ربما لم يكن المسرح ليمتلك ذلك التفرد وتلك الحيوية والحضور لولا قدرته كفن على تحقيق حالة المشاركة الحية والآنية بين جماعة بشرية تتوافق على تفكيك النظام الاجتماعي بكل ترابطاته لصالح نظام بديل للعلاقات - مؤقت وشديد البساطة - قائم على تقسيم تلك الجماعة إلي مؤدين ومتلقين يتشاركون عالم بديل منقطع الصلة بالعالم الواقعي ونظامه الاجتماعي.
بالتأكيد أن ذلك النمط الاجتماعي البديل كان محط اهتمام المسرحيين منذ أقدم العصور وحتى اليوم فمن مسارح شرق أسيا الطقسية والتي تنطلق من مشاركة المؤدين والمتفرجين/ المشاركين لتجربة روحية واحدة مروراً بالمسرح الغربي عبر تحولاته المتعددة منذ اليونان القديمة ومروراً بمسرح العصور الوسطي والإليزابيثي والواقعي وحتى محاولات بريخت وبقية فناني الطليعة الحداثية في أوربا تحطيم نمط العلاقة التي أرساها القرن التاسع عشر والقائمة على تحجيم دور المتلقي داخل حدود التلصص والمشاركة الوجدانية والعقلية من خلال حاجز أمن يحميه ويضمن له خصوصيته وتفرده من الانتهاك ... حيث حاول بريخت وأرتو وغيرهم تحويل المتلقي إلي مشارك حي واعي ومدرك لذاته كجزء من جماعة تحاول تفتيت العلاقات الطبقية للمجتمع البرجوازي لصالح مجتمع غير طبقي وقائم على التشارك الجمعي في تخليق التجربة وتشكيل العالم . ولعل ذلك الطموح الذي أنتشر بشكل سريع قد أدي إلي تراجع شعبية المسرح لدي المتلقي المنتمي للمجتمع البرجوازي وصعود شعبية السينما لتتحول إلي الفن الأكثر شعبية حول العالم فهي تقدم للمتفرج – ضمن ما تمتلك من مقومات للتواصل بالتأكيد - ظرفية مثالية للتمتع دون ضريبة انتهاك وعيه بالعالم وخصوصيته وإحساسه الزائف بالتفرد .
إن ذلك التجوال السريع وغير المتعمق في العلاقة بين المتلقي والعمل الفني يمكن له أن يقدم لنا مدخلاً لعالم عرض (المطعم) الذي يقدم حالياً بقاعة يوسف إدريس بمسرح السلام من إنتاج فرقة مسرح الشباب والذي ينتمي بشكل واضح إلي (أكرم مصطفي) الذي قام بجانب إعداد وإخراج العرض بالمشاركة فيه كممثل (شخصية صالح) .. ولعل ذلك المدخل يقبع في طبيعة تشكيل الفراغ المسرحي داخل القاعة حيث قام المخرج ومصممة الديكور والملابس (مها عبد الرحمن) بتشكيل القاعة لتتحول للمطعم الذي تدور فيه أحداث المسرحية.. وبالتالي أصبح المتفرجين جزء من ذلك العالم المسرحي ليس كمتفرجين يتابعون عالم المطعم من خلف حاجز زجاجي يضمن لهم عدم التورط في ذلك الفعل الدموي الذي تدور حوله أحداث المسرحية.. بل أنهم يجلسون على موائد مشابهة للمائدة التي يجلس عليها (صالح).. مدركين لحضورهم كمشاركين من خلال معاملتهم كزبائن وطلب السجائر منهم وممازحتهم.. الخ.وقبل كل ذلك من خلال قدرتهم على رؤية ظلال وجوه بعضهم البعض من خلال الإضاءات الخافتة المثبتة على الموائد والتي تعكس مشاركتهم في الصفقة الدموية التي تعقد بين صالح و ديانا/ وسام صبحي - جورج / رشدي الشامي) لاستبدال رأس أوزوريس الأثرية برأس صالح كي ما يحطمها جورج وديانا بالمطارق للمتعة بينما يقتسم ( حسونة /مجدي عبيد و ريري / شمس الشرقاوي و نانو / أحمد لطفي) جزء من الثمن كشركاء ووسطاء في عملية بيع صالح لرأسه لجورج وديانا.
أن المتلقي هنا يتحول لشريك أصيل وشاهد على عملية البيع بل أنه يصبح محل تهديد عندما يطلب جورج وديانا رأس أضافية بذات المقابل من أجل زيادة المتعة ... فساعتها يطرح ذات السؤال على المتفرجين بشكل مباشر من شخصيات العرض عن مدي أمكانية قبولهم لأن تحطم رؤوسهم لتحقيق متعة جورج وديانا وبمقابل مناسب .
إننا هنا أمام عرض يحاول اقتحام مفهوم المتفرج عن ذاته وعن علاقته بالعالم وموقعه فيه بشكل مباشر وقوي.. لكنه يعمل علي ذلك عبر مستويان : الأول متعلق بإدراك المتلقي لحضوره ومشاركته كشخص وكعضو في جماعة وليس كمقنع مختفي خلف ستار الظلمة يستمتع باكتشاف العالم من برجه العاجي .. أما المستوي الثاني فيتعلق بمحافظة العرض على مستوي إيهامي يتأكد عبر اختفاء أي حضور لشخصيات الممثلين الواقعية وحضور كامل للشخصيات من خلال تمثيل اندماجي يمكن أن نجد فيه مستويات بالطبع بداية من (أكرم مصطفي / صالح ، سندريلا / أماني ، شمس الشرقاوي/ ريري) الأقرب للشخصيات وحتى (حسونة /مجدي عبيد ، جورج / رشدي الشامي) الأكثر ميلاً نحو أسلوب تمثيلي يترك مساحة وهمية - يمكن للمتلقي أن يشعر بها – بين حضورهم كممثلين والشخصيات التي يؤدنها .. لكن وبرغم ذلك التنوع تظل خيارات العرض الأدائية تميل نحو تأكيد واقعية العالم والشخصيات بداية من أنماط الحركة التي تصل لحد يبدو شديد العفوية كما في حركة عازف الكمان / لؤي الصيرفي ومروراً بالملابس والإكسسوار (الكؤوس ، الزجاجات ، فنجان القهوة ..الخ) التي تحاول التأكيد على واقعية المشهد برغم فانتازية الحدث المتصاعدة والتي حاولت (مها عبد الرحمن ) الإشارة إليها بشكل خافت عبر ملابس شخصيتي (حسونة وجورج) حيث أضافت إلي ستراتهم موتيفات لونية (شرائح من القماش فضية وذهبية اللون) لتحطم بذلك التأكيد على واقعية العالم.
إن تجاور تلك المستويات وتداخلها يرسم لنا طبيعة الأهداف التي حاول العرض تحقيقها.. فهناك في البداية هدف يمكن أن نطلق عليه (الهدف العاطفي) والذي يرغب في سحب المتلقي على أرضية التلاقي والتوحد العاطفي مع شخصية صالح ومن يدخلون ضمن مجاله (أماني، ريري ، العازف ، محمد مليك / البارمان ) - أو الضحايا - بشكل يحقق الإدانة الأخلاقية والحكم بفقدان الروح الإنسانية لمجموعة المستغلين/ القتلة (حسونة ، جورج، ديانا، نانو) ولعل ذلك الهدف العاطفي يتحقق بشكل واضح وصريح عبر الموسيقي الحية للمؤلف (محمد الشاذلي).
ومن قلب ذلك الهدف العاطفي يبزغ ما يمكن أن نطلق عليه الهدف الاجتماعي والذي يتحرك مابين توجيه الإدانة للمتلقي عبر تواجده الشخصي كشاهد ومشارك من ناحية و دمج المتلقي عبر التوحد العاطفي في عملية الإدانة الموجهة لذلك العالم الذي يحول القيمة لموضوع تبادلي يمكن استهلاكه .
إذن فالعرض ينطلق من منطقة غائمة بين المتلقي التقليدي والمتلقي المشارك بشكل يكشف أنماط تفكير المجتمع البرجوازي غير الإنسانية باستخدام أساليبها الجمالية.
أن تلك التكنيكات التي أعتمدها العرض في سبيل الوصول لمتلقيه ربما نمت وتشكلت في أجواء أكثر ارتباطاً بمسارح الحداثة التي تقوم على فكرة التجربة ذات الطبيعة الطقسية التي تفصل المشاركين عن عالمهم بشكل مؤقت . ولعل عروض كثيرة قد حاولت قبل ذلك أن تنطلق من ذات التكنيكات التي أعتمدها العرض للتعامل مع المتلقي وذلك لأهداف مختلفة بل وأحياناً مع نص(مطعم القردة الحية) الذي كان الأساس الذي أقيم عليه نص العرض .. لكن ما جعل عرض (المطعم) يبدو منتمياً للعروض الأكثر تماسكاً وقدرة على تحقيق أهدافه هو توجه العرض نحو المساس بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية الأكثر إلحاحاً على المتلقي بشكل غير مقحم على عالم العرض برغم الطبيعة الفانتازية المتصاعدة في العرض.
ربما لم ينجح العرض في تحقيق تلك الأهداف بشكل مثالي وربما كان نجاحه غير مكتمل نتيجة بعض المشكلات التي اعترضت سبيل العرض وخالفت منطقه مثل استخدام الموسيقي المسجلة واستخدام أغنية مسجلة في نهاية العرض.. وكذلك استخدام العرض للإظلام للتعبير عن فاصل زمني والتأشير على بداية مشهد جديد لمرة واحدة داخل العرض .. بما يناقض طبيعة العرض ومنطقه ..
ولكن وبالمجمل يظل عرض (المطعم) عرض قادر على تحقيق أهدافه الفنية والفكرية عبر أدواته وخياراته التي يعتمدها ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق