أنه القدر المأساوي للمسرح.. أن يظل معلقاً بينا الحضور المباشر والحميمي لمتلقيه وبين رغبته في تجاوز ذلك الحد الفاصل بين اليومي والعابر نحو العميق ... قدر يبرز على السطح في اللحظات التي تساع فيها الأحداث ويجد المسرح نفسه ملزماً بأن يلتقي مع متلقيه ويعبر عن ما يعانيه ويعايشه من مشكلات وأزمات يومية من جهة ويحاول أن يكتشف ما خلف هذه الأحداث من معان وقيم تجاوزها نحو التأمل القواعد التي تحرك الأحداث وتدفعها وتحركها من أجل كشفها والقيام بدوره كفن يحمل رسائل أجتماعية وجمالية وفكرية لمتلقيه .
إن تلك الأزمة التي نحاول الإشارة إليها هنا لا ترتبط فحسب بعرض (أنا الثورة) لفرقة نادي مسرح قصر ثقافة أسيوط والمخرج / أحمد ثابت لكنها أزمة يمكن أن نصفها بأنها أزمة عامة تواجه المسرحيين في تلك الحظات الحرجة من تاريخ الوطن حيث تصارع القوي والتيارات المشكلة للواقع على مرمي حجر من دار العرض المسرحي المغلقة والهادئة ... بما يخلق تناقضات عميقة بين سخونة ودموية المشهد الواقعي ونعومة وأستعارية المشهد المسرحي بما يلقي بظلاله على المتفرجين وفريق العمل المسرحي ككل ويكشف عن الأزمة الحقيقية الكامنة كما سبقت الإشارة في الفارق بين دور المسرح كفن وبين طبيعتة كفن أدائي حي .
ولعل ذلك يتجلي بشكل واضح في نص العرض الذي يتخلي عن الطبقات الحكائية التي كانت في نص مارا – صاد لبيتر فايس والتي كانت تقوم على عرض فرقة مصحة عقلية بتقديم عرض مسرحي عن حادثة أغتيال زعيم سياسي من تأليف وأخراج المركيز دو صاد أمام مجموعة من الضيوف العقلاء والتي أعتمد فايس فيها على التناقضات والمفارقات - بين الأمراض التي يعاني منها النزلاء/ المؤدين وبين طبيعة الأدوار التي يقومون بها في المسرحية الداخلية – وذلك بهدف تخليق طبقات مسرحية تنطلق من هنا والأن الخاصة بمتفرجه الإفتراضي وحتى المسرحية الداخلية التي تقدم لواقعة تاريخية خاصة بأحداث الثورة الفرنسية ... ومغلفاً كل ذلك بالطبيعة الوثائقية التي تميز توجهه الفني.
لقد تخلي المخرج (والدراما تورج حسب توصيفه لدوره في تصنيع نص العرض) وقرر أن يخلق مجموعة بديلة من الطبقات تنطلق من الصوت الذي يلقي بأشعار ويتدخل في العرض عبر ترديد أو أستكمال مونولوجات الشخصيات الدرامية .. و هو صوت يمكنا توصيفه بمعلق مفارق للعالم الدرامي حيث يقوم بتخليق خطابه الخاص والمنطلق عبر العرض ليتمأس مع واقع المتلقي .. وهو الصوت الذي لو يكن كافياً من وجهة نظر المخرج للتواصل مع المتلقي ليقوم بتخليق الرابط الكافي مع الحضور اللحظي لمتفرج فأضاف بأعلي الستارة الخلفية رمز النسر الذي يؤكد بصرياً طوال العرض على توجه العرض نحو مناقشة الواقع المصري الراهن ويمنع أي أندماج بين المتلقي وزمن الحكاية المسرحية (زمن الأمبراطورية الفرنسية في القرن التاسع عشر ) وكذلك زمن المسرحية الداخلية (زمن الثورة الفرنسية).
وبالتأكيد فإن تلك الطبقة العليا تكشف عن الآلية التي أعتمدها المخرج لعبور الأزمة الأساسية التي يواجهها العرض لكنه لم يكتفي بتلك الطبقة بل أنطلق داخل نص العرض مضيفاً شخصيات ومقلصاً وحاذفاً لشخصيات من أجل تخليق طبقة أخري يحتل مركزها (مؤدي البانتومايم) الذي يشكل أحد أهم المرتكزات لدي المخرج للتعبير عن قوي وخطابات لم تكن موجودة في النص الأصلي والتي يري أنها تتدخل وتتحكم في العالم الواقعي والمسرحي بالضرورة .
ونصل إلي الطبقة الثالثة عبر المصحة الثقافية والتي تشير إلي الأخري للواقع ولطبيعة الفرقة .. والتي يبرز فيها راوي مسرحي يقدم نفسه كمدير للمصحة وأن كان يرتدي زي المهرجين .. وهو المستوي الذي يندفع فيه العرض نحو التحدث بشكل مباشر إلي المتفرج المفترض (الواقعي) الخاص بالعرض الذي يشاهد عرض مسرحي ... ويتداخل ذلك المستوي مع مستوي الحكاية المسرحية ليندمج في النهاية مع الصالة من خلال نزول الممثلين / الشخصيات نحو الصالة ليوجهوا خطابهم للمتفرج عبر دمج مساحة الأداء ومساحة التلقي .
إن تلك الطبقات التي حاولنا رصدها بعرض (أنا الثورة) تكشف عن المجهود الكبير الذي قام به المخرج ومجموعة العمل لتخليق عرض مسرحي يعبر عن واقع الثورة المصرية التي لم تزل في طور التشكل .. وإن كانت تكشف أيضاً عن صعوبة تحقيق ذلك الطموح الحالم بالتعبير عنما هو غير مكتمل وتأمل تجربة لم تنتهي للخروج بنتائج يمكن تحويلها إلي عرض مسرحي .
وذلك يتضح بشكل مباشر في تكديس المخرج لتلك الطبقات من أجل دفع نص بيتر فايس ليقدم واقع لم يكن في حسبانه ولم يعد ليعبر عنه بشكل جعله يضيف أشياء كان من الممكن التخلي عنها دون أن يفقد تواصل المتلقي معه مثل الأشعار التي تبدو غريبة على العرض وغير قادرة على أن تدخل ضمن نسيجه .. وهو ما جعل من ظهور حالة الخشونة التي تميز بها النص المسرحي وحالة الترهل التي جعلته غير قادر على أستكمال حكاية مقتل جان بول مار .. وهو ما يكشف بالنهاية عن مدي الصعوبات التي تواجه العروض المسرحية التي تتخلي عن متابعة الواقع من خلال مسافة تبعيدية كافية لتأمله وبين العروض التي تنطلق لتسابق الواقع وتظن أنها قادرة التعبير عنه وهو يتحرك ويتفاعل .
بالمجمل ربما تكمن قيمة عرض (أنا الثورة) في تقديمها لنا مخرج ومجموعة من الممثلين المتميزين مثل (إيهاب محفوظ وعبد الرحمن حسن) الذين بإمكانهم في مستقبل الأيام أن يغيروا من الصورة النمطية للمسرح في الصعيد المصري .
أما العرض ذاته فسوف ينضم لقطار العروض المسرحية التي أنطلقت لتعبر عن ثورة لم تزل في دور التشكل وإن كان يحتفظ بتميزه وجودته .
هناك 3 تعليقات:
أشكر الأستاذ محمد مسعد علي تعليفه عن العرض المسرحي "" أنا الثورة "" وآسف لكوني غير مقتنع إطلاقا بما كتب فهو رأي إنطباعي يخلو من اسس النقد الموضوعي ويكفي أن العرض قد حاز إعجاب الجمهور و المعني برسالة العرض
شكراً لك الزيارة والتعليق ...
وإن كنت أظن أن أعجاب الجمهور لا يعد مقياساً دقيقاً وإلا كانت عروض السيرك والأفلام الإباحية وأفلام الحركة قليلة التكلفة والجودة من أهم الأعمال الفنية ..
إما بالمسبة لوصف المقال بإنه تعليق ..فلا أعرف هل ومقصود أم أنه إلتباس نتيجة عدم الخبرة ؟؟؟
وأخيراً بالنسبة لمسائلة الإقتناع فأنا أعتقد أنه ومع كامل أحترامي توصيف غير علمي فأي تصويف للعمل النقدي بأنه (إنطباعي ) يحتم تحديد الجوانب الإنطباعية في المقال .. أليس كذلك ؟
وبالتالي ما هي أسس النقد الموضوعي .. وأعتقد أنه سؤال منطقي حتى أستفيد من خبرتك المميزة في مجال النقد
وأخيراً أعتقد أن (السيد / غير معرف) كان من الأفضل أن يشغل نفسه بما يناسب إمكانياته وقدراته بعيداً عن مجالات هو غير مطلع عليها .
الأستاذ الجميل / محمد مسعد
عثرت علي مقالكم عبر الإنترنت بالمصادفة اثناء بحثي عن صور لعرضي المسرحي المتواضع "" أنا الثورة "" لفرقة نادي مسرح قصر ثقافة اسيوط وقد اسعدني كثيرا ما كتبتم من ملاحظات سرتني كثيرا ولكن يبقي العرض في النهاية هو العرض المسرحي لابد ان يحتوي علي بعض القصور فلسنا معصومين من الخطأ كبشر ولا الظروف التي نعمل فيها تمنحنا الفرصة لتنفيذ كل ما نحلم به واعتقد ان الشكر الموجه لطاقم العمل من ممثلين ومخرج يكفي ليمنحنا الأمل في تقديم عروض جديدة وقيمة افضل من هذا السخف الذي نشاهده علي مسارح الدولة وللأسف يميزانيات كبيرة ولكن دون قيمة ولا رسالة فالله الحمد ان استطعنا نحن كهواة المسرح ان نقدم مثل هذا العمل الذي اشاد به النقاد وخاصة الناقد المتميز ابراهيم الحسيني والناقد عز بدوي والناقد احمد خميس والناقد عمرو دوارة والأستاذ صلاح فرغلي والأستاذ خالد حسونة فهذا النص الصعب فشل في تقديمه عدد من المخرجين القامات والعالميين كذلك علي حد علمي فالله الحمد ان خرج بهذه الصورة المشرفة واشكر لسيادتكم هذا المدح الجميل اثابكم الله عليه وقد قرأت تعليق الأستاذ غير معرف الذي لا اعرفه ويعلم الله ان تعليقه كجمهور اسعدني ولكنه طبعا خارج عن اللياقة فيما يخص اسس النقد الموضوعي ولسيادتكم جزيل الشكر
إرسال تعليق