نشر هذا المقال بجريدة مسرحنا بالعدد 189 - بتاريخ الأثنين 28 فبراير .. والجزء المظلل باللون الأزرق تم حذفه للتقيد بمساحة محددة في النشر
ثورة...
للثورة تعريفات كثيرة .. لكن أكثرها تعبيراً (على الأقل بالنسبة لي) هو أنها قطيعة مع الماضي.. قطيعة تنطلق من عدم قدرة النظام (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعرفي قبل كل ذلك) عن تحقيق الأدوار المطلوبة منه للتعبير عن القوي التي أصبحت في صدارة المشهد الاجتماعي والاقتصادي والتي تشعر بغبن لحقها ومحاصرة لمصالحها وقمع حريتها بشكل يصل إلي حد محاولة إعاقة حركة التاريخ من ذلك النظام المتحلل والفاشل .
ومن هنا يصبح من الضروري إعادة صياغة للعلاقات الرابطة بين تلك القوي الاجتماعية وإعادة ترتيب للهرم الاجتماعي (العلاقات بين الطبقات) كي ما تحتل القوي الصاعدة مكانة تؤهلها لقيادة الحراك الاجتماعي ... وهو ما لن يتحقق بغير قطع كافة الروابط التي كانت تربط المجتمع مع النظام السابق بكل ما يحمل ذلك النظام من صيغ لترتيب العلاقات بين أطراف المجتمع وتحديد لحركة القوي الاجتماعية والاقتصادية المختلفة.. وذلك لصالح النظام الجديد الذي يعيد ترتيب العلاقات والروابط بين أطراف المجتمع من أجل تحقيق ما نطلق عليه (التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية).
ومن هنا كان من الطبيعي - وحتى نستطيع الوصول إلي تلك القطيعة التي يهدف إليها المجتمع - تحديد المسارات التي كانت تعرقل حركة المجتمع ودفعته للثورة والقضاء علي النظام السابق وذلك للتعرف على ملامح النظام القادم الذي سوف يتشكل في الأطراف ويتحرك صوب المركز ببطء خلال الأيام والسنوات القادمة .. وذلك حتى نضمن عدم تشوه ذلك النظام تحت ضغط حالة التناحر بين القوي الاجتماعية والاقتصادية التي تبحث لنفسها عن مغانم سريعة ومباشرة.. كما يبدو حالياً في صورة فوضي الإضرابات والاحتجاجات الفئوية على السطح من جانب وصراع بين قواميس أيديولوجية تحت السطح (التسويق والإنقتاح الاقتصادي في مقابل الدعم ورعاية الدولة والتوظيف الحكومي .. الخ).
فلننظر للخلف بغضب لبعض الوقت ولكن دون حقد أو رغبة في الانتقام كي ما نستطيع التحرك للإمام من أجل اكتمال الثورة كقطيعة مع الماضي.
(1)
كان أخر ما فعلته الحكومة السابقة هو تحويل نظام المحاسبة على الاستهلاك للكهرباء من نظام الدفع بناء على حجم قراءة العداد إلي نظام جديد وهو أن يدفع المستهلك بشكل مسبق (أي بنظام الكارت المدفوع مسبقاً ).
وهو ما كان يعني وقتها دليل جديد على نهاية مفهوم الخدمات العامة التي تقدمها الدولة لصالح مفهوم السلعة التي يجب على المستهلك سداد ثمنها بشكل مسبق..
نحن هنا لا نتحدث فحسب عن أسلوب لتخفيض وتحديد حجم الاستهلاك ، لكننا نتحدث عن سياق كامل من الأحداث التي بدأت قبل سنوات بتحويل (هيئة الكهرباء) غير الربحية بحكم التعريف إلي مجموعة من الشركات الربحية (حتى لو تحدث البعض عن وجود دعم ) .. والخصخصة.. الخ.
وهو ما يعني أن الدولة كانت في طريقها للتخلص من كافة الارتباطات التي تجعل منها المحرك الأساسي لعملية تحقيق التنمية الحضارية والاجتماعية والاقتصادية وحماية الطبقات الأكثر فقراً.. وهو الأمر الذي وصل إلي غايته في تحويل الشركات الخاصة إلي شريك أساسي في مهام كانت من أساس عمل الدولة مثل الطرق العامة (كما أشار السيد رئيس الوزراء السابق في أخر أحاديثه التلفزيونية).
ولكن ما علاقة كل ذلك بالمسرح والحركة المسرحية في مصر ؟
بالتأكيد فأن مثل تلك التعليقات حول التوجهات الاقتصادية للنظام السابق لا ترسم صورة جديدة عما يعرفه الجميع.. وهو الأمر الذي تزداد بديهيته عندما نتحدث عن تخلي النظام السابق عن رعايته للمسرح... فمنذ سنوات طويلة والمسرحيون يتحدثون بقلق عن تلك اللحظة المرعبة التي تترك فيها الدولة الساحة المسرحية للمجهول .. وهو القلق الذي يزداد ويتعقد مع الأزمة العميقة التي يعيشها المسرح (غياب الجمهور) وتحول المسرح إلي عبء على ميزانية الدولة التي (كانت ومازلت) تعاني من أزمات كبيرة في توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين.. لكن ما كان يريح دائماً هو رغبة النظام السابق في الحفاظ على قدر من الاستقرار الاجتماعي والسياسي بشكل يتيح التحدث عن أن الدولة لن تتخلي عن دورها المسرحي بسهولة خاصة وأن البدائل الإنتاجية المتوافرة مقلقة (مثل المراكز الثقافية الأجنبية على سبيل المثال) من ناحية . ومن ناحية أخري كون تخلي الدولة عن الإنتاج المسرحي بمثابة تخلي النظام عن الرقابة على المنتج المسرحي وذلك لأن البدائل وفي معظمها غير خاضعة لنظام الرقابة – وفق تصور النظام السابق - وكذلك غير خاضعة للرقابة النقابية.
وأخيراً فإن المسرحين (العاملين ضمن جهاز الدولة الثقافي) كانوا يشعرون بالطمأنينة نتيجة لوجود قوي نجحت في السنوات السابقة في وقف وردع بعض التحركات من قبل الهيئات الثقافية لتسريب ملامح ربحيه إلي داخل النظام المسرحي.
ولكن إلي أي مدي يمكن أن تكون تلك الطمأنينة حقيقية ؟ وإلي أي مدي كان من الممكن التحدث عن وجود محددات راسخة للحركة المسرحية وضمان لثبات النظم الإنتاجية بشكلها الحالي أو تطويرها دون التخلص من بعضها ؟
أعتقد أنه من الصعوبة أن نحاول قراءة وضعية الحركة المسرحية في مصر (الآن أو في ما قبل 25 يناير) دون الانطلاق من المركز الرئيسي لها وهدفها (المتفرج).
(2)
ربما يتشكل مفهومنا عن (المتفرج) في الأساس من مصدرين أساسيان الأول خاص ببديهيات الفن المسرحي والتي تشترط وجود المتفرج كشرط أساسي لتحقق المسرح ، أما المصدر الثاني فيتعلق بالمردود المبتغي من ممارسة المسرح كنشاط اجتماعي وجمالي وهو الربح المادي أو التنمية الثقافية أو التحريض الأيديولوجي .. الخ.
وهو ما أنعكس على مفهومنا عن المسرح (كمسرحيين وكعاملين في الحقل الثقافي بشكل عام) فلقد أصبح من الطبيعي والبديهي وجود حالة احتياج شديد وغير قابل للتفاوض للمتفرج، فبدونه يفقد المسرح وجوده كفن, وكحدث اجتماعي, ولكافة الغايات التي يمكن أن نحملها له بالتأكيد.
ذلك كلام بديهي .. لكنه سريعاً ما كان يفقد ذلك الاعتيادية عندما كنا نجد مقالات تصرح أن المسارح بدون جمهور.. أو أن يباهي المستقلين - على سبيل المثال - أن هناك جمهور يتابع عملهم بعكس المسارح الحكومية ( المحترفة والهاوية).. أو نستمع لقيادات في مسرح الدولة وهي تتحدث بأريحية عن التسويق وإنارة المسارح المظلمة.. وكذلك شيوع لمصطلح (المسرحي المحترف) لوصف عمل فناني الفرق المستقلة بما يحمل من أشارات لعملية التربح من ممارسة الفن المسرحي في مقابل مصطلح (الفنان الموظف) لوصف المسرحيين العاملين بمسرح الدولة.. أو من يتحدث عن كون المسارح المصرية (بكافة أشكالها الإنتاجية) لا تمتلك (جمهور/متفرجين) وأن عروضها تعتمد على الأصدقاء والأقارب والزملاء والنقاد والصحفيين وبعض المثقفين وطلبة أقسام المسرح بالجامعات إلي جانب طلبة المعهد العالي للفنون المسرحي وبالتالي فلو أغلقت المسارح في الغد فلن يشعر أحد بالفقد سوي ممارسي المسرح فقط لان كافة تلك الفئات التي يشار إليها (كمتفرجين) ليست هي الفئات المستهدفة من ناحية وغير كافية للتحدث عن ظاهرة مسرحية بهذا الحجم وتلك الميزانية.
أن تلك الأصوات تكشف عن إدراك لخلل عميق في الحركة المسرحية في مصر كأزمة كيان مُتخلف عن ركب النظام الاقتصادي (في الأساس) كما يبدو من توجه الخطاب الخاص بمسرح الدولة نحو (التسويق) ودفع المستقلين للتأكيد على أن سيطرة الدولة هي الأزمة وأن الحل يكمن في علاقة اقتصادية مستوحاة من النظام الرأسمالي عبر رفع يد الدولة عن المسرح وإعطاء الحرية لحركة النمو بعيداً عن مخلفات النظام الاشتراكي التي أبقي عليها النظام لتحقيق أكبر قدر من السيطرة على أطراف المجتمع وتأميم الحراك الاجتماعي وتحديد حركته تماماً كسيطرة وزارة الأوقاف على المساجد لتأميم الحياة الروحية ... والبديل عند المستقلين هو دعم جزئي يتيح حرية التحرك كما يتيح الأساس للحركة المسرحية كي ما تنمو وتصبح قادرة على التخلي في مرحلة لاحقة عن ذلك الدعم .
يبدو أن الخطاب الاقتصادي القوي والمتصاعد هنا يقدم المتفرج كهدف تسويقي يصبح الوصول إليه هو النجاح الذي يتبعه قيام المسرح بأدواره التنموية أو ما شابه.. كذلك فإن ذات الخطاب الاقتصادي يرشح تخلي الدولة عن عبء الدعم الكلي للمسرح والقضاء على هيمنة النظام المطلقة والمباشرة على الحركة المسرحية.
أن ذلك الخطاب كان يبدو شديد العدائية للنظام الحاكم في مصر لكنه ومن جانب أخر كان يعبر عن توجهات لدي بعض أطراف النظام نحو تخفيف الأحمال التي يحملها النظام كي ما يصبح أكثر قدرة على الحركة بيسر وبشكل يتيح له تحقيق نموذجه الاقتصادي الأمثل من جهة ويكسبه المرونة الكافية للمناورة من أجل اكتساب أكبر زمن ممكن لتحقيق غاياته التي يراهن من خلالها على تحقيق أعلى قدر من الرخاء الاقتصادي الذي يسهل قبول المجتمع لوجود لنظام الحكم وهو ما سينعكس بالتالي في مزيد من الهيمنة والاستقرار لنظام الحكم وتخفيف للاحتقان الاجتماعي وهو ما لم يحدث بالتأكيد.
ربما كان ذلك الخطاب الاقتصادي من القوة إلي الحد الذي حول متلقي المسرح من هدف تنموي (كما كان في إطار الفكر الاشتراكي) إلي هدف اقتصادي (مُستهلك) يمكن السعي إليه عبر المهرجانات بشكل أساسي وذلك لما تقدمه المهرجانات (وعبر إطارها الاحتفالي) من فرصة للتسويق ولتحقيق أعلى قدر من المشاهدة .. ويمكن أن نقارن المهرجانات هنا بمواسم التخفيضات والمهرجانات التسويقية للمنتجات... وما شابه.
وبالتالي فإن المسرح (وحسب النموذج الاقتصادي للنظام السابق في شكله الأمثل) يجب أن يتوجه نحو متلقي ذا سمات محددة (برجوازي/ منتمي للقاهرة أو الأسكندرية بالأساس) وينفر من نموذج متفرج الأقاليم .. وإن كان يضعه على سلم أهدافه في مرحلة لاحقة... بما أننا نتحدث عن توجه اقتصادي نحو النظام الرأسمالي... لكن أزمة ذلك الخطاب الأساسية هي كون المسرح لا يحقق الإشباع الذي يقدمه التلفاز كما أنه ليس بالصناعة المربحة كالسينما .وبالتالي غير قادر على جذب ذلك المتفرج المثالي .
وهو ما يعني أن المسرح (وفق ذلك التفكير الاقتصادي والربحي) وحتى يصل إلي تحقيق ذلك النموذج المثالي له لابد له من تغيير كافة أسس النظام الاقتصادي القائمة وتحرير الاقتصاد بشكل كامل حتى نستطيع الحصول على نظام يُمكن المسرح من بلوغ نموذج (الويست أند في لندن End West - وبرودواي Broadway ) حيث يبلغ النظام المسرحي قمة تألقه التقني والتنظيمي وبأسعار تذاكر لا تقل عن الثمانون دولار بما يجعل المتفرج مُستهلك للفن بشكل كامل... وهو الأمر الذي كان يسعى إليه النظام الثقافي السابق والذي ترسخ مع قيادة الطبقة البرجوازية المتوسطة والعليا (الشباب) لثورة إسقاط النظام.
ولكن حتى لو رضينا بنماذج أقل تواضعاً فإن تحقيق حالة الرواج المسرحي لن تتم في جانبها الاقتصادي إلا عبر تحويل اهتمامنا نحو (المتفرج /المستهلك) للفن وليس المتفرج المستهدف بالتنمية.. وهو ما يستدعي تطوير المنتج المسرحي (على المستوي الجمالي والخطابي) حتى يتمكن من تحقيق الإمتاع الذي يطلبه المتفرج المستهلك.
لكن تلك الأزمات لم تكن هي الأزمات الوحيدة التي كانت تواجه ذلك النمط من التفكير الاقتصادي (ومازلت) فهناك أزمة أكثر عمقاً وأكثر تعقيداً تتمثل في أن النمط البديل (للمسرح الجاد) يتمثل في فرق مستقلة تتشارك في أنماطها الإنتاجية مع السينما المستقلة والغناء المستقل والأعلام المستقل .. بما يعني أننا أمام مجموعات من النخب الفنية والثقافية والإعلامية تبحث عن الخروج من سيطرة القوي الإنتاجية الضخمة والسلطات الخطابية المهيمنة على المجتمع وتقديم بدائل تصل إلي أقصي أشكالها تتطرفاً في الإعلام التفاعلي الذي يقوم عليه صحفيين مستقلين يمتلكون صفحات على الشبكة ويقدمون خطاباً إعلامياً غير خاضع لسلطة الإعلام الموجه أو الإعلام الخاضع لعمليات الرقابة المنظمة من قبل الدولة أو من قبل المؤسسات الصحفية الحزبية الموجه أو الصحف الخاصة المتورطة بحكم تكوينها و الخاضعة لمجموعة من القوانين التي تحاصرها وتمنحها الشرعية إلي جانب ارتباطها بقواعد التوزيع وحاجاتها للإعلانات .. الخ. بما يجعل من الصحفي المستقل (صحفي شبكة الإنترنت) النموذج المثالي للفنان الراغب في التخلص من سلطة الدولة ورأس المال والرقابة ..
ومن هنا صار من الممكن أن نتحدث عن سينما مستقلة يمتلك أدوات إنتاجها (الكاميرات ووحدات المونتاج .. الخ) عناصر حرة وغير مرتبطة بنظام الإنتاج السينمائي وبالتالي متحررة من أشكال السينما التجارية .. وبالتالي يصير المنتج ملك خاص لصانعيه بالأساس أو ملك لشركات إنتاجية صغيرة غير موضوعة على خارطة التوزيع السينمائي التجاري .
وما يمكن قوله عن الإعلام والسينما يمكن تطبيقه على الغناء والأدب إلخ.
لكننا عندما نقترب من المسرح سوف نصطدم بوجود أزمة حقيقية وهي تملك وزارة الثقافة لمعظم دور العرض المسرحي وأن النسبة المتبقية موزعة بين مؤسسات تابعة للدولة - بشكل أو بأخر(كالجيش والمكتبات العامة و المدارس الحكومية والأهلية.. الخ)- أو تابعة لبقايا نظام المسرح التجاري وأخيراً دور عرض صغيرة ومتناثرة تقوم على دعم المسرح المستقل (ساحة روابط ، ساقية الصاوي ، الجزويت ... الخ )... وهو ما يعني أننا أمام أزمة حقيقية كانت تواجه ذلك المسرح المستقل تتمثل في ندرة دور العرض بما يعني تراجع قدرة المسرح المستقل على تحقيق نموذجه المثالي وهو تفتيت دور مسرح الدولة واستبداله.
لكن حتى تلك المشكلة لم تكن سوي مجرد القشرة الخارجية لأزمة الخطاب الاقتصادي الداعي لتحرير المسرح من هيمنة نظام الحكم السابق ذلك أنه إذا كان الإعلام التفاعلي عبر الشبكة يعمد إلي التخلي عن الصحيفة المقروءة لتحقيق الاستقلال وإذا كانت السينما تعتمد على حيازة المنتج (الشريط السينمائي) والموسيقي بالمثل فإن المسرح يظل في حاجة إلي مكان لتنفيذ العرض المسرحي (سواء أكان دائم كدور العرض أو مؤقت كالأماكن التي يتم أعدادها بشكل مؤقت لتقديم عروض مسرحية " كافتيريا أو دار مسننين .. الخ " أو حتى مكان محايد "حدائق عامة .. ساحات أو شوارع " ).
هنا كانت تظهر الأزمة الحقيقة التي يمكن أن نري فرعيها :
الأول: المسرح نشاط غير اقتصادي بوضعه الراهن فهو يحتاج إلي فترة تحضير (مكان للبروفات) ومكان للعرض وهو ما يعني أننا أمام تكلفة مرتفعة بعملية الإنتاج (حتى لو تم تأجير مكان العرض من مسرح الدولة)... وفي مقابل ذلك لا يحقق العرض المسرحي في ظل أزمة المسرح الحالية (غياب المتفرج) العوائد المالية التي تستطيع تغطية تكاليفه (ديكور وملابس وأجور وإيجار لمكان العرض والبروفات.. الخ) فما بالنا بإقامة نظام مسرحي يعتمد على فرق محترفة ودائمة.
الثاني: كانت هناك هيمنة تامة من قبل النظام على الفضاء العام ومصادره وقمع له بما كان يجعل أي عمل أدائي عام (بداية من حق التظاهر ونهاية بعروض المسرح ومهرجي وسحرة الشوارع أمر شديد الصعوبة)
ونتيجة لتلك الأزمات ظهرت تشوهات في جسد المسرح المستقل وجعلته أما خاضع:
1- لهيمنة مؤسسات ومراكز ثقافية التي لديها برامج محددة (في ما يتعلق بعمليات التنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية) وهو الأمر الذي لم يؤدي سوي لظهور عناصر متفرقة وقليلة بشكل لا يكفي لملء الساحة المسرحية (لندرة تلك المنح ولإنتقائيتها) وهو الأمر الذي ترك بقية الساحة لمسرح الدولة ولبقايا القطاع الخاص.
2- تصميم عروض صغيرة ومحدودة يتم عرضها لفترات قصيرة وهو الأمر الذي لن ينتج أيضاً تحول في النظام المسرحي أو ظهور لتيار مسرحي مستقل قوي وقادر على مواجهة مسرح الدولة.
3- الذوبان في مسرح الدولة وهو الخيار الذي ظل مطروح ومنذ بداية التسعينيات وحتى اللحظة الراهنة وهو الأمر الذي كانت تلتقي فيه رغبة النظام السابق برغبة المستقلين وكانت تلك العلاقة المقترحة تقوم على دعم الدولة المادي لتلك الفرق لتتحول إلي بديل خفيف وقوي لمسرح الدولة وهو الأمر الذي وصل إلي قمته في ظهور دعاوي بتخصيص مسرح (أو أكثر) من مسارح الدولة لكي تعرض عليها عروض تلك الفرق.
ومن الحل الأخير وجد الخطاب الاقتصادي حل وسط ومريح يتيح للنظام السابق الهيمنة على فضاء الأداء الحي المسرحي بشكل مبدئي ووضع اللبنة الأولي في نظام إنتاجي يمكن أن نري مداه المستقبلي في تخلص الدولة من الأبنية المسرحية التي تمتلكها (في القاهرة والإسكندرية كبداية) لتنالها عمليات خصخصة مقننة ومحكومة تماماً تتيح للنظام الهيمنة دائماً من خلف الستار حتى تأتي تلك اللحظة الخيالية التي ينجح فيها النظام الاقتصادي في تقديم الجوائز للجميع وبذلك تتحقق الخدعة الكاملة التي يخرج فيها الجميع رابحين (كما يقول بطل فيلم الأخوة بلومThe Brothers Bloom في نهاية الفيلم ) !!!
لكن اللحظة الخيالة تلك لم تتحقق وأصبحنا أمام لحظة أكثر خصباً أصبح من الممكن فيها التحرك صوب أي مصير .
(3)
بالمقابل ظل هناك خطاب اقتصادي مضاد .. تمترس في النظر للمتلقي كهدف تنموي .. خطاب يستمد قوته من الحراك المسرحي في الأقاليم.. بعد أن بدأ مسرح الدولة في التخلي عن توجه التنموي بالتدريج منذ بداية التسعينيات.. أن ذلك الخطاب ورغم هشاشة وضعه وصلاحيته الدائمة لأن ينعت (بالرجعية .. الحكومية .. الفشل.. الخ) نتيجة التصاقه بالإنتاج الحكومي.. إلا أنه كان يبدو أكثر راديكالية ومقاومة لحركة النظام ومعتمداً على الأدوار التي كلف بها النظام ذاته (أو ورثها وأصبحت تركة يصعب التخلص منها).
أنه خطاب يتعامل مع المتفرج من منطلق أيديولوجي ويري أن دوره هو التثقيف والمواجهة للخطابات الدينية الرجعية وللخطابات الفنية والاقتصادية والاجتماعية المناوئة للأهداف التقدمية التي يعمل من أجلها ، ولعله في هذا يجد الأرضية المشتركة - وأرض المعركة في ذات الوقت – مع النظام ... أنه التوجيه والتشكيل للوعي الجمعي .. وهو ما نجده في خطابات قدامي المتعاملين والعاملين بهيئة قصور الثقافة.. كما نجده في الخطاب الفني التقليدي بالشرائح الإنتاجية بالقصور. وفي الخطاب النقدي بالدوريات الصادرة عن وزارة الثقافة في جريدة مسرحنا بشكل أساسي ومجلة المسرح بشكل أضعف... ولكننا وفي النهاية فإننا نجد أن الحركة النقدية المصرية (وبعيداً عن مدي رضاء المبدعين عنها) ظلت هي أكثر العناصر راديكالية في الدفاع عن دور الدولة في النظام المسرحي والمؤهلة بحكم طبيعتها لأن تكون الأقرب للمواجهة مع الخطاب الداعي لتحويل المتلقي إلي مستهلك (وإن كان ذلك لا ينفي بالتأكيد وجود عناصر نقدية تبشيرية الطابع (بالمسرح الجديد) وتتبني الخطاب الخاص بتحويل المتلقي إلي مستهلك للمادة المسرحية في المقام الأول).
ولكن ذلك الخطاب ظل محاصر بارتباطه على المستوي الاقتصادي بالمشروع الخاص بالنظام السابق نتيجة عدم قدرته على العمل بمعزل عن الدعم الاقتصادي.. ومحاصر قبل ذلك بتهالك النظام الإنتاجي نتيجة حالة التجميد التي مارسها النظام السياسي ضد ذلك النظام الإنتاجي من ناحية ومن ناحية أخري فشل للعناصر الإنتاجية (فنية وإدارية) نتيجة ارتباطها بالنظام الإداري للدولة الذي ترهل وفقد القدرة على تطوير ذاته نتيجة عدم وجود نوايا لتطوير أو تنمية عناصره أو نظم إدارته.
وقبل كل ذلك ارتباطه بنظام عمل متحلل يبدأ من المعهد العالي للفنون المسرحية الذي أصبح لا يملك تقريباً غير ارتباطه بنقابة المهن التمثيلية وفقدانه دوره (كجهة تعليمية رسمية) داخل النظام المسرحي نتيجة ظهور الورش الدائمة والمدعومة من قبل الدولة (مركز الإبداع) أو من قبل منظمات المجتمع المدني الناشئة (والتي يمكن ردها - بشكل عام - إلي التمويل الغربي الذي تتنوع مسمياته :المفوضية الأوربية ، المراكز الثقافية ، صناديق الدعم الثقافية والمسرحية .. الخ).
وهو ما جعل دوره يتراجع إلي حدود شديدة الضيق تكاد تنحصر في الدور التعليمي التقليدي (الموصوم بالحكومية والرجعية والتخلف عن ركب نظم التدريب المسرحي الحديث والانفصال عن الحركة المسرحية الحديثة.. الخ) والذي يتشاركه مع أقسام المسرح بكليات الآداب.
لكن المعهد وبحكم تاريخه وارتباطه الوثيق بنقابة المهن التمثيلية من ناحية وبالهيئات الإنتاجية التابعة للدولة نتيجة كون معظم العاملين بالفرق المسرحية من خرجيه واعتماد أساتذته وخرجيه كمدربين للورش وكمقيمين للإنتاج المسرحي الخاص بقصور الثقافة والجامعات.. الخ يظل المركز التعليمي الأكثر تأثيراً وارتباطاً بالخطاب المدافع عن دور الدولة في العمل المسرحي إلي جانب العناصر التي سبق لنا الإشارة إليها.
لكن ذلك الدور تراجع بالتدريج نتيجة إصرار نظام الحكم السابق على قطع علاقته المباشرة بالحركة المسرحية من خلال وقف تعيين خريجي المعهد (بالبيت الفني للمسرح والفنون الشعبية وإدارة المسرح) كجزء من خطة لتصفية الجهاز الإداري للدولة وتخفيض عدد العاملين إلي الحد الأدنى ،وهو ما يعني قطع علاقة المعهد بالتدريج بالمسرح وقصر نشاطاته على تأهيل عناصر فنية موضوعة في إطار تنافسي غير متوازن وغير عقلاني (السينما والتلفزيون) وبالمجمل تحويل معظمهم إلي قوي معطلة .. تماماً كما هو الحال بمن ينجحون في دخول تلك الهيئات الحكومية ( في إطار عمليات الموازنة وتخفيف الاحتقان المستمرة حتى الآن) ليتحولون إلي جزء من ذلك النظام الإداري الذي سبق لنا الإشارة إليه.. وهو ما يعني تحويلهم إلي قوي معطله وغير فاعلة... ولعل ضم بعض المنتجين السينمائيين ومخرجي السينما والفيديو إلي لجان التقييم في المعهد يوحي لنا بوجود قوي داخل المعهد تدفع نحو فصل المعهد عن الحركة المسرحية.
بالمجمل فإن الخطاب المضاد والمعارض لتوجهات النظام المصري وللنظام العالمي (الاقتصادي بشكل أساسي هنا) تتم محاصرته وإضعافه وتفتيته إلي الدرجة التي يتحول فيها إلي حمل زائد على كاهل الحركة المسرحية بالتدريج بما يجعل التخلص منه أسهل وأكثر منطقية.
(4)
في كتاب " لماذا نحتاج المسرح ؟ " هناك مقولة للمسرحي كريستوف شروت ضمن مداخلته المعنونة (المعيشة الجماعية ) يفند فيها القوي المعادية للمسرح :
"المال والربح كمقياس للأشياء ، هؤلاء الذين ينتظرون من المسرح أن يشبع رغباتهم مثله مثل التلفاز ، الذين لا يعيرون الأشياء اكتراثاً والذين يتوهمون أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان ، الذين لا يثيرون شيئاً . وكذلك الكذب ."
ربما تختزل تلك المقولة الكثير من التحليلات التي يمكن لنا من خلالها تحديد أسباب فشل الظاهرة المسرحية خلال المرحلة السابقة على الرغم من ذلك التنوع الكبير في أشكال الإنتاج المسرحي بداية من المسرح التجاري مروراً بالمسارح المدعومة من قبل الدولة أو من قبل مؤسسات غربية ونهاية بمسرح الهواة الكامل المعتمد على إمكانيات أفراد الفريق المادية وغير الساعي للتربح أو للقيام بأدوار تتعدي الإشباع لأعضاء الفريق .
كذلك يمكن لتلك المقولة أن تحدد لنا دورنا وما يجب علينا الدفاع عنه كي ما نستعيد المتفرج الذي فقدناه نتيجة للسياسات الثقافية/الاقتصادية التي أعتمدها النظام السابق والتي أنهت دور المسرح التنموي ودفعته صوب البحث عن مستهلك بمقاييس السينما التجارية كي ما يشارك المسرح في صناعة المستقبل وفي النهاية يمكن لكل ما سبق أن يؤشر لنا على ما نحتاجه كمسرحيين في المستقبل بعدما أصبحنا ممتلكين لقدر من القوة والحيوية التي وهبها إلينا المجتمع عبر الثورة ... قوة تمكننا من النظر للماضي في غضب وتمكننا من النظر للمستقبل بأمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق