فجاءة وبدون سابق إنذار ... وبينما المارة يعبرون ميدان
الرمل بالأسكندرية - في وقت الذروة- سمع
صوت شابة في أوائل الثلاثينيات عبر مكبر للصوت.. في البداية لم تشغل من وقت المارة والجالسين في
حديقة سعد زغلول سوي نظرة خاطفة للتعرف والاطمئنان، لكن ما كانت تقوله أسفل قاعدة
تمثال سعد زغلول ظل ينساب ببطء عبر الحديقة والميدان وطريق الكورنيش.. لقد كانت تقول:
لقد كانت حياتنا أفضل وأجمل قبل الثورة... لماذا تركنا ذلك الأمن والاستقرار وارتفاع
أسعار البورصة لنقع في هذا المستنقع من الفوضى.. هل كنا غاضبين من الشرطة؟.. من
مبارك وأبنه ؟ من الفساد ؟ هل يكفي كل ذلك لكي نخسر أستثمارتنا ..؟
أنجذبت الأنظار
ببطء وبدء بعد المارة و بعض الجالسين في الحديقة في متابعة تلك "الشابة" التي كانت
تقف في هدوء لتقول لهم : إن أهم شيء أن نكون مقتنعيين - من داخلنا - بما فعلناه وما
نفعله ..
هنا أفجر الموقف وأندفع رجل عجوز مطالباً أياها بأن
تخبره هي إن كانت هي مقتنعه بما تقوله ؟ مدت له الميكروفون وقالت :أخبرنا أنت بما جعلك
تؤيد الثورة؟
أنطلق العجوز يتكلم ويحكي تاريخه الشخصي مع النظام
السابق.. وبعد قليل كانت هناك خليط ما بين الندوة السياسية وجلسة الحكي ... لقد
تحول الميدان إلي مكان مسرحي ، وتحول المارة والجالسين في الحديقة إلي مشاركين في
أحتفالية قوامها الشعر و الحكي المشترك بين الحضور عن تجاربهم مع الثورة ومواقفهم
منها.
عرض أخر بشوارع مدينة الأسكندرية .. إنه عرض(بيوجع !! )
للمخرج السكندري (أحمد شوقي)..
يبدأ العرض بشاب يقوم بتوزيع منشور يحمل صورة للفتاة التي
تمت تعريتها (بموقعة شارع مجلس الوزراء) على الواقفين بمحطة الأوتوبيس.. وفجاءة
يدخل رجل مكتمل الرجولة لكنه يرتدي خمار(حجاب نسائي) ويبدء في الحديث عن أن تلك
الفتاة هي المخطئة .. وأنها تتحمل نتيجة فعلها .. الخ.... مشهد صادم جعل كل من
يمسك بصورة الفتاة يدقق النظر إليها للحظة قبلما ينتقل بعينيه لذلك الرجل المًحجب
!!
إن تلك التجارب ربما تبدو مختلفة بعض الشيء عن ما يمكن
أن يتركه مصطلح مسرح الشارع في أذهننا من إنطباع .. فلقد أختفي المتفرج وحل محله
المشارك في الفعل المسرحي بصورته الأكثر شفافية ، لم يعد هناك مجموعة من المؤدين يقومون
بالتمثيل والرقص والغناء بالشارع أمام جمهور عفوي يتجمع ليشاهد تلك التجربة
الفريدة التي ندر لإزمنة طويلة ولإسباب مختلفة - أكثرها أمني – أن يراها خارج حدود
قاعة العرض .
كذلك فإن فن المسرح نفسه يبدو متآكلاً هنا ومختلطاً و
ملوثاً بأشكال أخري .. الأمر الذي قد يقلق الكثير من محترفي المسرح ونقاده الذين
أفنوا أعمارهم في البحث عن ما يميز التجربة المسرحية عن سواها ، والبحث في ما هو
أكثر مسرحية ، و نفي ما هو غير مسرحي ،وإطلاق تعبيرات إصطلاحية من قبيل (شبه مسرحي
، ظواهر قبل مسرحية ، ظواهر أدائية .. الخ) .. أنه نوع مختلف من المسرح يمتد
ليخترق الحاجز الوهمي بين الواقع و الخيالي .. وليدمج ما هو مفرط في واقعيته بما
هو مسرحي و أدائي.
وأخيراً فإننا هنا أمام تجارب ذات طبيعة تحريضية واضحة
ومحددة التوجه السياسي .. تجارب تنطلق من إستخدام خطاب القوي المعارضة للثورة في
الشارع بشكل صادم وفي إطار تغريبي ينتزعها من الإطار الذي تقدم فيه - والذي يهبها
شرعيتها ومصداقيتها - . أنها تجارب تقوم بإلقاء الخطاب المضاد للثورة في عرض الطريق
بعدما تعريه و تجعله هدف سهل وقابل للتمزيق ... وقبل كل شيء فإننا أمام أفعال
مسرحية لا تستحي من أستخدام لغة الشارع و أخلاقيته و منطلقاته الثقافية ،ولا تخشي
من مناقضتها في ذات الوقت - كما هو الحال في عرض بيوجع!! الذي جعل من الحجاب إشارة
على إنتفاء الرجولة .. لكنه جعله أيضاً علامة على الرجعية .
بالتأكيد فإن ذلك النوع من العروض ليس هو الجسم الحقيقي
لمسرح الشارع الذي يزدهر حالياً (مع حالة التفاؤل الثوري التي تجتاح بعض المسرحيين
والمثقفين المؤمنين بإمكانية الخروج للشارع) لكنه مؤشر قوي على محاولة إعادة إنماء
العلاقات المبتورة بين المسرح والمجتمع عبر تفعيله ودفعه للقيام بأدوار ذات صبغة
سياسية بعيداً عن الأجواء الإحتفالية التي
تصاحب العروض المسرحية التي تعد خصيصاً للتقديم بالشارع كما هو الحال في عروض الهيئة العامة
لقصورالثقافة التي تقدم بالميادين .. أو بعض التجارب المستقلة ...
إننا أمام نوع من مسرح الشارع لا يهتم بالتصفيق أو نظرات
السعادة على وجوه المتفرجيين أو كلمات التشجيع لفريق العمل .. بل هو على العكس
مسرح ولد من رحم المظاهرة والإعتصام و منصات الخطابة بالميادين والمتظاهريين الذي
يحتجون بشكل أدئي عبر الملابس أو الأداء الصوتي .. الخ . إنه الوليد الشرعي لتلك
الأشكال الأدائية كما أنه يرتبط بصلة قرابة مع بعض المحاولات العالمية كما هو
الحال مع تجارب المخرج أجستوبوال .
بالمجمل إن مسرح الشارع فضح للمسرح المصري المعزول داخل
قاعات العرض الفارغة والغارق في أغترابه عن المجتمع ، فلقد كشف عبر حيويته وسخونته
و إندفاعه نحو المتلقي عن وجود مساحة فارغة في الشارع يمكن للمسرح أن يدخلها بعيداً
عن الحركة البطيئة والمتعثرة التي تعاني منها الفرق المسرحية التقليدية التي لم
تستطع بعد إستيعاب المتغيرات ومواكبة التطور السريع للأحداث ، وهو ما يوحي بدخول
مسرح الشارع كشريك - قوي ورديكالي - في مستقبل المسرح المصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق