح الذي يمكن أن يخرج بعد
انتهاء الثورة واستقرار النظام الجديد.
نحن
هنا لا نتحدث إذاً عن خطر الإسلام السياسي ولكن إمكانية انسحاب الدولة من الأدوار
التي كانت تقوم عليها وتخليها عن الدور الأبوي وهو إمكانية مرشحة بقوة سواء تولي
الإسلام السياسي أو القوي الليبرالية.
إن
انسحاب الدولة سيعني أن المسرح سيتم التخلي عنه، وبالتأكيد فإن المسرحيين يعون
بقدر كبير الأزمة الكبيرة تتمثل في تأثير تآكل الطبقة الوسطي ،والأزمة الاقتصادية
، وانتشار أفكار متشددة دينياً ، وما يمكن أن يؤدي إليه انسحاب الدولة من انهيار
كبير لظاهرة مسرحية شديدة الضخامة و ممتدة جغرافياً عبر الوطن من شماله لجنوبه.
ولكن
هل تلك هي المخاطر التي تواجه مستقبل الظاهرة المسرحية فحسب ؟ بالتأكيد لا.. فهناك
خطر أكبر يتمثل في أمكانية استمرار الدولة المصرية في القيام بذات الأدوار التي
كانت تقوم بها خلال مائتي عام عبر تمكن النظام من اجتياز الاختبار والخروج سالماُ،
أو عبر تطويع الدولة للقوي السياسية الناشئة وإجبار تلك القوي على العمل ضمن قواعد
لعبتها عبر الضغط عليها بتهديدات تقسيم الوطن أو الأزمة الاقتصادية..الخ .
ولكن
ذلك لا يعني عودة الأوضاع لما كانت عليه ، بل على العكس إن ذلك ينذر بمزيد من
التدهور لوضعية المسرح – وتآكله- كنتيجة مباشرة
لاستمرار الدولة في الهيمنة عليه إنتاجيا ، فلقد أدت هيمنة الدولة على الإنتاج
المسرحي إلي تراجع كبير في المخاطر الإنتاجية التي يواجهها أي فريق مسرحي طبيعي ،
وبالتالي تراجعت قدرة المسرحين على أنتاج أفكار أبداعية تلائم بين طموحهم الإبداعي
وبين المتلقي ومتطلباته واحتياجاته ... وكذلك فإن هيمنة الدولة على المسرح في ظل
الأزمة الاقتصادية ونمو الأفكار المعادية للفنون سيؤدي لزيادة سياسات الإفقار التي
تمارس ضد المسرحيين بحجة كون المسرح غير إنتاجي (أو ربحي ..)، وهو ما يعني في
النهاية استمرار عمليات التآكل البطئ في مقابل النهاية السريعة التي تخيف الكثير
من المسرحيين .
إننا
إذن أمام خيارات محدودة، فهناك خيار يتمثل في تآكل بطي للظاهرة يكتسب قوته من فساد
المؤسسات المسرحية و سوء إدارتها وارتباطها بجهاز الدولة، وهناك خيار بزوغ نظام
جديد يرفض رعاية الدولة للمسرح وهو ما يعني تراجع حاد للظاهرة المسرح (في البداية
على الأقل) .. وهناك أخيراً الحل السحري وهو التوصل لصياغة مثالية بالنسبة
للمسرحيين تضمن لهم كافة الطموحات دون أن تلزمهم بأي شيء سوي أن يتفرغوا لإنتاج
فنهم والتمتع بإعجاب الجمهور و الحياة الكريمة و القيام بالدور الثقافي والفني..
الخ
ولأننا
لا نعيش في عالم سحري فإننا لن نعول على أن تتبدل الأحوال لصالح المسرح، بل سوف
نحاول أن نتوقف أمام خيارات المستقبل والتعامل معها على أنها احتمالات يجب التحضر
لها و التفاعل معها بما يضمن الحفاظ على الحد الأدنى من الظاهرة المسرحية انتظاراً
للحظة التي تتحسن فيها الظروف الاقتصادية بشكل يسمح بصعود فرق مسرحية خاصة وميلاد
متفرج يمتلك رفاهية وثقافة الذهاب للمسرح ودفع ثمن التذكرة ليستمتع بالمسرح . وحتى
تلك اللحظة فلنكتفي بالحفاظ على ما تبقي من السفينة.. أو جمع الحطام وتصنيع طوف
صغير قادر على حمل الظاهرة لبر أمن يمكنها أن تقيم فيه دون مخاطر حقيقية
ربما
نختلف حول الثورة وهل أتت لتصنيع مستقبل أفضل لمصر أم للقضاء عليها، ويمكن لنا أن
نختلف كذلك هل هي فعلاً ثورة أم مجرد انتفاضة لتقليل سرعة انهيار(أو إنقاذ) الدولة..
لكني أعتقد أنه وبعد قليل لن يتمكن أحد من إنكار حقيقة كون المسرح المصري من أكبر
المتأثرين بما جري – ويجري - في مصر ، وأن
المستقبل لن يحمل لنا الجنة لكنه سوف ينهي فترة الحضانة الطويلة التي نعمت بها
أجيال كثيرة من المسرحيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق