في العادة ما ينتج عن الثورات حالة من التفاؤل المبدئي بالعالم .. تفاؤل مصدره الشعور بوجود رغبة جماعية في التغيير وقدرة على صناعة المستقبل والتحكم في المصائر .. فالثورة تتيح لفترة محدودة - بحكم فوضويتها - لكافة المشاريع المقموعة من قبل النظام الحاكم (سياسي/ اقتصادي / اجتماعي) الأمل في التحقق والتواجد ... ومن هنا تسود حالة من الثقة في المستقبل تصل لذروتها مع الخبرات الإيجابية التي يتم استدعائها من التاريخ لتأكيد إمكانية التحول صوب الأفضل، وهو ما ينتج عنه تلك الحالة الاحتفالية بالعالم والإنسان في فنون زمن الثورة.. ومن ذلك التفاؤل وتلك الرغبات الاحتفالية تتفجر المشاعر المتدفقة التي تتجلي في تصورات فنية - الرومانسية أو التعبيرية.. الخ - ترفض التعامل مع المعطيات الواقعية وتنطلق صوب الالتحام مع الذات الواثقة في وجودها والمتفائلة بقدرتها على إعادة تشكيل العالم .
ومن خلال كل ما سبق فلقد أصبح من الممكن أن نضع عرض (النافذة) للمخرج سعيد سليمان ( والذي يقدم على خشبة مسرح الغد) ضمن ذلك الطيف من التجليات الفنية الثورية .. فنحن أمام حالة تبشيرية ومتفائلة بالعالم عرض يحتفي بالثورة ويتباهى بقدراتها على تحويل المصائر الشخصية والجماعية ، كما يري الثورة كحدث فارق وفاصل بين عصرين أولهما عصر القمع والخوف والهيمنة للسلطات الأبوية .. وإما العصر الثاني أو العصر الثوري فهو عصر التحرر والخلاص والتصالح مع الذات والعالم .
ولعل ذلك التمايز بين العالمين يبدو بصورة واضحة من خلال كافة عناصر العرض بداية من الموضوع الأساسي له والذي يقدم لنا عالم أسرة برجوازية صغيرة يعاني فيها الأب(حامد/حمادة شوشة) من حالة خوف وقلق دائم من العالم .. وهو ما يطبع عالم الأسرة بحالة من الكآبة والصمت... ويرصد العرض ملامح تلك الحالة التي يعاني منها (حامد) في المنزل وأمام التلفاز وبالحديقة وفي العمل.. إلي أن تقوده خطاه نحو الميدان ليتبدل مصيره ويتحول مع تحول المجتمع وينفلت من القوي القامعة له ويهزمها ليفتح – في نهاية العرض - نافذته للمستقبل بعدما كانت القوي الأبوية بالمجتمع تحاصرها وتحاصره طوال الوقت.
ولعل ذلك التوجه الثوري الذي تحدثنا عنه - والذي يقوم على تفعيل تلك الطاقة الانفعالية المتفائلة – كان هو الباعث الأساسي للطبيعة التعبيرية التي سادت العرض بداية من منطق العرض القائم على تجسيد وعي شخصية (حامد) بالعالم إلي الحد الذي يحول كافة القوي القمعية التي شكلته إلي حالة التجسد فوق خشبة المسرح من خلال مجموعه المؤدين الذين يشكلون العالم المسرحي من خلال تواجدهم كمشكلين للعالم (عبر دورهم في تشكيل المشهد بصرياً وتحريك وحدات الديكور) إلي جانب دورهم كعناصر تشكيلية (كما هو الحال عندما يتم استخدام أجسادهم في تشكيل المكتب أو المائدة .. الخ).. ومن هنا فإن تلك المجموعة المصنعة للعالم المسرحي (الأب والشيخ والضابط والمدرسة وسيدة الأمثال) كانوا أقرب لأن يكونوا تجلياً لرؤية حامد للعالم وللكيفية التي يتشكل بها.. وهو ما ينعكس في تصور بقية الديكور(لصبحي عبد الجواد) الذي قدم عالم المدينة كما يتجلى بمخيلة (حامد).. عالم يسوده الأبيض والأسود كعناصر لونية أساسية.. مع تنويعات لونية أخري بالتأكيد كما هو الحال في (الشباك/النافذة) ذو اللون (البيج) والتي هي الوحدة التشكيلية الأساسية التي يتم استخدامها طوال العرض لتشكيل المشاهد من خلال فكها وتركيبها طوال الوقت ...
وبالتأكيد فإن تلك الطبيعة التعبيرية تتضح في أداء معظم الممثلين بداية من (حامد/ حمادة شوشة) الذي يبدو أكثر الشخصيات امتلاءً بالمشاعر وذلك في مقابل باقي الشخصيات والتي تبدو أقل اقتراباً من المستوي الانفعالي الذي تقبع فيه شخصية (حامد) .. وإن كان المخرج قد حرص على وضع حالات أدائية مختلفة بداية بدائرة الأسرة (سارة/ هبة عصام ، الأم / مي رضا) وهي الدائرة القائمة على استخدام الأداء الجسدي والصمت وذلك في مقابل مجموعة العمل (ياسر أبو العينين ، مصرية ) الصاخبة والملتصقة بالواقع إلي حد قراءة الجرائد بصوت مرتفع.
من جانب أخر - وبالعودة لنص العرض - فإن المهتم بفن المسرح والمتابع له يمكنه وبسهولة أن يعقد مقارنات بين شخصية (حامد) وشخصية (الجندي فويتسك) .. أولها أن (فويتسك) سعيد سليمان (حامد) فويتسك منتصر أستطاع عبور أزمته الشخصية عبر الثورة التي أعادت إنتاج مفهوم الإنسان وفق أفق رومانسي متفائل بالعالم .. ولم يعد هناك ذلك العالم المجرد كما لم يعد من الممكن أن نرصد حالة البحث عن مخلص (فردي أو جماعي) كما كنا نجد في أعمال سعيد سليمان السابقة... لقد عاد الإنسان ككائن متعين إلي الواجهة بعدما كان قد تأكل في أعمال سعيد سليمان والكثير من أبناء جيله.
ربما لا تستمر تلك الحال المتفائلة لزمن طويل كما يري البعض .. وربما يكون لذلك التفاؤل ما يبرره ويدفعه من معطيات الواقع كما يري البعض الأخر .. لكن وبالمجمل فإن العرض ينطلق من حالة التفاؤل والتي تضعه في إطار احتفالي متلائم مع حالة البراءة المبتهجة بالعالم التي تصاحب الثورات والتي تقوم بتقديس الفعل الثوري وإحاطته بهالة أسطورية كما يتضح اعتماد المخرج على مادة فيلمية تقدم الشخصية (حامد) داخل مظاهرة واقعية بميدان التحرير .. حيث تحول ميدان التحرير وما حدث فيه لأيقونة ثورية لا يمكن للمسرح الإحاطة بها وإنما يجب تقديمها من خلال وسائط توثيقية .. وهو ما يتأكد من خلال تحول الشخصية من السلبية والخضوع والقلق من نظرة العالم إلي الثقة والقدرة على امتصاص قلق وخوف الزوجة من خلال زيارة الميدان وليس لسبب أخر وذلك أن الرابط الذي يقدمه النص بين مشاركة الابنة سارة وتحول حامد ليس مبرراً من خلال تاريخ علاقات الشخصيتان .
في النهاية ربما كان عرض (النافذة) للمخرج والمؤلف سعيد سليمان نموذج مثالي على العروض المسرحية التي صاحبت وعاصرت الثورة.. خاصة إذ ما أشرنا للقصيدة الملحنة (للشاعرة كوثر مصطفي والملحن محمد الوريث) والتي تختزل حالة العرض ورؤيته للعالم وتفاؤله به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق