ربما كانت المونودراما شكل مسرحي شديد الجفاف بالنسبة للكثيرين من الممارسين أو المتابعين ، فمن ناحية المونودراما أقرب ما تكون لاستعراض إمكانيات و أدوات الممثل الفرد الذي يستحوذ على خشبة المسرح ليقدم مهارته و قدراته .. وهو ما جعل المونودراما أقرب ما تكون لاختبارات الأداء التمثيلي وتدريبات الأداء المسرحي.
وكذلك فإن المونودراما تقدم حلاً تقنياً و مادياً لكل مخرج يرغب في تقديم عرض بسيط ومسطح أو معتمد على تحليل نفسي سطحي للشخصية المحورية .. فلا حاجة لامتلاك مهارات أو خبرات مسرحية ، و لا خوف من عدم القدرة على تجميع مجموعة تقوم على أنشاء فريق مسرحي ، وأخيراً فلا حاجة للكثير من المصروفات المالية ، فعرض المونودراما غالباًً ما يقدم في فضاء محايد لا تشغله سوي موتيفات وإكسسوارات و قطع ديكور قليلة .. الخ. وهو ما يجعل من المونودراما نموذج لفقر الإمكانيات و الخيال و الفكر.
ولكن لعل مصادر ذلك الجفاف الذي يستشعره الكثير من المسرحيين والمتلقين هي ذاتها مصادر تقدير عدد من الجهات التي تقوم على تنظيم مهرجانات مسرحية (كما هو حال ساقية الصاوي التي اختتمت الدورة السابعة من مهرجانها الخاص بالمونودراما ) فهو فن غير مكلف مادياً ، والأهم أنه قادر على أبراز العناصر التمثيلية وإعطاء فرصة كاملة للشباب للتقديم مهاراتهم التمثيلية ، ولعل ذلك كان هو السبب المباشر في ذلك العدد الكبير من العروض المسرحية التي تشارك في ذلك المهرجان (على تنوع مستوياتها بالتأكيد) .
ولكن وبين وجهتي النظر(المؤيدة والمعارضة) للمونودراما ربما نجد الصورة الأكثر موضوعية لذلك الشكل المسرحي الذي يبدو غريباً عن تلك اللحظة التاريخية التي تمر بها مصر حالياً لاعتماده على الفرد المنعزل والمحاصر ، وهو ما لا يتفق ووضعية المجتمع في ظل الثورة للحد الذي تبدو فيه المونودراما فن شديد الغربة والبدائية عن المجتمع في تلك اللحظة ،وهو ما يتجلى من خلال العروض التي قدمت في اليوم الثالث والأخير من مهرجان المونودراما بساقية الصاوي .. فالخمسة عروض التي قدمت تتفق جميعها في مجموعة من السمات لعل أولها بالتأكيد هو عزلة الشخصيات الدرامية المقدمة و حصارها زمنياً و مكانياً وعلى المستوي النفسي ، كما تتفق الخمسة عروض في اهتمامها الواضح بالتأكيد على استعراض مهارات المؤدي الفرد و قدرته على التحرك بين أكثر من شخصية والعودة للشخصية الأساسية التي يقوم بأدائها ،كما نجد بشكل واضح في عرض (مانيكان) للمخرج / محمد نبيل و الممثل / إسماعيل مصطفي فالتنقل بين الشخصيات لا يحمل قيمة درامية بقدر ما يؤكد على مهارات المؤدي بينما يظل العرض هائماً في عزلة (الشخصية/المانيكان) المحاصرة داخل المحل ليلاً داخل تخيلاتها العامة والبسيطة والتي تحاول تأمل وضعيتها وعلاقاتها بما حولها بداية من الفتاة التي تقع في حبها ونهاية بالملابس التي تعرض عليه .
ولعل ذلك ما يتأكد في بقية العروض بداية من (المتشائل) للمخرج/ أحمد حسن و الممثل/ إسلام عبد الفتاح في والذي يقدم لشخصية شاب يسترسل في ذكرياته و علاقاته بينما هو منتظر لمقابلة المسئول .
أو حتى (ابن اللاذينا) للمخرج والممثل / مينا صدقي والذي يعرض لعلاقة الشيطان والإنسان في إطار أخلاقي ووعظي.
بالمجمل فإن كافة العروض تميل إلي للاستفادة مما توفره المونودراما من مساحة لتقديم مهارات المؤدي الفرد أمام شخصية وحيدة ومعزولة يمكن تشريحها بمعزل عن العالم، لكن وبالمقابل فإن كافة تلك العروض بالإضافة إلي عرضي (الوجه الأخر للموت) و(سوكسية) افتقدت بالمقابل للخبرات المسرحية (التقنية) الأساسية فأدي ذلك لهشاشة البناء المسرحي بكافة تلك العروض ،وهو ما برز في اعتماد العروض - بالأساس - على قدرات الممثل دون الانتباه لبقية عناصر العرض المسرحي ، ونهاية بالطرح الذي تقدمه تلك العروض والتي تركز في المجمل على فرد مأزوم داخل موقف أو وضعية غير قابلة للحل إلا عبر الموت أو الجنون أو الخضوع .. بشكل يجعل من جسد العرض مجرد تهويمات رثائية تقوم الشخصية بقديمها بلا صراع أو تحاور بين مواقف أو مواقع فكرية أو أيديولوجية مختلفة .. فقط لا نجد سوي صوت رثائي وحيد غير قادر على تجاوز ذاته ، وهو ما جسد أزمة العروض و مرتكزاتها في ذات الوقت ، الصوت الواحد الذي يسبح في فضاء العرض المسرحي ولا يمتلك سوي تقديم ذاته وحتى عندما يرغب في تقديم الآخر فأنه يقدمه من خلال رؤيته له.. ولولا محاولات من قبل عرض (المتشائل) للمخرج/ أحمد حسن و الممثل/ إسلام عبد الفتاح للتحاور مع الصالة و كسر تلك العزلة لكن من الممكن الحديث بأريحية عن طبيعة عامة مهيمنة على العروض.
ولكن لنعد لتلك الأزمة الأساسية للصوت الواحد و التي يمكن أن نراها متجسدة من خلال عرض (سوكسية) للمخرج/ عمرو مجدي و الممثل /محمود شعبان ، حيث يقم لنا العرض نموذج مثالي على تلك الأزمة ،فالعرض يقدم لأزمة ممثل يعاني من مشكلة في جهازه الصوتي تحول بينه وبين تحقيق حلمه بالتمثيل .. ولكن الأزمة الحقيقية خلف موضوع العرض هو التماثل بين تلك الأزمة وبين كون الممثل ذاته كان يعاني من مشكلة في الصوت جعلته غير قادر على التواصل مع المتلقين بشكل ييسر عرض موضوع المسرحية.
لقد تحول موضوع العرض إلي موضوع شخصي و ذا صبغة ذاتيه لدي المتلقي الذي لم ينجح في الإفلات من الربط بين الممثل والشخصية الدرامية نتيجة هيمنة صوت الشخصية و أزمة التواصل مع الممثل على الفضاء وعدم وجود أي صوت أخر يوسع من مساحة العرض او يعمق من مضمونه.
بالمجمل فإن كافة تلك العروض التي قدمت باليوم الأخير لمهرجان المونودراما بساقية الصاوي وبرغم تنوع أطروحتهم بين السياسي والأخلاقي والنفسي فإنهم جميعاً ظلوا يهيمون في عالم منعزل وبدائي الطابع ذا طبيعة رثائية مغلقة الأفق لا تحاول الخروج للعالم ولا ترغب في التحاور معه بل تكتفي بصوت واحد حتى لو ظهر هذا الصوت متناقضاً على ذاته كما هو الحال في عرض (الوجه الآخر للموت) للمخرج هاني مهران والممثل بولا إدوارد الذي يتناقض فيه ذلك الصوت بين تلك العلامة البصرية (الصليب المعقوف رمز النازية) وبين تلك شخصية الجندي الوحيد والمحاصر والخائف دون تحديد علاقة واضحة بين ذلك الرمز الدال على الدموية و القسوة والأفكار العنصرية وبين وضعية الجندي الخائف و المعزول ،إلا لو كان العرض يقدم مرثية للنازية ذاتها كقوة مهزومة ،وهو غير المنطقي بالتأكيد .
لقد تلاقت تلك العروض و تفرقت وظلت في النهاية المونودراما هي سيدة الموقف بتناقضاتها وفقرها وإبرازها للمهارات التمثيلية لدي الممثل ، وهو ما يعيدنا إلي تلك المنطقة التي انطلقنا منها عندما حاولنا أن نري المساحات الفاصلة بين اهتمام مؤسسة ثقافية كساقية الصاوي بالمونودراما إلي هذا الحد في مقابل وجهة النظر التي تقلل من شأنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق