هناك تصنيف بسيط لتوجهات النص المسرحي .. وهو يقوم على تحديد تيارين أساسيان للنصوص المسرحية ، أولهما يضم النصوص التي تحاول معالجة قضايا إنسانية عامة ؛ وهي النصوص التي تراهن على قدرتها على تحدي الزمن والتعبير عن الكائن البشري وأزماته الوجودية مهما أختلفت الظروف والثقافات أو مر الزمان ... كما هو الحال في نصوص شكسبير وصموئيل بيكت وسوفوكليس .. الخ.
إما التيار الثاني من النصوص المسرحية فهو الملتصق باللحظة المشتركة التي تجمع بين المتفرج والعرض المسرحي.. ولذلك فهو يميل لمناقشة القضايا السياسية العامة والمشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية الملحة كما هو الحال في نصوص المسرح السياسي (الكباريه السياسي ) أو المسارح التحريضية كمسرح الجريدة الحية.. الخ.. أو حتى نصوص أرستوفانيس ..
ولكن بين حدي ذلك التصنيف هناك الملايين من الدرجات الرمادية التي تتراص فوقها – وبينها- النصوص إلي الحد الذي يجعل من حدي التصنيف مجرد نماذج مثالية لا يوجد نص مسرحي قادر على الالتزام المثالي بها بشكل كامل (حتى لو أراد).. ذلك أنه في العادة ما يظل النص المسرحي الجيد متأرجحاُ بين معالجته لما هو أنساني وعام ومشترك بين البشر من ناحية وبين اشتباكه مع زمنه وتعبيره عن الواقع والثقافة التي تشكل وفق قيمها الجمالية والفكرية..
ولعل رواية (البؤساء لفيكتور هوجو) نموذج مثالي للأعمال التي استطاعت أن تجمع بين معالجة قضايا إنسانية إلي جانب مناقشة قضايا مجتمعها عامة ، وهو ما جعلها تمتلك القدرة على تخطي لحظتها الزمنية وأن تحيا - ليس داخل فرنسا القرن التاسع عشر - و تطرح أفاق لرؤية الواقع المصري في لحظة ملتبسة من خلال عرض مسرحي.
ولكن العرض الذي قدمته فرقة (أكاديمية المستقبل) للمخرج محمد لبيب واجه ومنذ اللحظة الأولي مجموعة من المصاعب التي نتجت بالأساس عن نص الإعداد والذي قدم كتأليف ( د.عزت عبد الوهاب) تحت عنوان (أحلام ياسمين) برغم أعتمده على البنية الحكائية الأساسية لرواية فيكتور هوجو والتي لم تتخطي تحويل مشاهد روائية إلي مشاهد مسرحية وإطلاق أسماء عربية على شخصيات (فجان فالجان صار حسان) و(جافير صار الروبي) .. وأخيراً صبغ الإعداد الدرامي بإطار من اللغة الشاعرية والأغاني .. وهو ما لم يستطع الخروج برؤية جديدة للعالم تستحق أن يطلق عليها كلمة تأليف..
وهو ما جعل نص العرض مشكل من (بؤساء) هوجو وطبقات من المعالجات السينمائية - السابقة - والأغاني والتمصير .. الخ وهو الأمر الذي أدي إلي تسيد الرؤية الأصلية لنص هوجو والقائمة على تحليل لكيفية تشكل البرجوازي وصراعه مع الطبقة الأرستقراطية التي تحاربه بأصلها النبيل وبأحقيتها الإلهية في مقابل أصله المتواضع والملطخ... بينما يحارب البرجوازي الأرستقراطية بقدراته ومهارته وقدرته الدائمة على تخليق واقع بديل بعكس الأرستقراطي الذي يظل حبيس تاريخه . وبالتالي لم يخرج العمل عن تقديم لنموذج الصعود البرجوازي المعتمد على المقولات الأخلاقية (العدالة المساواة والحرية) التي ترفعها الطبقة البرجوازية لتحقيق مشروعها.
وكل ذلك شكل التحدي الأساسي لعرض المخرج (محمد لبيب) وفريق أكاديمية المستقبل حيث ظل العرض ظل مشدود بعالم هوجو وقد تشوه وتفتت .. وهو ما كان كفيلاً بإنتاج عرض هزيل لولا تدخل المخرج كمعد وتحويله ثورة باريس ضد الملكية - في سبيل إنشاء الجمهورية الثانية- إلي ثورة يناير المصرية التي لم تنضج بعد لتكتسب لقب ثورة عن حق.. وهو ما فتح الباب أمام العرض لكي يجد لحظة مشتركة بينه وبين المتفرجين قرب نهايته ، وهو الأمر الذي خفف كثيراً من شعور المتفرجين بالمشكلات التقنية الخاصة بالديكور(نها وجدي – حسين عبد الهادي) ومشكلات تنفيذ الإضاءة ..
لقد كان تدخل المخرج (لتعديل نص العرض) لحظة تنوير حقيقية أعادت إلي الحياة هوجو وجعلت من الممكن بزوغ تأويل ربما لم يطف ببال مجموعة العمل والمخرج عن دور الطبقة البرجوازية في صناعة تلك الثورة .. وهو ما يقودنا إلي الإمكانات التي ظلت قابعة في الرواية التي صيغت لتناقش- في جزء منها - الصراع المحتدم في القرن التاسع عشر بين الملكيين والجمهوريين . تلك الإمكانات التي وجدت لنفسها منفذ عبر عرض (أحلام ياسمين) لتتحرك صوب واقع مغاير وفي ظل ظروف مختلفة وثقافة أخري وكذلك أن توجد مجالات للنفاذ لذلك الواقع كي ما تعبر عنه .. حتى وإن ظل ذلك المجال ضيق ومحدود برغبة في الزج بثورة يناير لوجود فرصة مناسبة لذلك وهو ما يتأكد عبر تلك النهاية الغامضة التي يصل إليها العمل والتي تحاول الدمج بين هزيمة ثوار هوجو من جهة وانتصار ثوار التحرير من جهة أخري .
إننا إذاً أمام أمكانية كان من الممكن أن تنقل العمل من كونه إعداد لبعض المشاهد من رواية البؤساء (لفيكتور هوجو) بسقف منخفض لا يطمح إلي أبعد من الإمساك بالإطار الحكائي .. لعملية إحياء لبؤساء هوجو ومناقشة للقيم التي يطرحها وللصورة المتفائلة للنموذج البرجوازي التي يصدرها والتي انتهت بنهاية العصر الرومانسي ..
ولكن ما حدث أن تلك المحاولة - من أجل إيجاد المشترك بين بؤساء هوجو واللحظة الراهنة - تمت بشكل متعجل وبدون تأمل للآليات التي يمكن من خلالها عبور تلك الهوة الفاصلة بين الزمنين وبين ثقافتين وهو ما أنتج العديد من الأزمات وساهم في تضخيم أزمات أخري كانت موجودة بالفعل مثل الديكور والإضاءة .
ولكن برغم كل تلك الأزمات التنفيذية والتي تتعلق بعمليات التشكيل البصري للفضاء المسرحي فإن المخرج (محمد لبيب ) أستطاع إنتاج عمل متماسك عبر مجموعة الممثلين الذين أسهموا في تحقيق حالة من التوازن للعرض مثل (سامح سعيد / مصلح) و(نور مصطفي / متولي) و( ندي طه / فوزية) .. وغيرهم من أبطال العرض الذين تمكنوا مع محمد لبيب من إعادة تقديم بؤساء هوجو بمسرح الهوسابير.
هناك تعليقان (2):
ميرسي كتير يا استاذ محمد واتمني ان نكون قد اسعدناك في المسرحيه
ربنا يخليك ... ونشوفك في أعمال أجمل وأفضل دائماً
إرسال تعليق