لم يزل الصعيد المصري حالة خاصة ومتميزة في تركيبة الثقافة
المصرية ، فهو مركز ومرجعية لتلك الثقافة لعمقه التاريخي و امتداده الجغرافي ، وهو
من ناحية أخري نموذج مثالي لثقافة مغلقة ومعزولة غير قابلة للتطور ضمن الإطار العام
للثقافة المصرية بحكم عزلته وطبيعته القبلية والطائفية التي لم تنجح الدولة
الحديثة منذ (محمد على) في اختراقها وتصفيتها كما فعلت في الدلتا المنبسطة و التي
تشربت بدرجة أكبر ثقافة المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية .
لكل ذلك وأكثر فلقد أصبحت الثقافة الجنوبية مصدر إزعاج و قلق
بالنسبة لأي نظام سياسي حكم مصر ، ولعل ذلك قد تجسد في حالة الإهمال و التجاهل
التي تعامل بها النظام الجمهوري مع الصعيد والذي تطور إلي حالة حرب حقيقية بين
النظام و التيارات الدينية المتطرفة التي وجدت في الصعيد أرضية خصبة تدمج بين ما
هو ديني وما هو قبلي للحد الذي انتهي بالقصف بالطائرات العسكرية للمزارع و خروب
المدن التي خلفت دماء و كراهية و كفر بالدولة وارتداد لما هو قبلي كمصدر أخير
للهوية ، مصدر ربما تفجر في المرحلة الأخيرة – بعد الثورة في تفجر الصراعات
القبلية -بين العرب و الهوارة ليعيد الوجه القبلي القديم الذي كان مقموعاً بقبضة
أمنية قاسية وفجة لا تعاملت بذات المنطق الثأري و استخدمت ذات الثقافة لقمع الصعيد
.
لعل تلك الأفكار المختزلة والمكررة حول الوضع الصعيدي يمكن
أن تمثل مدخلاً لفتح علاقة مع عرض (أحنا في امبارح) للمؤلف / عبد الهادي النجمي والمخرج
/ أدهم جابر والذي قدم من خلال فرقة مسرح قنا ، ذلك أن العرض ينطلق من محاولة
جريئة لاختراق حائط الصمت المفروض على الثقافة الصعيدية والذي تأمر الجميع على الحفاظ عليه عبر وضع
الصعيد داخل الرؤية الفلكلورية التي تعجب المتفرج القاهري الذي تعجبه الرؤية الكلاسيكية
والتلفزيونية للهجة الصعيدية المحتجزة في قوالب شاعرية و غنائية دون اهتمام
بالواقع الفعلي .
من هنا فلقد أنطلق العرض من الصراع القبلي بين الهوارة و
العرب كنموذج دال على مدي الانغلاق الذي يرفض التطور والذي يعادي فكرة الاختلاف
والتنوع و يتمسك بالأفكار المتوارثة حول التفرد والتميز العرقي – بل والديني – وبالتالي
يوسع العرض في تفسيره لتلك الثقافة ليجعلها داله على الصراع بين قوي الماضي التي
ترفض التغيير و تعادي الوضع الثوري للمجتمع و بين قوي المستقبل التي ترغب في عبور
تلك الثقافة نحو ثقافة غير قبلية .
ويقدم العرض لذلك الصراع من خلال قصة بسيطة تقوم على علاقة
حب بين فتاة من الهوارة و بين شاب من العرب ، علاقة تصطدم بتلك الثقافة و تتعرض
لقمعها ، لكنها في النهاية تنتصر عبر عودة (صلاح) الشاب المحب لكي يتحدي تلك
الثقافة مدعوماً بذلك الوعي الجديد الذي أكتسبه من الميدان (ميدان التحرير) .
بالتأكيد فإن العرض يعود ليستخدم التراث الغنائي الذي تتميز
به ثقافة الجنوب ، وكذلك رقص العصا و غيرها من العناصر الفلكلورية التي تميز تلك
الثقافة ، في إطار درامي مفتت بعض الشيء نتيجة محاولة التوفيق بين الخطاب الأساسي
الذي يحاول العرض طرحه و شروط المهرجان التي تشترط تناول موضوع الثورة ، وقبل كل
ذلك مكان وطبيعة الفضاء الذي يقدم فيه العرض والتي تسمح بقدر من الحرية في نقد
الثقافة ربما لا تتوافر في الصعيد . إلي جانب الشروط الثقافية التي أنتجته والتي
تجلت في صور متعددة ربما أبرزها وأقواها عدم وجود عنصر نسائي بالعرض، لكنه وفي
النهاية ينجح في الاقتراب من هدفه عبر تلك المقابلات والتعارضات التي تتقاذفه
والتي أدت في النهاية للمنتج الأخير الذي قدم للمتفرج القاهري العفوي الذي حضر
العرض في ميدان التحرير بكل ما يحمله ذلك الميدان من أسطره تنتزعه من كونه جزء من
المدينة الصاخبة وتحوله لعلامة على الثورة المصرية .
ولعل كل ذلك قد أدي للاستجابة الإيجابية التي لقاها العرض من
متفرجيه الذين دافعوا في النهاية عن البطل الثوري عندما عرض عليهم في النهاية
التحكم في مصيره .. لقد انتصروا له وقرروا
الدفاع عن ما يمثل من قيم خاصة وهو يحمل صور الشهداء على ملابسه .
يمكن بالمقابل التحدث عن مشاكل تقنية وفنية خاصة بطرية تعامل
العرض مع الفضاء المحايد الذي قدم فيه وكذلك طبيعة الدراما وحركة المؤديين في
الفضاء المسرحي ، لكن تلك المشاكل يمكن التغاضي عنها في النهاية في مقابل تخطي
المسرح الصعيدي للرؤى المغلقة و المحددة التي تحكم المسرح الصعيدي .. لكن المشكلة
الكبري التي ربما تعوق العرض وتجعله في منطقة تحدي حقيقي هي مدي أمكانية عرضه في
الفضاء الخاص به .. قنا .. وسط الجمهور الخاص به و الذي يتوجه العرض لنقد ثقافته
.. فنجاحه في وسط جمهور الشارع القبلي والمحتقن بأفكاره وصراعاته ... فالعرض
للمتفرج القاهري الذي لا يمتلك أي مشاعر عدائية أو قبلية ربما لن ينجح العرض في
التواصل معه إلا على المستوي السطحي الذي يتمثل في الصراع بين القوي الثورية وقوي
الماضي ..لكن تحدي العرض الحقيقي يكمن في تجاوز ذلك و الوصول لنقد ثقافة مغلقة
ومعزولة ربما لم تستطع حتى الآن في قبول الظاهرة المسرحية كما لم يصل إليها المد
الثوري الذي أجتاح الشمال وتفاعلت فيه صراعات القوي السياسية والاقتصادية
لتشكيل مستقبل الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق