ربما يكون عرض (بلقيس) للكاتب (محفوظ عبد الرحمن) والمخرج (أحمد عبد الحليم) عرض غير محظوظ إلي حد بعيد فلقد ولد في لحظة تاريخية غير اعتيادية .. لحظة تشهد مخاض لواقع بديل.. واقع قد يحول ما أعتدنا عليه من أفكار ونظم سياسية - منذ تحرر الدول العربية من الاستعمار وحتى إحراق البوعزيزي لنفسه - لتاريخ يحتل مكانه في خبرات الشعوب و فوق أرفف المكتبات ...بينما يتشكل المستقبل الآن في شوارع العالم العربي بالدم والصيحات الغاضبة التي تتصارع على شكل هذا المستقبل .
ولآن المسرح فن حي فإن هذا الواقع الجديد يفرض نفسه بقوة على العرض ويضعه في أزمة كبيرة تتمثل في مدي المفارقة بين الواقع الذي كان نص العرض يحاول أن يرصده ويمسك به في مقابل ذلك اللقاء الحي والمباشر مع المتفرج الذي تجاوز تلك اللحظة التي كان العرض في لحظات تشكله يحاول أن يمسك بها وأن يشير إليها عبر كافة عناصره بداية بالقصة الدينية المختلطة بالتاريخ الأسطوري والواقعي لشخصية بلقيس ... وهي القصص التي أعتمدها النص المسرحي من خلالها نفي وجهة النظر الدينية التي أصبحت راسخة في ذهن المتلقي والتي تعتمد على وجهة النظر النبي سليمان وعلى الطرق التي سلكها ليدهش تلك الملكة اليمنية ليمتلك قلبها وعقلها نحو الإيمان بالرب الواحد .. وذلك في مقابل تصعيد وجهة نظر ملكة سبأ التي يتم إجبارها على الذهاب للملك اليهودي الذي يحكم الجان والإنس ليتزوجها... وذلك في إشارة للعلاقة المتوترة بين اليهود والعرب وإلي نمط وشكل العلاقة التي سادت خلال العقود الأخيرة والتي ظهر خلالها العالم العربي في وضع منبطح أمام العدو..إلي حد كبير ..
إن النص إذاً ومنذ البداية ينطلق من محاولة محاكمة الواقع العربي بداية بالخيانة (الوزير حيرم/ مفيد عاشور) مروراَ بالنظم الحاكمة الضعيفة (الملك الهدهاد/ صبري عبد المنعم ) وفقدان القوي المدافعة عن الأوطان للقدرة على فعل ذلك (القائد الأعمى/ شادي سرور) ... الخ.
لكن ذلك الواقع ذاته الذي كان النص يحاول قراءته أصبح وجوده اليوم محط شك لأن العديد من تلك العناصر المشكلة للوحة الواقع قد تبدلت أو سقطت بحكم سقوط الواقع الذي كان يحملها ..
بالتأكيد فإن النص وإلي جوار ذلك الطرح الذي نقدمه هنا حاول تقديم مستويات أخري متعلقة بفكرة الطغيان والاستسلام واكتشاف العالم عبر تلك الرحلة التي تستغرق الجزء الأكبر من النص .. وإن كانت الشخصيات لا تمر خلال تلك (الرحلة / التيه ) بأي تحول لمصائرها أو نضوج لمواقفها أو تبدل لرؤيتها للعالم سوي بشكل مظهري كما هو الحال في شخصية (الخاطبة نجية / نهير أمين) التي تفقد عقلها وذاكرتها أثناء الرحلة دون مبرر واضح من داخل النص سوي أن ما حاق بها هو من أعراض الرحلة ... وهو ما يكشف عن وجود أزمة حقيقية في بناء النص تتمثل في أنه يتعامل مع أنماط ثابتة (الخائن / الأعمى / الشاعر/ القاتل.. الخ). وهو ما جعل من النص يقف في منطقة شديدة الجمود إزاء ما يحدث بالواقع المتحول.
ولكن ومن جانب أخر فإن العرض ومن خلال الديكور (صلاح حافظ) يندفع بشكل واضح نحو التأكيد على الطرح الأساسي الذي سبق أن قمنا بطرحه من خلال صورة مسجد قبة الأقصى التي تظهر في أكثر من مشهد دون وجود أهمية درامية لوجودها .. لكنها تظهر لتؤكد على سعي المخرج ومصمم الديكور على تحديد توجه المتفرج نحو تأويل بعينه خاصة أن النص كثيراً ما يتجه نحو مناطق شديدة السيولة بهدف توسعة مجال التأويلات ..
ومن هنا أصبح من الواضح أن العرض يسعي نحو بلورة تأويل ينطلق من الصراع بين العرب وإسرائيل من خلال العناصر المرئية بداية بألوان الملابس الدكنة التي يحددها لمجموعة المسيطرين (قاصف/ أحمد سلامة) و (عاصف/ أحمد عبد الوارث) واللون المعدني لملابس الجنود .. وذلك في مقابل اللون البني والأزرق لمجموعة (بلقيس/ رغدة), لكن ذلك التحديد اللوني والبصري من خلال صورة المسجد وعبر المكياج والإكسسوار ... لم يمتد ليشمل الأداء التمثيلي الذي ظل متمسك بالطرح غير المحدد الذي حاول النص أن يتجه إليه وهو ما جعل الأداء التمثيلي يبدو أكثر أاقتراباً من تقديم الشخصيات وتكوينها النفسي منه إلي تقديم الطرح التوجيهي الذي أعتمده المخرج في العناصر المرئية .. ولعل ذلك ما أنقذ العرض من السقوط في هوة المباشرة الممجوجة التي كان من الممكن أن يسقط فيها لو أنه أتبع ذات الأسلوب مع كافة عناصر العرض.
ربما كان العرض وبرغم ذلك الحظ السيئ الذي أشرنا إليه قد وقع في شرك المقارنة بين الخطاب المسرحي الذي تجاوزه التاريخ من جهة وبين لحظة العرض من جهة أخري .. لكن ذلك لم يمنع من أنه يظل عرض ذا سمات تقليدية ممتلك لكافة العناصر الجاذبة للمتفرج المسرحي بداية بالنجمة (الفنانة رغدة ) وبقية نجوم العمل إلي جوار الأجواء المرحة التي ولدها كل من عهدي صادق وشادي سرور وأخيراً عبر الموسيقي والرقصات التي تخللت العرض .. وهي العناصر التي جعلت من العرض متماسك وقادر على التواصل مع المتفرج والوصول إليه برغم كافة المشاكل التي أشرنا إليها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق