تجربة شخصية وعامة
في الأسكندرية وقبل عدة أشهر كنت مشاركاً في لجنة لإختيار المشاريع التي سوف تنتج ضمن خطة نوادي المسرح بإقليم وسط وغرب الدلتا لهذا العام .. وحدث أن أعترض المخرجين رافضين تقديم أعمالهم أمام اللجنة لأسباب بعضها عقلاني وبعضها بحاجة لمراجعة (وأن كنت أعتقد أن كافة تلك المطالب هي مجرد غطاء واعي أو غير واع للمطالب الحقيقية ).. ولكن وعلى أي حال حدث أن (أنسحبت) لم لعدم رغبتي في المشاركة في عمليات المساومات والتفاوضات بين الإدارة والمتعاملين لأسباب بعضها خاص بموقف الإدارة وبعضها خاص بموقف المخرجين ..
ولكن كل ذلك ليس بالمهم في حد ذاته ..
الهام في تلك المعركة (أو الموقف) هو ما حدث بعد ذلك وما سوف يحدث خلال السنوات القادمة عندما تنضج تلك (المطالب) التي يحملها المتعاملين وتختبر نفسها فوق أرض الواقع وتستطيع تحديد قدراتها .. وهو ما سوف يشكل مستقبل العلاقة بين إدارة المسرح والأفرع .. أو مستقبل الإدارة ذاتها .. أو مستقبل الإدارة والأفرع .. أو مستقبل الحركة المسرحية في مصر.
مابعد وما قبل التجربة
إن تلك المشكلة التي أشرت إليها هي مجرد إشارة لتصاعد حالة النزاع بين المركز القاهري (إدارة المسرح) المتمسك بتراث طويل وعلاقات معقدة جعلت منه الرأس القوي والصلد للحركة المسرحة الممتدة في كافة أرجاء الوطن من جنوبه لشماله ومن شرقة لغربه .. وذلك في مقابل تلك القوي الصاعدة التي تبحث لنفسها عن موطاء قدم تستطيع من خلاله مشاركة – أو إزاحة – الإدارة بعمليات تحديد الجماليات المعتمدة وتوجيه الخطاب المسرحي وإعادة تشكيل التراتبات الهرمية التي تربط بين المسرحيين ولجان التحكيم إلي جانب وإزاحة العناصر التي تمثل عوائق في سبيل تحقيق تلك القوي لإهدافها بداية من مدير الإدارة ومروراً بلجان التحكيم ونهاية بالعناصر الإدارية والفنية بالإدارة.
ولكن لنحدد ملامح الأرض التي يجري عليها ذلك الصراع...
لعقود أحترفت إدارة المسرح التحكم في كافة خيوط السلطة بداية من السيطرة التامة على الموارد المالية وتحديد المستوي الخاص بكل عنصر من المتعاملين (المالي والفني) ونهاية بقدرة المنح والمنع وتحريك مواقع وتعطيل أخري وتصعيد تجارب والقضاء على تجارب أخري من خلال المقياس الجمالي والخطابي الخاص بها .. وفوق كل ذلك أختيار المخرج المناسبة للفرقة المناسبة ...
إن هذه السلطة المطلقة (الإدارة) نجاحت لعقود في تحويل كافة المراكز الإقليمية لمراكز تابعة وذلك من خلال المصداقية التي تمتعت بها في مقابل سيادة الفساد الإداري وإنتشار الأفكار الرجعية والمعادية للمسرح بين العناصر الإدارية بالمواقع الثقافية ... وهو ما أعطاها مكاناً شديد القوة وربط بها المتعاملين الذين يبحثون عن قوة تدعم عملهم وتحميهم من الأقاليم والأفرع الثقافية التي تمتلك قوة مطلقة في الأقاليم . وهو ما جعل الطبيعي أن نشاهد ونسمع لمن ينادون طول الوقت بالمركزية كسبيل وحيد للتخلص من كافة المعوقات الإدارية والفنية التي تقف في وجه إنتاج العروض المسرحية في الأقاليم .. فالامركزية لا تعني الفوضي فحسب هنا وإنما تعني الخروج من سلطة المستبد المستنير في العاصمة لسلطة الديكتاتور الظلامي في الأقليم أو الفرع الثقافي ... ومن هنا تراجعت قدرة تلك الأفرع على تكوين كوادر صالحة لقيادة الحراك المسرحي بعدما تركت السلطة للإدارة المسلحة بالقوانين والنظام الإداري.
ولكن ومنذ بداية التسعينيات بدأت تلك السلطة المطلقة في السير في أتجاهين متناقضين الأول قائم على الأصوات الجديدة (أو المجددة) داخل الإدارة والتي سعت لتحطيم حالة الجمود التي سيطرت على الشرائح عبر مقترحات تطوير أساليب العمل وهو ما أسهم في إطلاق مشروع الامركزية ومشروع نوادي المسرح.
أما الأتجاه الثاني فهو سير الإدارة في طريق التحديث من خلال عناصرها الخاصة (برغم المؤتمرات والندوات واللقاءات .. الخ ) وهو ما أدي إلي مزيد من المركزية والتهميش للأطراف فأصبحت القرارات تهبط بشكل متعال ومنفصل (حتى لو تلبست رداء التحديث ومحاربة المركزية) .
وبالتدريج أصبحت الإدارة تحارب مشروعها الخاص وتحولت إلي قوة تقوم على تنمية الامركزية وتضع نفسها كمركز لا يمكن مراجعته .. مركز يمتلك الحقيقة المطلقة والمعرفة المطلقة في مقابل قناعة داخلية بإن الأطراف قاصرة الوعي .
ضع فوق هذا حريق بني سويف وأهتزاز العمل الإداري وتراجعه المستمر والنمو غير المتوازن للأطراف وهو يعني تراجع الحراك المسرحي في بعض المواقع للحد الأدني في بعض المراكز في مقابل نمو سريع وقوي للأسكندرية ... وهو ما زاد من حالة عدم الإتزان لدي المركز .. وبالتأكيد هناك الثورة ... الثورة التي جاءت في نهاية طريق طويل وقاس لتسرع بمشهد النهاية الطويل والقاسي على الجميع.
وهنا يأتي الطرف الأخر في الصراع بما يرفع من شعارات مثل : لأبد أن يكون هناك تمثيل طائفي في لجنة التحكيم (مخرج – مهندس ديكور- ناقد أو مؤلف) أو مثل : إن إستحضار عناصر من القاهرة إهدار للمال العام بينما هناك عناصر محلية قادرة على ممارسة ذات الدور ... وبالتأكيد فهناك تلك الرغبة الدائمه والقديمة في أن يوضع نظام يسهل من عمليات التصعيد للعناصر المميزة .. وعدم قطع الطريق للترقي المهني بدعوي (الأكاديمية) أو غير ذلك من المعوقات التي تسهم طول الوقت في تثبيت وضع عناصر والسماح لأخري.
إن المطالب الحقيقية إذا التي خرجت من الاسكندرية - هذا الموسم- مطالب بالمشاركة .. مطالب بإتاحة الفرصة (أو إنتزاعها) للمشاركة في عمليات تشكيل الواقع المسرحي .. وبالتأكيد فإن تلك المطالب وجدت صدي في بعض النفوس خاصة التي تري أنها أحق بدور أو مكان غير معترف لها به في ظل النظام الحالي الذي يسهم في زيادة مركزية الإدارة.
ربما يكون الوضع السكندري غير قابل للتكرار بعكس باقي الأقاليم المصرية التي تتشابه فيها الظروف وتختلف في حدود ضيقة بما في ذلك مدن كبيرة مثل بورسعيد أو المنصورة .. الخ. لكنه وبرغم ذلك قادر على أثارة خيال الكثيرين وغضبهم (في بعض الأحيان) ... لما يقدمه من نموذج للتمرد وثورة على السلطة الأبوية للإدارة المسرح وللعناصر التي أختارتها تلك الإدارة .. ثورة ربما تقابل بلإستنكار أو الإستهتار أو الإعجاب لكنها تكشف عن منحني قوي في العلاقة بين المركز والأطراف .. فحتى تلك المواقع البعيدة والنائية وغير المؤهلة ستصبح بحكم العلاقات المعقدة التي نمت في زمن المركزية في مواجهة ذات الوضع الذي يفرضه الواقع السكندري .. وهو ما يعني أننا وضع قد يقضي على الحركة المسرحية في كثير من المواقع .. فالمركزية أدت (بما في ذلك الأسكندرية) إلي إحباط نمو طبيعي لأي كوادر محلية في مجالات نوعية مثل النقد أو عناصر تصلح لإدارة ووضع سياسات للحراك المسرحي ...
أننا أمام حركة تحاول التحرر من المركزية (مدعومة بحركة مجتمع) لكنها مهددة بعدم وجود مشروع بديل قادر على حمل الحراك المسرحي وتنظيمه وتحديد أهدافه والأسس الإنتاجية التي يقوم عليها ...
بالمجمل فإننا أمام حالة تدمير متبادل بين إدارة فقدت قدرتها وترغب في ممارسة أدوارها المركزية مستندة إلي غياب كوادر محلية .. وصعود خطاب معادي للمركزية لكنه لم يخرج بعد من مرحلة البحث عن مساحات لأفراد إلي مرحلة المشروع البديل .. وهو ما يعني أننا سوف نظل في حالة التدمير تلك إلي أن تأتي اللحظة التي يفرض فيها المجتمع مشروعه الخاص على المسرحيين .. سواء أكان هذا المشروع ذا صبغة دينية معادية للمسرح أو ليبرالي رأسمالي قائم على التخلص من كافة الأدوار الثقافية التي كانت تحملها الدولة .
أنه وضع مأساوي ... لكنه الوضع الوحيد الممكن الأن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق