تمتلك خشبة المسرح دائما القدرة على التمدد دون حواجز للحد الذي قد تصبح معه قرينة للعالم وانعكاساًَ له .. فتحمل كل ما يشكل العالم من تناقضات وتبعثر وتشحن بكل قضايا العالم .. ولكن وحتى تمتلك خشبة المسرح تلك القدرة على التمدد فإنها وبالمقابل تعتمد التركيز والاختزال للعالم ليصبح قابلاً لأن يحصر فوق مساحة الأداء الضيقة والمحدودة .
أنها علاقة بسيطة وأولية يدركها جميع من قادته أقدامه للمرور فوق خشبة المسرح أو للجلوس أمامها .
ولكن وعلى الرغم من بساطة تلك القاعدة المبنية على علاقة (الواقع/ خشبة المسرح) فإنها تظل هي أصعب المهام وأكثرها إلغازاً بالنسبة للمبدعين المسرحين بسبب عدم وجود طريق واضح أو ممهد يمكن للمبدع السير فيه بسهولة إلا في أضيق الحدود التي تتمثل في اختيار منهج فني والسير في ركابه .. وهو ما يعني أن على كل منهم إيجاد طريقه الخاص والمتفرد لتقديم العالم كما يعني أيضا أن عليه اختيار طريقة محددة لرؤية العالم وقد تم اختزاله وتصفيته .. باختصار يجب عليه أن يكون له وجهة نظر في العالم تجمع تلك الممارسات التي تشكل العالم ضمن إطار محدد .
أن تلك المقدمة عن علاقة خشبة المسرح بالواقع يمكن لها أن تفتح لنا باباً للخوض في عرض (أولاد الغضب والحب للمخرج محمد حمدان) ، الذي يمكن لنا تحديد أزمته في التواصل مع الواقع بشكل فني من خلال عجزة عن اتخاذ موقف من العالم ، وبالتالي تقديمه فوق خشبة المسرح الضيقة والمحددة .. ذلك أن العالم وكما يقدمه نص العرض(للمؤلف كرم النجار) فشل في إيجاد حل لتلك المعادلة بما جعله بما جعله في حالة من الترهل والتسرب دائماً خارج حدود خشبة المسرح في صور مونولوجات خطابية حول الواقع والعروبة والوطن والانتماء والشباب والصرع بين الأجيال ..الخ.
لقد فشل النص على الإمساك بطريق واضح يمكن من خلاله حصر العالم وتركيزه ليقدم ضمن إطار خشبة المسرح .
ولعل المفارقة الحقيقية في النص هي كون شخصية المخرج (الأستاذ مصطفي/ عبد الفتاح شلبي ) يحاول تصنيع فرقة مسرحية تعالج قضايا الشباب من وذلك لحل أزمته مع تاريخه .. وهو ما يشير بكون المخرج المسرحي داخل عالم النص قد أستطاع أن يحوز طريق واضح المعالم يمكن من خلاله حصر العالم داخل حدود خشبة المسرح بما يتيح له تأمل العالم الذي يحيا فيه وامتلاك رؤية لمستقبله.
ولكن وعلى العكس فإن نص العرض لم يمتلك ذلك الوضوح أو تلك المقدرة على اختزال العالم من خلال جمع الخطابات التي تشكل الواقع لتشكيل خطابه الخاص .. فتشتت بين القضايا التي تشكل الواقع بما جعله نص يقوم على القفز بين القضايا من خلال تقنية المونولوج التي حولت الشخصيات لأبواق في يد المؤلف .
لقد تسربت تلك المشكلة إلي العرض فصار شديد الترهل (كما سبق أن أشرنا ) ولم يتم إنقاذه إلا من خلال قدرة المخرج / محمد حمدان على شغل الفراغ المسرحي والتعامل من مجموعة ضخمة من الممثلين وإدارة حركتهم لتخليق عالم حي ومتفاعل يدفع بالحياة لعالم النص فوق خشبة المسرح من خلال تناغم بصري ذو طبيعة إيقاعية ... وبالتأكيد فإننا يمكن أن ننسب بعض الفضل في ذلك التناغم وتلك الحياة التي سادت عالم العرض (للكيوجراف / محمد عبد الصبور)..
ولكن حتى تلك الحيوية التي أضفها المخرج وفريق العمل لم تنجح في تجاوز كل الأزمات التي خلقها نص العرض الذي وصل إلي حد عبور الحد الفاصل بين عالم العرض وعالم المؤلف (أو ما نطلق عليه المباشرة).من المؤكد أن المباشرة ليست شراً خالصاً في حد ذاتها ولكن حتى المباشرة لم تكن هدفاً لنص العرض الذي يقوم على فرضية تخليق فرقة مسرحية استعراضية من خلال مجموعة من الهاربين من الواقع لفشلهم في التوائم مع آلياته (كل لسببه) وبالتالي تخطي هروبهم من خلال دفع المخرج لهم للبوح بما يهربون منه من جهة وإجبارهم من قبل (وجدي أو سليم / محمد عبد العزيز) على التمرد على الواقع .. ولكن ذلك العالم كان دائما مخترقاً من قبل المؤلف بشكل أضعف العرض الذي لم ينجح في تخطي تلك الأزمة من خلال تفعيل ذلك الحضور لخشبة المسرح داخل النص من خلال إدماج المتلقين داخل العرض وتحويلهم لمشاركين برغم كافة العناصر التغريبية التي أستخدمها المخرج بداية من الموسيقي الحية والغناء وكشف مصادر الإضاءة والديكور .. الخ .لقد ظل العرض محصوراً خلف حدود النص الضيقة برغم استخدام المخرج للصالة لاستقدام الشخصيات لخشبة المسرح .
أن ذلك هو ما يجعلنا نتحدث عن عالم هش وغير قادر على تخطي مرحلة الجمع للمواد التي يقدمها الواقع والوصول لمرحلة تركيز تلك المادة وضبطها بما يخلق ذلك الطريق الذي نتحدث عنه لتقديم عالم متكامل ومكتفي بذاته فوق خشبة المسرح ... وهو ما أثقل العرض وضغط على العالم الذي حاول المخرج صياغته من خلال الصورة المسرحية ومن خلال الموسيقي الحية والأغاني التي ساهمت معه في تخليق إيقاع حيوي للعرض سواء من خلال الأشعار( أحمد الخزرجي) أو من خلال الموسيقي (حمدي عطية).
ولكن في النهاية ربما كان النجاح الحقيقي للعرض هو مجموعة الممثلين المتميزين الذين نجحوا في تخطي أزمات النص وتخليق حالة جماعية من ناحية وإحياء الشخصيات الورقية من خلال أدائهم التمثيلي والغنائي من ناحية أخري مثل (محمد عبد العزيز) الذي نجح في تخطي الطبيعة شخصية (وجدي) الخطابية من خلال أدواته الأدائية وهو ما ينطبق بذات المستوي على باقي العناصر التمثيلية بالتأكيد.
إن تلك الحيوية التي تميز بها فريق العمل هي أهم ما يمكن أن يحسب للمخرج محمد حمدان الذي – وبالمقابل - يمكن أن يحاسب على أزمة النص العرض الذي أثر بشكل سلبي على كافة العناصر .. وكاد أن يؤدي به نتيجة فشله الواضح في تحجيم العالم وضغطه ليقدم رؤية واضحة ومتكاملة للعالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق