يعد شريف صلاح الدين من أكثر الأصوات المسرحية التي أنتجها مسرح التسعينيات أقتراباً من الواقع المسرحي وتوجهاته وهو ما تجسد في قدرة نصوصه على جذب أنتباه العديد من المخرجين الشباب – خاصة ضمن تيار نوادي المسرح بالدلتا – حيث تتجلي بنصوصه الإمكانات الأدائية والبصرية التي يمكن تفعيلها لتنتج عرض مسرحي يحتفي بشاعرية الصورة المسرحية ويستند إلي شاعرية الحوار بشكل يضمن إنفصال العرض المسرحي عن كل ما هو واقعي أو يومي أو أيديولوجي.. وهو ما يتفق والأفكار العامة التي هيمنت على مسرح (التسعينيات وبداية الألفية) الذي ولد معارضاً للأفكارالعظيمة وتربي على الإيمان بسقوط الأيديولوجيا وسلطة المؤلف وسلطة النص وهي المصطلحات التي تم الترويج لها من خلال الخطاب النقدي الذي تخلص من تقديسه للنص وأستبدله بتقديسه للعرض المسرحي المؤقت والعابر والذي تتحطم جمالياته وتختفي بذات سرعة تكونها .. وبالتأكيد فقد ساهمت حالة الإنفتاح على التجارب العالمية - التي وفرها المهرجان التجريبي – على تخليق أفق مختلف نحي بتفكير كثير من شباب المسرحين والنقاد والمؤلفين إلي الأعتقاد بقدرة الصورة المسرحية – عبر جمالياتها – علي تشكيل عرض مسرحي بمعزل عن دعاوي الدور التنويري والتنموي للمسرح ..
وقبل كل ذلك كان هناك الوضع الإقتصادي والإجتماعي والسياسي العربي و - المصري بشكل خاص - الذي تخلي عن المشروعات العظيمة والأهداف الكبري .. كما تخلص أيضاً من الهزائم الكبيرة .. وقبع طيلة التسعينيات وبداية الألفية يحاول إزاحة كافة القوي الأيديولوجية (القومية واليسارية) وبناء تشكيلة جديدة من العلاقات التي قسمت الواقع بين قوي محافظة ذات صبغة دينية و طائفية و قبلية وبالمقابل قوي أستبدادية وقمعية .. وهذه التشكيلة بالتأكيد أغلقت الأفق ونشرت حالة من اليأس الذي جعل من الطبيعي أن يتم الإرتداد بعيداً عن الواقع و مناهضتة ورفضه ومفارقته إلي عالم الصور الذي نمي وتوغل مع تطور وسائل الإتصال وتجذر الثقافة البصرية داخل المجتمع .
بالمجمل لقد ولد وضع غاية في التعقيد بين ما يطلق عليه ليوتار " الوضع المعرفي في المجتمعات الأكثر تطوراً [..] ما بعد الحداثي" (*) من جهة وبين الحالة المصرية .. وضع أنتج مسرح يتأرجح بين التقنيات ما بعد الحداثية وبين هموم مجتمع لم يزل يختبر لحظة الحداثة .. كما هو حال الكثير من مجتمعات العالم الثالث .
لعل شريف صلاح الدين - وكما سبقت الإشارة – شديد القرب من ذلك المسرح الذي ولدته تلك المتغيرات التي حاولنا رصدها على الرغم من تبعثرها وتفاوت قيمتها بين العابر والعميق .. حيث ساهمت تجاربه كمؤلف ومخرج ضمن نوادي المسرح في السماح بتشكيل لتجربته من خلال ما تمتلكه تلك الصيغة الإنتاجية من تحرر وميل إلي دعم وتشجيع التجارب الجديدة والمختلفة ... حيث تتسم تجارب ذلك التيار بالإنتصار للعرض المسرحي وتحطيم النص والتخلي عنه أو تحويله إلي مقاطع صوتية ذات صبغة شاعرية تسهم في التأكيد على حالة شاعرية الصورة غير قادرة على أن تنتج معني بمعزل عن الصورة ..
ورغم أن عدد قليل من العروض هو من أستطاع الوصول إلي هدم النص وتحطيم مركزيته بشكل كامل إلا أن معظم شباب المسرحيين ( ومنهم شريف بالتأكيد) قد تأثروا بدرجات متفاوته فظهرت بإعمالهم ملامح لهيمنة عالم الصورة .
ولعل نص (الوردوس) نموذج مثالي لذلك النوع من النصوص التي تظهر بها تأثيرات ما بعد سقوط سلطة النص وسيادة عالم الصورة حيث يتضح وبشكل صريح بالنص ملامح ذلك التيار المسرحي الذي ينتمي إليه (مسرح شريف صلاح الدين) والذي يعد من رموزه كما رصد عدد من النقاد وعلى رأسهم الراحل حازم شحاته الذي اشار إلي ملامح مسرح ما بعد الحداثة عند (شريف) .
النص واللغات
بداية بعنوان النص (الوردوس) يمكن لنا أن نستكشف عملية الإنفلات من الواقع .. فعنوان النص نحت لغوي مفارق للغة الواقع و منفصل عنها إلي الحد الذي دفع بالكاتب إلي وضع تعريف خاص بالعنوان داخل متن النص في صورة نص شارح مقدم للمخرج ليفتح أمامه مجال للتأويل البصري من خلال العرض .
"الوردوس هو المسكوت عنه فى الحياه اليوميه للوصول الى الاجابه من الداخل"
إن وجود النص الشارح في حد ذاته إشارة إلي إعتراف ضمني من قبل النص بعدم قدرته على إنتاج للمعني بشكل منفصل وحاجته إلي وجود شروح جانبية تسد الثغرات وتكشف ما لا يستطيع – أو لا يرغب - النص تقديمه .. فالعنوان الذي يفترض فيه تخليق أفق توقعات المتلقي تحول إلي منطقة مظلمة تستحق إنارتها .. ورغم ما يبدو من تناقض هنا إلا أن ذلك التناقض يفكك من خلال موقع ذلك الخطاب الشارح داخل النص كجزء من الإرشادات الإخراجية التي تتوجه بشكل واضح نحو متلقي مشارك في تصنيع المعني عبر خياله البصري - أو عبر رؤيته الإخراجية - .. كذلك من خلال المضمون المطروح والذي يشير إلي أن النص يحاول تجاوز الواقعي واليومي والإنفصال عنه والبحث فيما هو قابع في الطبقات العميقة والمظلمة التي تختبئ أسفل السطح اليومي والإعتيادي والتي يتم قمعها..
وهو ما يؤدي بنا إلي الوصول إلي أن هناك نزوع واضح منذ البداية من خلال عنوان النص لمفارقة اليومي والإعتيادي .. نزوع يصل إلي حد مفارقة لغة الواقع واللجوء إلي تخليق ألفاظ (لغة) قادرة على التعبير عما هو مجاوز لذلك الواقع ولغته .
وعلى ذات المستوي فإن النص يطرح ومن خلال الشاشة - التي تشارك عبر ما تبث من صور - في تفتيت الإيمان بقدرة اللغة بمفردها على أنتاج المعني والحاجة طوال الوقت إلي الصورة كي ما يتم إستكمال المعني .. كما يشار في الإرشادات المسرحية في بداية النص وبمدخل كل مشهد من مشاهد العرض
" فى العمق ستاره ضوئيه متعدده الاستخدامات و الوظائف ويعرض عليها مشاهد مصوره مختلفه .. واقترح مثلا فى المشهد الاول عرض فيديو لعمليه ولاده قيصريه و التى تنتهى بنهايه المشهد بخروج طفل الى العالم وهو يصرخ ..وفى المشهد الثانى عرض افلام كارتون يتحرك من خلالها الممثلون على خشبه المسرح ( أو القاعه ) .. وفى المشهد الثالث مشاهد من افلام ابيض واسود لعلاقات الحب بين أبطال السينما القديمه ومشاهد الاغراء والرقص والقبلات وفى المشهد الرابع لقطات للحروب المختلفه .. وفى المشهد الاخير مشاهد يوميه معتاده لما يحدث بالشارع من اناس طبيعين مرورا بازماتهم كالمرور والزحام وطوابير الخبز والعديد من المشكلات المعاصره وكما سيشار اليه فى النص لتتحول الشاشه الى جزء مكمل ومستمر للواقع المكانى "
إن ذلك التجاور بين الرسوم المتحركة والأفلام الكلاسيكية والتقارير الإخبارية المصورة .. الخ لا يقدم لنا التجاور بين تقنيات وأساليب وأشكال وطرز مختلفة فحسب بل أنه ينعكس في علاقة بين المادة المصورة المحفوظة وبين العرض المسرحي الحي .. وهو ما يشي بلجوء النص إلي تقنية ما بعد حداثية تفتت من تلك الرغبات التطهرية التي كانت تشيع في فنون الحداثة والتي كانت تنادي بتخليص الفن المسرحي من كل ما هو ليس بمسرحي .. إننا هنا أمام نص يعمد إلي الإشارة إلي عدم قدرة اللغة الدرامية التقليدية على تقديم معني مكتمل من خلال الإشارة إلي حاجة المتلقي إلي مواد بصرية مجتزءة من سياقتها ومدمجة ضمن نسيج العمل الفني ..
ولكن ومن جانب فإن تراجع قيمة منطوق الشخصيات في مقابل اللغات الأخري التي يتم التأكيد عليها لا يعني تحول النص إلي سيناريو(ملخص) يقدم وصف لما يفترض أن يقدمه العرض المسرحي .. فعلى الرغم من تحول تلك العناصر المرئية المفترضة إلي شريك أساسي في عملية تشكيل المعني الخاص بالنص فإن النص يظل محتفظاً بقدر من طموح التواصل مع المتلقي من خلال اللغة .. حتى وإن أتسم في بعض الأحيان بطبيعة شاعرية تلائم حالة البحث الوجودي والتي تصل في بعض الأحيان إلي أن تشير اللغة إلي ذاتها
" الرجل : صوتك مش أحلى من العصفور .. إوعى تكون فاكر إنك هاتغير الكون ..إنت مش عارف إن النفط نعمه .. والجاز بتحطه البنات على شعرها .. إوعى تكون فاكر إنك ممكن تغير البنات .. أو تخلى العصافير تبطل غُنا "
ولكن حتى تلك اللغة تظل مفارقة للغة اليومي ولا تعود للغة الواقع إلا في بعض المشاهد ذات الطبيعة الساخرة .. وهو ما يعني أن لغة النص تظل لغة ذات طابع وجودي شاعري متلائمة مع الرهان الرئيسي للنص وهو كما يوضحه النص الشارح " البحث عن إجابات من الداخل " والذي هو هنا ذكريات الرجل الباحث عن ذاته وعلاقاته وسيرته الذاتية (كما يوحي ظاهر النص)
وبالمجمل فإن النص يظل يتراوح بين أستخدامه لبعض التقنيات ما بعد الحداثية وبالمقابل فإنه يحتفظ بطبيعة تعبيرية تجذبه في إتجاه أخر بشكل خلق وضع النص وجعله واقع بين تلك اللغة الذاتية من جهة في مقابل عالم شديد التنوع والتناقض.
البحث عن الذات
في بداية النص يشار لدخول المتفرجين إلي قاعة المسرح بينما (الرجل) يقوم بنفخ بالون .. وفي النهاية توجد أشارة واضحة إلي أفراغ الأطفال لذلك البالون/الكرة من الهواء .. وبين البداية و النهاية يظل الرجل/الراوي/ الباحث .. الخ يتنقل بين المشاهد التي تدور أغلبها عن العلاقة بين الذكر والأنثي من خلال عدة مراحل عمرية ووضعيات مختلفة للعلاقة .. بينما يغلف كل ذلك بعدد كبير من الإستعارات (الورود / البالون / الحرب .. الخ ) .. لكن الرحلة الأساسية هنا تظل رحلة ذات تحاول البحث في تاريخها من خلال ذلك الركام المتكدس فوق المسرح والمتشظي في مجموعة من الأدوار (المراحل العمرية) التي مرت بها تلك الذات .. وهو ما يتأكد من خلال المقتطف التالي
الفتاه : ( تواصل الغناء )
مثلا لقيت الحلم مش قدك .. غامر ( الفتى يتأوه )
مثلا نويت تنفك من أسرك .. غامر ( الفتى يتأوه )
ماتسبش لحظه تمر من عمرك تنساها .. لا ( الفتى يتأوه )
لولا خزين العمر .. مش هاتكون .. قادر
الرجل : ( للجمهور ) وانا زى الاهبل طبيت .. وسمعت كلامها .. وقلت لنفسى
دق الطبول يا فتى .. يا فتى دق الطبول "
كما يظهر في ذلك المقطتف فإن الرجل يتدخل ويقتحم الحدث ليدلي بتعليق تاريخي يوضح موقعه من الحدث وعلاقته بالشخصية (الفتي) .. وهو ما يقودنا لملمح أساسي وذا طابع تكراري في مسرح التسعينيات ومسرح شريف صلاح الدين على وجه الخصوص وهو تفتيت الشخصية وتحويلها لمجموعة من الأدوار الورقية .. أو ما يطلق عليه تشظية الشخصية الدرامية .
ولكن يبقي التسآؤل عن الهدف من عملية توزيع الشخصية في مجموعة من الأدوار (التشظية) ؟
ربما كان موت الشخصية جزء اساسي من سلسلة عمليات الإزاحة التي تمت والتي وصلت في أقصاها إلي عمليات هدم سلطة المؤلف .. ولكن موت الشخصية الدرامية الحية والمتعددة العميقة والإنسانية ظل في كثير من الأحيان مرتبط بنزع السمات الأجتماعية والنفسية عنها وتركها تسبح في فضاء الحكاية المفتتة أو المنقوصة أو التي يتم مناهضتها عبر العديد من التقنيات مثل تقنيات المسرح الملحمي .
ولكن وبالمقابل فإن موت الشخصية في المسرح المصري أرتبط في كثير من الأحيان بما يطلق عليه المخرجين تفكيك الشخصية وتوزيعها بين ممثلين أو أكثر لأهداف متنوعة منها خاص بتنيع الصورة المسرحية زمنها ما هو مرتبط بعشرات التفسيرات التي والمبررات التي تدفع المخرجين والمؤلفين إلي تقسيم الشخصية وإن كانت معظم تلك التبريرات والتفسيرات تدور في فلك وصول مسرح التسعينات إلي أن الشخصية المتعددة الملامح قد أنتهت ولم يعد من الممكن أن تري الشخصية إلا عبر تفكيكها إلي مجموعة من المواقف التي لا تعكس التناقضات بقدر ما تعكس التشابه والتكرار .. لقد أصبح من غير الممكن رؤية الشخصية الدرامية في مواجهة العالم .. بل أصبحت الشخصية تعكس حالة العالم وتفتته من ناحية كما أصبحت تعكس حالة الإرتداد إلي الداخل والإنعزال عن الواقع وهو ما جعل الكثير من العروض تتحول إلي تداعي حر في صورة حوار بين ترديدات لذات الشخصية أو لشخصيات غير ‘معرفة وهائمة خارج المكان والزمان ... لقد تحول الصراع القديم بين الذات الثابتة والعالم المختلف المتنوع إلي صراع عناصر تلك الذات المتنوعة والمختلفة في مقابل العالم الضاغط والذي يقتحم الشخصية ويقسمها .
ولعل لشريف صلاح الدين عدد من التجارب في ذلك الإتجاه ككاتب .. وإن كان ذلك التنوع عنده يصل إلي محاولة رؤية العالم من خلال ذلك الصراع الداخلي .. إنها دائرة تبدأ بالهروب من مواجهة سيولة الواقع للإمساك بالثابت وتمر عبر الذات المنقسمة في أدوار للوصول إلي مرحلة الأمساك بالواقع في مجموعة من المواقف أو الأدوار ... كما يمكن أن نري من خلال المقتطف التالي :-
" الرجل : ( ممسكاً دميه ) وفضلتى تشجعى فيّا وتقوليلى إنزل الدنيا .. زى طفل جديد .. زى طفل شايل ابتسامته للعالم .. ادخل فيها .. عيش الدنيا وماتمشيش جنبها .. استمتع بوجودك المادى والمعنوى .. وأنا اقولك الدنيا اتغيرت وكل حاجه بقت حطام .. احنا ضحايا حرب .. بتمشى حياتنا .. وخلاص .. يظهر اتعودنا عليها كده .. مهما كان نوع الحرب .. سياسيه أوجتماعيه أو اقتصاديه أو حتى نفسيه جوانيه .. وآه من الحرب الجوانيه .. "
إن الذات إمتداد للعالم ومساوية له وكاشفة لصراعاته ومجسده لها .. وهو ما يبرر تقسيم الشخصية وتوزيعها في مجموعة من الأدوار (أو تشظيتها) إلي الحد الذي يصبح معه في بعض الأحيان من الصعب تحديد هل هناك فعلاً ذات متشظية أم أن هناك مجموعة من الممثلين يقومون بتجسيد أكثر من شخصية من داخل نفس الإطار ...
ومن خلال ذلك كله يمكن تفهم عدم قدرة تلك الذات على الوصول إلي نتيجة في نهاية الرحلة .. وجعل الأمر أقرب ما يكون للجولة التي تبدا بنفخ البالون وتنتهي بتفريغه .. فلا وجود لرحلة البحث إلا في هذه الحدود .. وكل محاولة للإمساك بالعالم لا تؤدي إلا لمزيد من الإنقسامات والتفتت .. فالعالم غير قابل للإختراق والذات تذوب ببطء .
خارج الزمن
إذا كنا نتحدث عن شخصية مقسمة ومنشطرة .. فنحن نتحدث في الغالب عن زمن خاص لا يخضع لقواعد الزمن الواقعي .. تلك أيضاً سمة تكرارية في نصوص (شريف صلاح الدين) على وجه الخصوص .. ومسرح التسعينيات بشكل عام .. فالزمن وكما يبدو من نص (الوردوس) مشكل من وحدات زمنية مختلفة ومتزامنة دون هيمنة لوحدة زمنية فبرغم ما يبدو أنه هيمنة لزمن الرجل/ الراوي الذي قدم إستعادة لتاريخه ويحاول تأمله .. إلا أن ذلك الزمن الخاص به يتم أقتحامه في نهاية العرض من قبل مجموعة الأطفال
"( ينام وهو يغطى وجهه بالجريده واضعاً ساق على ساق .. ويعلوا شخيره فى النوم .. مع ارتفاع تدريجى لصوت القطار .. وسيطره المعروض على شاشه العرض من مشاهد تعبر عن استمرار الحياه)
( الاطفال تلقى بالكره بعد أن افرغوا مابها من هواء .. ويتحركون ليأخذ كل منهم ورده من الملقاه حول الرجل .. ويخرجون .. ثم يعود أحدهم ليلقى بالورده على صدره .. ويخرج .. يستمر صوت القطار )"
ولعل ذلك الهتك للسيطرة الزمنية للرجل في نهاية العرض لم يكن سوي أستمرار طبيعي للمنطق الذي أتخده النص منذ البداية حيث تتداخل الوحدات الزمنية وتتضافر وتتابع دون وجود منطق ثابت إلا للقانون الخاص بتتالي المواد المصورة الذي يستحضر بعض المقاطع من حكايات غير مكتملة .. وإن ظهر كما لوأن هناك تتابع تاريخي أولي من خلال تطور العلاقات بين الولد / الفتي والفتاة /البنت .. بداية من علاقات الطفولة ونهاية بالخيانة والقتل والتحول لأشباح... وبالتأكيد فرضية الحرب والشاش والجبائر التي تحيط بالشخصيات.
أن تلك الطبيعة الزمنية تسهم بشكل فعال في تحطيم أي أمكانية لبناء حكاية مكتملة .. فنحن دائماً أمام مقاطع من حكايات مبتورة أو تأملات شخصية في علاقات غامضة لا يقدم لنا النص منها سوي شذرات .. وبالتأكيد فإن المكان المفترض يتسم بذات السمة التي يتسم بها الزمن فهو فوضوي .
"سلالم خشبيه مزدوجه سهله الحركه و متعدده الارتفاعات موزعه على المسرح
موتيفات لاستخدامها بكل مشهد لتوحى بالمطلوب مثل تمثال لم يكتمل وكرسى قطار وشجره و غيرهم مما يوحى بالمكان المحدد له تبعا لكل مشهد لا يوجد دخول وخروج للموتيفات الديكوريه فكلها ملقاه ومهمله وفى حاله من الفوضى ولكن هناك استخدام للموتيفه على حساب الاخرى تبعا للمشهد"
أن تلك الفوضي تؤكد على حالة التبعثر التي يتسم بها الزمن في النص .. وتعكس حالة التجاور بين الوحدات الزمانية وتتداخلها .. وإن كانت تقوم بأدوار خاصة بالتأكيد كدور التمثال في العلاقة بين (الفتاة / البنت) و(الفتي / الولد) إلي جانب دورها كتجسيد حجري لتلك الذات (الرجل/الطفل / الفتي /الولد) .
بالمجمل فإن كل تلك المحاولات ورغم مناقضتها للزمن الواقعي إلا أنها ظلت محتفظة بقدر من الإلتزام نحو فكرة تتالي الوحدات الزمنية من خلال دعم المراحل / المشاهد التي تتوالي لتقدم تطور تلك العلاقات الغائمة بين الذكر والأنثي من خلال المرور على الجنس والإقتصاد ..الخ.
نهاية
ربما كانت تلك المقدمة السريعة والعابرة على نص (الوردوس) غير كافية لعدم تطرقها للعديد من القضايا التي يمكن أن تثار من خلال النص ... فالنص ملئ بالثغرات المتروكة عن عمد لفتح مساحات للتأويل وعدم إغلاق المعني تحت مقولات محددة ، وهو ما جعلنا أمام مستويات عديدة ومتنوعة منها علاقة الذكر والأنثي وكذلك ما لحق بالمجتمع من تشوهات وتأمل تجربة ذاتية .. الخ .. ومن خلال كل تلك المستويات وغيرها يتحرك النص محاولاً تدمير أي مقولة/مركز .. عبر تلك الثغرات التي يتم تشكيلها طيلة الوقت .
ولكن وبالعودة إلي ما قد حاولنا بحثه في الصفحات السابقة فمن الممكن أن نخرج بإن نص الوردوس نموذج مثالي للنص المسرحي الذي يرصد ويعبر الجماليات التي يمكن أن تنتج عن أزمة الفرد في المجتمعات العربية أثناء التسعينيات وبداية الألفية حيث أختبرت تلك المجتمعات أكثر لحظات تاريخها هشاشة وخفة وهي اللحظات التي أدت لوضع أدي إلي تلك الثورات التي تشتعل الآن ..
إن نص الوردوس نموذج للفن الجاد الذي أنتجه ذلك المجتمع .. عمل يرفض الواقع ويرفض الإقتراب منه ويختار الغوص بعيداً حيث الأشياء تبدو أكثر تماسكاً وحده منها على السطح السائل والهش للمجتمع .. لكنه يصدم المتفرج بإن تلك الرحلة للبحث عن الإجابات دائماً ما تصل إلي حائط مسدود يكشف عن عالم مغلق بلا أمل .
محمد مسعد
* ما بعد الحداثة ج 1 (التحديدات) – إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي – فرنسوا ليوتار - الشرط ما بعد الحداثي – ص 7 – سلسلة دفاتر فلسفية – دار توبقال للنشر – الدار البيضاء - 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق