أنتجت كل الثقافات تقريباً نموذج المهرج.. فمنذ أقدم العصور والمهرج موجود بقصور الملوك وأشكال الترفية الشعبية في الشوارع والميادين ... وهو ما يعني أن لوظيفة المهرج دور هام داخل بنية المجتمعات سواء أكان مجتمع مصر الفرعونية أو مجتمع العصر الذهبي لبغداد أو أوربا العصور الوسطي أو الصين.. وحتى الحضارة المعاصرة التي صنفت المهرج ضمن المهارات الأدائية الفارقة وضمته لعالم السيرك .
إن تلك القدرة على تجاوز الفوارق الزمنية والثقافية بين المجتمعات يمكن أن يشير إلي مجموعة من السمات العامة المشكلة لفن التهريج كفن أدائي يمتلك من الأهمية والقدرة ما يجعله جزء من نمط حياة المجتمع الإنساني الذي يبحث عن الترفيه والضحك والتأمل في وضعية الكائن البشري من عبر ذلك التشويه الذي يقوم به مؤدي فن التهريج لشخصية المهرج من خلال المبالغات الأدائية التي تفصلها عن الواقع وتعرضها كتضخيم كوميدي له من ناحية أو على مستوي علاقتها بالمجتمع من ناحية أخري من خلال تغريبها عن الواقع من خلال الملابس والأقنعة.
ولعل ذلك ما يجعلنا نشير إلي أنه وبرغم التمايز في أساليب الإضحاك وأنماط وطرز رداء وقناع المهرج فإن الجوهر يظل على درجة من الثبات.. فالمهرج يحتاج إلي قدر من المهارة الحركية التي تساعده على إثارة الضحكات.. كما يحتاج إلي قناع ورداء مميز.
وبالمقابل فإن المهرج يمكن أن يحيا دون كلمات ودون إطار درامي يقدم من خلاله فقرته المضحكة.
وإذا فالمهرج وبالأساس جسد يتلبس حالة أدائية مفارقة للواقع ومشوهة له وقناع كرنفالي يخفي شخصية المؤدي ويضعه خارج النظام الاجتماعي بما يخلق حالة تغريبية ومنفصلة عن الواقع .
ولكن ومن جانب أخر فإن المهرج ونتيجة لعلاقته بالواقع (كمهنة) أصبح يحوز على مكانة متدنية بالسلم الاجتماعي من خلال الإدانة الأخلاقية والعقلية له... وهو ما يعني أن المهرج الواقعي قد تم قمعه وتحيده من قبل المجتمع وحظر نشاطه داخل إطار محدد من خلال دمجه داخل النظام الاجتماعي.
ولكن ماذا حدث لتلك الإمكانيات الكبري التي تم قمعها عبر قمع المهرج وماذا حدث للأدوار التي كان من الممكن أن يقوم بها المهرج من خلال طبيعته المميزة وتم الحجر عليها اجتماعياً لخطورتها على النظام الاجتماعي من خلال معارضتها له عبر قناع وملابس وأداء المهرج المنفصل كافة النظم الاجتماعية والساخر منها في ذات الوقت ... بالتأكيد فإن تلك الأدوار لم يتم نفيها.. فهي لم تنبع من الفراغ ولكن نظراً لحاجة المجتمع إليها وإلا ما كان ليخترع من الأصل المهرج.
و هنا أمكن للمسرح أن يجتذب تلك الأدوار وأن يقوم بها من خلال فن الكوميديا من جهة ومن خلال استحضار شخصية المهرج إلي خشبة المسرح لتقوم بأدوارها الممنوعة من أدائها في الواقع.. فظهر المهرج عند شكسبير و صموئيل بيكت وغيرهم ليقوم بأدوار تتعدد بين التفلسف والسخرية من الوضع البشري .. الخ.
والأهم أن المهرج قد ظهر بوجهه الكاشف للعلاقات الاجتماعية ولزيفها (كما هو الحال بمهرج لير على سبيل المثال).
إن انتزاع شخصية المهرج من عالمها الخاص ودمجها داخل عالم أشد أتساعاً مثل المسرح أصبح يعيد لها أدوارها المفقودة ويدفعها لأن تنمو من جديد لتشترك في تصنيع حالة العرض المسرحي الأمن والمحدود بالوقت بعكس المهرج الواقعي الذي يمكن أن يستمر في أداء دوره لسنوات عمره كلها ( كما كان الحال في العصور القديمة).
إن تلك المقدمة القصيرة عن المهرج يمكن لها أن تسهم في استكشاف عرض (حرب باعة الصفارات وباعة الفراشي) ذلك أن العرض يقوم بتقسيم العالم إلي علاقة ثلاثية تجمل رؤيته للعالم على مستوي العرض المسرحي .
المستوي الأول ويضم (القادة/ الزعماء) وهو يرتدون الملابس الرسمية والتي تجعلهم أكثر شديد البروز على المستوي البصري بالنسبة للمتلقي في مقابل بقية العالم الذي تشارك في صنعه (المخرج / شريف صلاح الدين ) و(مصمم الديكور والملابس/ عاطف خاطر)
إما المستوي الثاني فمتواجد على مستوي الديكور واللوحات التي يحملها الممثلين أثناء العرض ويتعاملون معها كقطع إكسسوار في الكثير من الأحيان، وهي تقدم الشعوب المستغلة ( حسب وجهة نظر العرض).
وأخيراً يبقي مستوي المهرجين والذي يشكل القاعدة الأساسية التي يصوغ من خلالها (شريف صلاح الدين) عرضه.. وهم يمثلون (التجار والوزراء ونجمة السينما ورئيس التحرير).
إن اختيار المخرج للمهرجين كمعادل بصري لأدوات النظام الرأسمالي قد ساهم في اتجاهين أولهما المتعلق تنمية حالة الفرجة المسرحية من خلال ذلك التنوع اللوني والأداء الحركي المبالغ فيه والمستوحي الأداء الحركي للمهرجين.. وهو ما ساهم بشكل كبير في تنمية ذلك الجانب في عرض (حرب باعة الصفارات...).. وإن كان المخرج قد فقد الكثير من ذلك التنوع اللوني وما ينتج عنه من خلال الإضاءة التي أعتمد فيها على الألترا والإضاءة المعتمدة على ألوان قاتمة بما حيد ذلك التنوع اللوني في الملابس والمكياج في كثير من الأوقات لصالح التأكيد على جانب أخر وهو تجسيد حالة الحرب من خلال اللوحات المرسوم عليها طائرات ومعدات حربية بألوان فسفورية .. بالتأكيد أن ذلك الاستخدام قد ساهم في العرض إلي حداً ما لكنه ونتيجة للإفراط فيه أدي إلي تحيد تلك الميزة التي يهبها له المهرجين من خلال ملابسهم وأقنعتهم المرسومة .
إما الاتجاه الثاني فهو على مستوي المعني وهو مستوحي – وبشكل ما – من طبيعة بنية النص التي تعتمد تكرار الأفعال والأحداث بشكل كوميدي المفارقات اللفظية والحركية والتنكر.. وبقية تقنيات الإضحاك المشتركة بين المهرج وفن المسرح .. وإن كان النص يستخدم تلك التقنية في سبيل السخرية من ذلك الصراع العبثي بين القطبين الشرقي والغربي.. في زمن الحرب الباردة
وبالتأكيد فلقد استفاد العرض ومن خلال التحويل البصري لمعظم شخصيات النص إلي مهرجين من المساحة الكوميدية التي يتيحها النص كما أنه ينميها من خلال تحويل تقنيات الأدائية للمهرجين .
ولكن العرض كان يحاول تجاوز النص أيضاً من خلال ذلك التحويل بما يعني أن المهرجين لم يتوقف دورهم على الإضحاك داخل العرض... كما لم يتوقف أيضا عند حد أثراء المشهد من خلال الأقنعة والملابس المزركشة .. الخ.
وعليه فإن العرض كان يحاول تجاوز ذلك الدور التقليد للمهرج (الإضحاك) ويحاول أن يصنع (من خلال المزاوجة بين ملابس وتقنيات الأداء التهريجي من ناحية وشخصيات النص من ناحية أخري) دور جديد ..
أن العرض يقدم إدانة مبطنة لكافة تلك الشخصيات التي يضمها تحت مجموعة المهرجين.. وهو ما يعيدنا إلي الخطاب الاجتماعي حول المهرج كشخص فاقد للاحترام وغير قادر على تحمل مسئولية الدخول في علاقات اجتماعية ( وهو ما يعنيه حتى التوصيف الاجتماعي لشخص على أنه مهرج).
إن العرض إذا يتبع المجتمع (بشكله الواسع) في إدانة المهرج وحصره داخل حدود مرتبة اجتماعية/ أخلاقية/ عقلية متدنية.. وهو ما يتفق بالتأكيد مع رؤية المخرج لتلك الشخصيات التي يدينها.
إن العرض إذا لا يختلف كثيراً عن تلك الرؤية الاجتماعية التقليدية... حتى وإن كان يدينها على مستوي خطابه.. فهو يستخدم نفس خطابها (على الأقل بالنسبة لموضوع المهرج).. وهو ما يجعل من المنطقي التساؤل حول أهمية تلك المقدمة طالما أن العرض ذاته لا يختلف في الكثير عن الخطاب الاجتماعي.. وهنا تأتي الإجابة من العرض ذاته.. فاستخدام المهرجين يضيف للعرض قدر من التغريب بما يسهم في كسر حدود النص الذي أحيل لمستودعات التاريخ بسقوط الاتحاد السوفيتي.. قدر من التغريب يحاول من خلاله المخرج ومجموعة العمل تحطيم الفارق التاريخي بين المتلقي والنص.. تغريب يجعل من وجود المهرجين تعليق على الشخصيات وإزاحة لها من موقعها القديم إلي موقع جديد.
إن العرض أذن يستدعي المهرجين بدافع ذا طبيعة تعليقية.. ولكن هل كان ذلك كافياً بالنسبة للعرض لكي ينجح في تجاوز النص ومشاكله .. من الواضح أنه لم يكن كافياً كما أشرنا في المقال السابق عن العرض والذي نشر في العدد العاشر.
إن عالم المهرج قد نقل لخشبة المسرح ونقل معه الكرنفالية التي هي سمة من سمات المهرج .. وهو ما يمكن له أن يثير أسئلة تتجاوز العرض حول حضور المهرج في المشهد المسرحي بالمهرجان الختامي وبكثافة (كما لاحظ أحد السادة أعضاء اللجان) فالمهرج يدخل للمسرح سواء عند شريف صلاح الدين أو غيره من المخرجين لتحقيق غايات عملية وأدوار جمالية ولكن ذلك الحضور في حد ذاته يستدعي التفكير في استعانة المخرجين بالمهرج (المنفصل عن الواقع وعلاقاته الاجتماعية )في عروضهم .
إن ذلك التحويل للشخصيات لمهرجين كما فعل شريف صلاح الدين ووفيق محمود من خلال عرضه (مغامرة رأس المملوك جابر) بشكل مقصود يشي برؤية متشائمة للواقع ومحاولة لفك أزماته من خلال تفريغ العلاقات الاجتماعية (التي أصبحت على قدر من الاحتقان في الواقع المصري) والعودة لتلك الإمكانيات المفتوحة التي يهبها المهرج من خلال قدرته على كشف المجتمع والسخرية منه دون التورط في الدخول في شبكة علاقاته وتحديد موقع اجتماعي محدد لذاته داخل السلم الاجتماعي .
بالتأكيد أن المخرجين قد تفاوتت قدراتهم في تقديم رؤاهم للعالم من خلال عروضهم.. برغم ذلك التحليل الأخير الذي يتجاوز العروض وحاول تأمل الخطابات التي تخترقها ... وفي هذا يتساوى شريف ووفيق مع مخرجين ظهر المهرج في عروضهم نتيجة تواجد شخصية المهرج داخل النص الأصلي .
بالمجمل يمكن لنا أن نشير لعرض شريف صلاح الدين كنموذج لعرض يحاول من خلال الفراغ المسرحي تخليق صورة مسرحية تتطرح خطاب متجاوز لخطاب النص الأصلي .. وهو أمر على بديهيته المفترضة فإنه لم يزل بعيداً عن كثير من العروض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق