منذ الأيام الأولي لثورة 25 يناير والمسرحيين يحاولون الخروج من حالة الصدمة التي نتجت عن التداعي السريع والمفاجئ للنظام السياسي وما تبع ذلك من حالة فوران اجتماعي وسياسي أخرجت الكثير من القوي المقموعة سياسياً وأجتماعياً من صمتها إلي صدارة المشهد المصري .. وربما كانت تلك المحاولة للتغلب على الصدمة قد ظهرت بوضوح في رغبة العديد من المسرحين تخطي تلك اللحظة من خلال العروض الأحتفالية والتوثيقية وتلك التي تحاول تحليل حالة الأحتقان الأجتماعي والأقتصادي والسياسي التي أدت لذلك الحراك للمجتمع المصري والتي حطمت العديد من الرؤى والتنظيرات التي كانت تقدمها النخب الثقافية حول جمود المجتمع المصري وسيادة الدولة البوليسية المطلقة ...
بالتأكيد فإن تلك المحاولات لم تزل في معظمها غير قادرة على تجاوز تلك الدهشة الأولي والأنفعالات العنيفة التي صاحبتها وهو شيء طبيعي ومنطقي لكون الفن المسرحي (مثل بقية المنتجات الأبداعية) يحتاج لمساحة زمنية كافية لتأمل الواقع وتحليل القوي التي شكلته .. الخ
ولكن يبقي في النهاية لمثل تلك العروض محاولتها اللحاق بالواقع والأستفادة من الحيوية التي يمتاز بها فن المسرح (كفن أدائي حي ) قادر على مسايرة الواقع والإندماج بإيقاع الأحداث
وإلي تلك النوعية من العروض - التي تحاول اللحاق بالواقع – ينتمي عرض (كوميديا الأحزان) للكاتب ابراهيم الحسيني والمخرج سامح مجاهد والذي يقدم حالياً بقاعة مسرح (الغد) من أنتاج الفرقة القومية للعروض التراثية .. فمنذ البداية يمكن أن نلمح فيه ذلك التوق للإمساك بالواقع وتأويله وتأمله .. صحيح أن ذلك تم بصعوبة وبحالة من القلق وعدم الإنسجام والخشونة (في كثير من الأحيان) لكنه ومن جانب أخر أستطاع تخطي الطبيعة الوثائقية التي شغلت الكثير من العروض التي شهدتها الساحة المسرحية مؤخراً ، وكذلك تخطي الحالة الأحتفالية التي ضجت بها العديد من العروض التي أنطلقت من فرحة رحيل النظام والتي توقفت عند مرحلة التبشير والأحتفاء بالثورة .. ذلك لأن العرض يحاول وعلى أكثر من مستوي تخطي حالة السعادة الأولية نحو الأقتراب من الميراث الكبير – بما يتخطي النظام السابق – الذي يمتد تاريخياً لمراحل سابقة أدت بتراكمها وتتابعها على مصر منذ نشأة الدولة الحديثة على يد محمد على وما قبله إلي تشوية الشخصية المصرية وإخضاعها لتلك الأنظمة القمعية الفاسدة (مالياً وسياسياً) وذلك حسب وجهة نظر العرض والتي حرص الكاتب والمخرج على التأكيد عليها من خلال شخصية (حافظ / عبد الرحيم حسن) التي جلست لقرون تجمع في أدلة وملفات الفساد ملتفة بالصمت والغضب والأحباط ومنتظرة للحظة التي تتحرك فيها الجموع لتنتزع حريتها من تلك الأنظمة التسلطية الفاسدة التي أدت لإنحطاط قيمة الأنسان .. كما هو الحال في شخصية (نقرزان الكلب / وائل ابو السعود ) والتي فقدت أنسانيتها نتيجة للضغط الطبقي والأقتصادي الذي تعرضت له والذي أفقدها أنسانيتها وجعلها ترفض الأنتصاب على قدميها وتختار بشكل طوعي البقاء على أربع .
ومن خلال ذلك المدخل فإن العرض يقوم على ثلاث دوائر أساسية تضم الأولي كل من (يوسف/ محمود الزيات) المقيم بالمقابر ويحلم بالعثورعلى محبوبته (ضحي/مصر/الوطن) التي أدي به عشقه لها إلي التشرد والبقاء بين الجنون والعقل .. وعم حافظ ونقرزان .. وهم مجموعة تحيا بالمقابر وتقتات على المخلفات وتحيا خارج النظام الاجتماعي .. أما المجموعة الثانية فهي تضم (الشاويش سليمان/ معتز السويفي) رمز السلطة وأبنه منصورالشاب الذي يختار الخروج على طاعة أبيه والذهاب للتظاهر .. أما المجموعة الثالثة فهي تضم (الخطيبة/ راندة ابراهيم) التي قتل خطيبها بالمظاهرات .. وتتداخل تلك المجموعات وتنفصل لكنهم جميعاً يلتقون حول شخصية (ضحي/ وفاء الحكيم)
وكما يبدو فإن النص يحمل رغبة في رؤية الواقع المصري وتأمل علاقات القهر و الفساد وموقع الوطن ودوره في حياة أفراد المجتمع .. من خلال لحظة الثورة كحدث فارق ومفصلي يضع كافة الشخصيات التي تمثل أطياف من المجتمع المصري في لحظة مواجهة مع أفكارها عن العالم وعن ذاتها وهو ما يتأكد من خلال المستوين اللغوين (العامية والفصحي) فالشخصيات تلجاء إلي العامية في تفاعلها مع غيرها من الشخصيات .. ولكنها تنفصل عن لغتها في لحظات تقديم رؤيتها للعالم أو تعليقاتها أو سرديتها حول ذاتها .. وهو مأكد عليه المخرج من خلال البؤر الضوئية التي تعزل الشخصيات/ الممثلين عن العالم المسرحي في لحظات التحول من العامية إلي الفصحي ..
ولكن النص لم يكتفي بتصنيع مستوين بين الشخصية وتأملتها فحسب بل أنه لجاء إلي حالة من حالة التشظية للعالم الدرامي وتفتيت لأي تصاعد درامي ، الأمر الذي حول النص إلي مجموعة من اللوحات شبه المنفصلة .
بالتأكيد فإن ذلك الطموح الذي توجه نحوه النص جعل العرض يتناول مساحة شديد الأتساع ( خاصة إذ ما وضعنا في أعتبارنا حالة السيولة التي لم يزل عليها الواقع الذي يبشر به ... الواقع الذي ترسل له الشخصيات - في نهاية العرض - ملفات الفساد عبر توزيعها على المتفرجين) ولعل ذلك هو ما جعل العرض يبدو شديد الخشونة في بعض الأجزاء كما هو الحال في مشهد محاكمة ضحي الذي يتحول لمحاكمة عاطفية (لمصر/ الوطن) .. كما أدي ذلك لبطء الأيقاع العام للعرض نتيجة وجود رغبة لتقديم الكثير من المشاهد التي تحاول لملمة تلك الرقعة المتسعة التي يحاول العرض تأملها وكشفها .
ولكن ومن جانب أخر فإن العرض وعلى المستوي البصري حاول فك الكثير من التشابك الذي خلقه النص عبر تقسيم الفضاء المسرحي إلي منصتين يربط بينهم ممر يجلس المتفرجين على جانبية .. وذلك بهدف تحديد مجالات واضحة وفارقة بين عالم السلطة (سليمان) وعالم المحكومين (المقبرة) وهو ما يتضح في عمل مصمم الديكور والملابس (محمد هاشم) الذي أكد على العالمين من خلال الطبيعة اللونية (الأسود والأحمر) لعالم سليمان / السلطة وكذلك من خلال الأحذية الضخمة المنحوتة .. في مقابل عالم المقبرة وعالم عم حافظ الذي كان أكثر أعتماداً على الأبيض والأزرق .. الخ وهو ما خلق مساحات بصرية دعمت عملية تقسيم الفراغ ومجالات حركة الشخصيات التي وضعها المخرج وذلك بهدف التأكيد على حالة الصراع بين عم حافظ (المرتدي للون الأخضر) في مقابل سليمان(المرتدي للون الأسود) .. أو الصراع بين السلطة القمعية والمدافعين عن الحرية ..
وبالتأكيد فإن ذلك الأختزال قد ساعد كثيراً في تحديد التشابك الذي خلقه النص بطموحه وإن كان لم يستطع النجاة من الخشونة هو الأخر في بعض الأحيان سوي بكثير من الجهد كما هو الحال في ملابس شخصية ضحي التي تجمع الوان العلم المصري وهو ما جاء على حساب الطبيعة الخاصة بالشخصية .
وبالتأكيد فإن الجهد الذي بذله جميع الممثلين – بدرجات متفاوته بالطبع – أسهم في نقل الحالة الأنفعالية القوية التي كان العرض يرغب في طبع المتفرجين بها
وفي النهاية فإن عرض (كوميديا الأحزان) ربما أرهق نفسه – وهو شيء مشروع بالتأكيد – في سبيل طرح قضايا أثقلت جسد العرض .. ولكنه وبرغم ذلك يظل عرض جيد ويستحق المشاهدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق