نشر تحت عنوان (أجذر منطقة أمل ..عرض معارض للسلطة والنظام) ضمن نشرة ملتقي مسرح الشارع الذي أقيم بميدان التحرير
يمكن بشكل شديد العمومية إمساك القاعدة الأساسية التي تحكم
ظاهرة مسرح الشارع ، إنها قاعدة الطابع الراديكالي الذي يجب أن يفيض به العرض
والذي يأتي كرد فعل مباشر للمنطق الذي يحكم الفنان الذي يتخلي عن استقرار المبني
المسرحي وما يوفره من قواعد اجتماعية وفنية تحدد العلاقة بين المتفرج والعرض ، وما
يقدمه من عمليات تحديد (خارج المسرح / داخل المسرح) وما يترتب على ذلك من إغلاق و
نفي لكل ما هو واقعي أو يومي ، وهو ما يترتب عليه - بالضرورة – تحديد مجال العمل و
غلق أفقه داخل الحدود الهندسية للمبني المسرحي .
إن الفنان عندما يترك الداخل ليخرج للعالم يغامر بأن يفقد ما
يقدمه له المبني المسرحي من إمكانيات ، لكنه وبالمقابل يتخلص من سلطة المبني التي
تحدد ما يمكن رؤيته و من يمكنه الرؤية و تحطم علاقات المراقبة والعزلة التي تضعه
داخل سلم سلطة تمتد من السلطة الإنتاجية وتمتد حتى أبسط العلاقات وأكثرها عفوية ،
فداخل الفضاء المسرحي كل شيء خاضع لقواعد وعمليات ضبط للسلوك الجسدي و الصوتي ..
بل وحتى الأوقات التي يمكن للمتفرج فيها التصفيق أو إظهار استهجانه من العرض .
بالتالي فكل من يخرج من تلك الحدود يصبح بالضرورة خارجاً على
القواعد الحاكمة للقواعد المسرحية .. أنه متمرد و غاضب و رافض .. أنه مرتد إلي
الوضع المسرحي الأول .. الفرجة والمشاركة الجماعية ..
ربما لا يرغب المبدع في أن يصبح راديكالي على المستوي
السياسي لكن وضعيته تدفعه إلي اتخاذ تلك الوضعية الراديكالية وتبني نصوص بعينها
واختيار أشكال دون غيرها .. لكي يتلاءم مع وضعية الشارع المفتوح والعام والمنتهك
طوال الوقت .. الشارع غير القابل لعمليات الضبط والتحديد إلا بشكلها
المباشر(الشرطة/الرقابة الاجتماعية للأخلاق) .
وبما أن تلك السلطات الانضباطية بطبيعتها معادية للفن
المسرحي (داخل ثقافتنا بشكل خاص) فإن مسرح الشارع سيدخل في عداء معها وينتعش في
غيابها و يتمدد ليشغل كل فضاء تغيب عنه كما هو الحال في ميدان التحرير الذي تحول
إلي أيقونة لمناهضة السلطات الاجتماعية والسياسية التي أصبحت تجد نفسها في وضع
مرتبك إلي حد محاصرته بالحوائط (على المستوي الرمزي) حتى يتمدد .
إن تلك المقدمة الطويلة ربما تعطينا فكرة عن عرض (أحذر منطقة
أمل) لفرقة قصر ثقافة مغاغا والتي قدمها مجموعة من الشباب قاموا بتأليف العمل ضمن
ورشة جماعية تحت قيادة (المخرج /جمعة محمد) ، فمنذ البداية نحن أمام عرض ينطلق من
إطار جذري في رفضه للمجلس العسكري و يحاول عبر استخدام الغناء و الحوار مع
المتفرجين والحكى والمشاهد القصيرة وغير المرتبطة بإطار درامي تقليدي ، بل أن
العرض قد فاض عن الحدود التي وضعها الممثلين ليتحول إلي أشتباك واقعي بين متفرج يمثل الرقابة الاجتماعية وأخلاقية
المدافعة عن سلطة المجلس والسلطة الأبوية بشكلها اعم وبين متفرج شاب ينتمي لذات
التوجه الراديكالي الذي يحمله العرض.
لقد أندمج العرض بالمحيط وتحول أسم العرض (أحذر منطقة أمل)
ليشمل الميدان المناهض لسلطة الشرطة والمجلس و السلطة الأبوية بكل ما تقدم من
نصائح و قواعد انضباطية تتعامل مع كل خروج عليها على انه تمرد وفوضي وتحطيم
للمجتمع ولخطاب السلطة ..
لقد نجح العرض في أن يجد الأرضية الملائمة له عبر راديكاليته
و عنفه في المواجهة ، ونجع في - برغم ما مثله ذلك من تهديد لوجوده- أن يندمج مع
محيطه ويتحول إلي جزء من تلك الحالة الجماعية والمسرحية التي تميز الميدان المنفلت
و الخارج عن الطاعة ، وبالتالي فلقد نجح في أن يقدم نموذج لمسرح الشارع كحالة
مسرحية متمردة على النظام المسرحي المتحلل والذي لم يزل قابع في ظل السلطة ، حتى
لو كانت تلك السلطة هي ذاتها هي من تدعمه مالياً عبر الهيئة العامة لقصور الثقافة
... فتحول تناقضه الداخلي (مسرح شارع من أنتاج الدولة) إلي أداه في تحدي السلطة
بشكلها العام والمتجاوز للأفراد و الرموز والكيانات .
ولعل ذلك الاندماج الأخير بين العرض و الجمهور عبر رفع الممثلين للحدود التي أقاموها و تحركهم
بها وسط المتفرجين وهي تحمل أسم العرض
يؤكد على سعي العرض الراديكالي للتواصل والتأثير في متفرجه بعيداً عن الجماليات
والقواعد النقدية المغلقة والمحددة لما هو جميل ومسرحي والتي أدت خلال سنوات طويلة
في تحجيم و تقزيم الحركة المسرحية (بالتضامن مع سلطات المنع والرقابة والتحديد)
ليتحول إلي كائن متوحد و غير قادر على التواصل مع لغة المجتمع المقموع والمهمش
لصالح السلطة الأمنية والإنضباطبة التي لم تزل تقاوم عبر القوي الدينية و الأمنية التي
استغلت فراغ السلطة السياسية بسقوط القيادة السياسية لتحل محلها وتشغل مكانها
لحماية السلطة من الانهيار.
ربما كان ذلك فيه تضخيم للعرض و تجاوز عن بعض سلبياته .. لكن
العودة للمهمة الأساسية للفن المسرحي كفن مناهض ومناقض للسلطة ، كفن ينطلق في
فترات تراجع و تخلخل قبضة السلطة .. عودة يمكن أن تجعلنا نتقبل العرض وثغراته
كنقاط قوة وليس كسلبيات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق