الثلاثاء، يناير 10، 2012

مقدمة عن مسرح الإمكانات الفقيرة




(1)
للمسرح ذو الإمكانات الفقيرة مجموعة  من السمات الأساسية التي تشكله ..لعل أهمها هي كونه مسرح يعتمد على الممثل بشكل كبير .. فالممثل في مسرح الإمكانات الفقيرة هو العنصر الأكثر حيوية في العمل المسرحي بحكم كونه هو المشكل الأساسي للفراغ بجسده وصوته وكونه نقطة التلاقي بين العرض والمتلقي .. وهو ما يجعله مركز الثقل داخل العمل... لكنه وبالمقابل يعد عنصراً شديد الندرة وبحاجة للتأهيل والإعداد طيلة الوقت حتى يصبح قادراً على تعويض غياب معظم - أو كل-  العناصر المساعدة والداعمة له في أدائه .. وهو ما يعني أن المسرح المعتمد على إمكانيات إنتاجية ضعيفة أو معدومة يحتاج إلي عناصر تمثيلية متميزة ومدربة بحيث تتخلي عن معظم أو كل الدعائم التي تسهم في تكوين العرض المسرحي سواء بعدم وجودها أو بتدني جودتها نتيجة لضعف الإنتاج... هذا إلي جانب استعداد خاص لتقديم العرض في ظروف غير مواتيه سواء في الأماكن العامة أو غير المعدة لتكون مسرح أو حتى في المسارح ضعيفة التجهيز وذلك لكون معظم العروض ذات الميزانيات الضعيفة تتعامل مع فضاءات بهذه الكيفية.  
وهو ما يعني وبالمجمل أن مسرح الإمكانات المحدودة  ينتج (وبشكل دائم) إلي جانب العروض (وربما قبلها) ورش التدريب الدائمة للممثلين .. بحيث يطور من أدائهم ويدفعهم لكي يصبحوا قادرين على التعامل مع الظروف الإنتاجية التي يقوم عليها.
فكيف يتم ذلك .. خاصة وأن تلك الورش الدائمة تحتاج إلي ميزانيات ومخصصات مالية دائمة ومستمرة ؟
في العادة ما يتم التحايل على ذلك من خلال أسلبه الأداء كما كان الوضع في عروض الكوميديا ديلاتي في إيطاليا قبل قرون .. وكذلك في الظواهر ما قبل المسرحية التي تقدم في الشوارع والميادين كنداءات الباعة وعروض الحواة .. الخ. بحيث تؤدي أسلبه الأداء وثبات الأنماط التي يقدمها الممثل إلي أن يطور من أداءه من خلال العروض الدائمة والمستمرة ليتمكن في النهاية من حفظ الأداء (إذ جاز التعبير) .
ولعل كافة المسارح المؤسلبه يمكن أن نلمح فيها بشكل أو بأخر تخليها عن الدعائم المسرحية كالديكور والموسيقي والإضاءة .. الخ كما هو الحال في الكثير من مسارح الشرق الأقصى التي تتخلي عن كثير من عناصر العرض المسرحي في مقابل الأسلبه الأدائية .. وإن كانت لا تنتمي لفئة مسرح الإمكانات الفقيرة على المستوي الإنتاجي ....
ولكون الكثير من عروض مسرح الإمكانات الضعيفة تعتمد على ممثلين هواة أو أنصاف هواة فإن الحل الذي يعتمد في هذه الحالة هو أن يستند الممثل إلي خبراته الشخصية ويضفي من مهاراته الحركية والصوتية إلي الشخصية التي يؤديها ... وبرغم صعوبة ذلك إلا أن ذلك الخيار ظل هو الأقرب والأيسر والأكثر قابلية للتطبيق في كثير من الحالات ..
أما الحل الثالث فإنه يرتبط بالفرق الاحترافية أو فرق الهواة الدائمة ذات التمويل المحدود .. وهو يقوم على  وجود فرقة دائمة تمتلك القادرة - من خلال وجود دعم مالي ضئيل (ومستمر) - على القيام بإعداد ممثليها لظروفها الإنتاجية وطبيعة عروضها .
إما أن نتحدث عن مسرح إمكانات فقيرة خارج تلك الحدود فإن النتيجة سوف تأتي هزيلة وغير مجدية في الأغلب الأعم .. فالمخرج المسرحي (ومهما أوتي من قدرات أو موهبة أو وعي أو حرفية) لن يتمكن من العبور بعرضه على المستوي الجمالي (على الأقل) من خلال ممثلين غير مدربين .. حتى لو امتلكوا الموهبة الكافية.
وفي ظل تراجع عام لوضعية المسرح واختفاء المسارح ذات الإمكانات المادية الكبيرة والمتوسطة - كما هو الحال عندنا - فإن العودة لمفهوم الفرقة (الممولة) والقادرة على العمل الدائم والمستمر كجماعة هو الأسلوب الأفضل والأضمن لاستمرار الظاهرة المسرحية ..
 ولكون الدولة هي الجهة الوحيدة (تقريباً) التي تمتلك فرق دائمة ومستمرة (في الفترة الحالية ) (كما هو الحال في البيوت الفنية الكبري بالعاصمة و قصور الثقافة بالمحافظات)  فإن ذلك يحملها مسئولية تفعيل تلك الفرق لتتمكن من تجاوز أزمة انهيار البنية الأساسية (المسارح والتجهيزات الفنية) وانخفاض الميزانيات نتيجة الأوضاع الاقتصادية وما ينتج عن ذلك من تآكل مستمر لها . وذلك عبر إعادة الاعتبار لمفهوم الفرقة كجهة تدريب دائمة وذات مشروع مسرحي واضح ومستمر.
(2)
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحصر (مسرح الإمكانات الفقيرة) في نمط محدد من الفراغ .. كأن نقول أن القاعات هي الأفضل له أو أن نتحدث عن فضاء غير محدد أو علبة إيطالية.. الخ..  لآن العرض المسرحي في العادة ما يحدد شكل وطبيعة الفضاء الذي يحتاجه وفقاً للعديد من المؤثرات منها الفني..كأن يختار المخرج ومجموعة العمل قضاء بعينه.. أو أن يكون المؤثر ظرفي أو إنتاجي كطبيعة الموقع المتوافر لتقديم العرض .. أو انتقال العرض من موقع لأخر .. الخ.
ولكن ربما ما يميز مسرح الإمكانات الفقيرة هو كون عروضه تتمتع بقدر عالي من المرونة تجاه الفراغ .. كما يمكن أن نلحظ من العروض التي قدمت في أوربا خلال النصف الأول من القرن العشرين في القاعات الصغيرة وبفضاءات محايدة ... وهي ذات العروض والتي كانت تعبر عن تمرد المسرحيين الطليعيين على سيطرة المؤسسات الإنتاجية المسرحية الكبري ومسارحها الضخمة والمجهزة ورؤاها الفنية ... كذلك كانت العروض تعبر عن التمرد على مسارح العلبة الإيطالية بكل ما تحمله من جماليات وتحديدات طبقية ونمط في التلقي ووعي خاص بها.
وهو ما يعني أن المسارح الصغيرة التي شهد القرن العشرين ازدهارها لم تكن تعبيراً عن متطلبات فنية وفكرية فحسب بقدر ما كانت تعبير عن قطيعة مع نظام الإنتاج المسرحي الذي كان يرفض تلك الرؤى والأفكار المسرحية التي قدمت في ظل مسرح الإمكانات الفقيرة (في البداية) ولعل أبرز الأمثلة على ذلك خروج فيلار وفرقة المسرح الشعبي صوب أفينيون لضيق باريس ولقلة التمويل الحكومي في مقابل المسارح الكبيرة كالكوميدي فرنسيز ..
إن العلاقة التي تربط إذن بين القاعات المسرحية الصغيرة والفضاءات المفتوحة وبين عدد من المناهج والتيارات الفنية يرتبط في الأصل بطبيعة إنتاجية فقيرة .. تفرض على المبدع حتمية التعامل معها وفق قواعد محددة كاقتصاد واختزال كافة العناصر التي يمكن أن تزحم الفضاء المسرحي وان تشكل عقبة إنتاجية ...
إن ذلك التفسير لا ينكر بالطبع كون تلك المناهج الفنية تمتلك أفكار محددة ورؤى واضحة حول مفهوم المسرح ودور الفن .. الخ بما دفع بها نحو الخروج من مسارح العلبة الإيطالية نحو فضاءات أكثر مرونة .
وربما كنا في مصر في حاجة حقيقية إلي إعادة الاعتبار لعروض مسرح القاعة سواء من خلال تجاوز ذلك القلق المشروع من القاعات المسرحية الذي نتج بعد كارثة بني سويف وكذلك من خلال إعادة تقييم القاعات على مستوي الأجور بما يشجع الفنانين على العود إليها لأسباب كثيرة فهي النموذج الأكثر توفيراً والأكثر قدرة على تحقيق دور المسرح في ظل الأزمات التي يعاني منها المسرح المصري لكونها تنتمي لمسر الإمكانات الفقيرة في الأساس .
وقبل كل ذلك وبعده التفكير في الفضاءات البديلة كخيار مطروح في ظل الاختفاء التدريجي لدور العروض المسرحية نتيجة اشتراطات الدفاع المدني من ناحية ندرة الكفاءات الهندسية المختصة في مجال العمارة المسرحية من جانب أخر .
أن تلك المقدمة السريعة حول اشتراطات وضرورات (مسرح الإمكانات الفقيرة) ربما لا يمكن لها أن تكتمل دون الدخول في مراجعة حقيقية للمناهج المسرحية التي تعتمد مسرح الإمكانات الفقيرة .. مثل المسارح الطليعية.
وإلي جانب ذلك أعتقد أنه من الهام العودة إلي ذلك التراث الطويل من المحاولات التنظيرية والتجارب الفنية التي قامت على إمكانات إنتاجية ضئيلة أو معدومة .. وهي وعلى قلتها تمثل نماذج ناجحة سواء تلك التي تمت في مصر أو خارجها . 

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...