منذ بضعة سنوات عقد المركز القومي للمسرح ندوة بمكتبة القاهرة حول لجان القراءة بالبيت الفني للمسرح وقد دارت الندوة حول طبيعة الأدوار التي يقوم بها الباحث الثقافي في البيت الفني للمسرح من جهة والمقترحات الهادفة لتفعيل لجان القراءة في البيت الفني .
ولكوني من المهتمين بحركة الإنتاج المسرحي للدولة بشكل عام وكعضو بالبيت الفني للمسرح.. فقد ذهبت لمتابعة تلك الندوة وأنا أحمل قدراً من التفاؤل بما قد ينتج عنها من توصيات أو نتائج خاصة وأن رئيس البيت الفني في ذلك الوقت (د.أشرف زكي) كان من ضمن المتحدثين الرئيسين ضمن فعاليات الندوة.. ولكن ومع تقدم الوقت بدء ذلك التفاؤل المبدئي الذي كنت أحمله في الذوبان أمام تلك الرؤية المتشائمة التي سادت النقاش حول دور ومهام الباحث الثقافي بالبيت الفني للمسرح.. هذا إلي جوار المساحات الزمنية الكبيرة التي شغلها الحديث حول نص بعينه وأسباب رفضه وهو ما أبتعد بالندوة عن هدفها نحو مناقشات جانبية عديمة الصلة بموضوعها.
ومع نهاية الندوة مال النقاش صوب القفز على دور الباحث الثقافي والعودة لذلك المقترح القديم الداعي لتشكيل لجان عليا للقراءة يتم تشكيلها من كبار النقاد والأساتذة الأكاديميين وترك تلك المجموعة البشرية المسماة بالباحثين تغرق في بحر النسيان والتجاهل لإنقاذ مسرح الدولة !!!
أذكر أنه وبعد خروجي من مكتبة القاهرة كنت أشعر بقدر عالي من الإحباط تجاه تلك المحصلة الهزيلة التي وصلت لها الندوة التي ركزت على الكشف عن مسالب لجان القراءة المعينة بالهيئة وليس على حل مشاكلها وتنميتها .
بالتأكيد أن دور تلك اللجنة العليا التي تحدث ويتحدث عنها البعض بل ويبحثون عنها بحثهم عن المخلص يحمل قدراًَ من الأهمية لكنها ليست الخلاص الذي يبحثون عنه بل هي أقرب للهروب للأمام بدلاً من مواجهة المشكلة.
ولعل ذلك ما تكشفه تلك الوقائع التي أشار لها كل من الأساتذة أحمد هاشم وهشام إبراهيم والدكتور محمد زعيمة والتي تفضح حالة التهميش المتعمد أو العفوي للباحثين الذي تقوم به الإدارات المتتابعة للبيت الفني للمسرح .
الباحث الثقافي مشكلة بلا حل
لا يمكن الحديث عن المشكلة حقوق ومهام الباحث الثقافي المهدرة دون الحديث عن وجهة النظر المناقضة التي يرفع لواءها بعض قيادات البيت الفني للمسرح والمؤلفين وبعض النقاد والمخرجين.
ويمكن أن نوجز تلك الآراء في عدد نقاط:
1- يتحدث البعض عن فشل فكرة أن يتم اعتماد تقارير دون المستوي أو غير علمية أو انطباعية حول النصوص المسرحية... خاصة في ظل وجهة نظر سائدة بتراجع المستوي العلمي والمهني لدي لجان القراءة...
2- وإلي جانب ذلك التعليق حول المستوي المهني يوجد ملاحظة يمكن أن تكون أكثر حساسية وهي عدم قدرة (بعض) أعضاء اللجان على استيعاب أسلوب تقييم النصوص المقدمة للفرق التي يعملون بها وشروط قبول النص أو رفضه بناء على مدي ملائمته لطبيعة توجهات الفرقة الفكرية والفنية والشكل الفني الذي تعتمده .
3- وهناك تعليق قد يندر سماعه ولكن ذلك لا يمنع حضوره وهو يتعلق بمدي ملائمة الكثير من النصوص التي يتم قبولها أو رفضها من طرف تلك اللجان للعرض المسرحي حتى وأن كانت متميزة على المستوي الأدبي والعكس صحيح... فليس معني أن النص يبدو مهلهل كونه لا يصلح للعرض.. بل يري البعض أن ملائمة النص للعرض هي القاعدة الأساسية في الوقت الراهن في ظل تراجع حركة الكتابة المسرحية وانخفاض المستوي العام للنصوص الجديدة .
4- وأخيراً هناك من يري أن وظيفة الباحث المسرحي عبء على كيان الفرقة ومن المخلفات التي يجب التخلص منها ضمن ما يجب التخلص منه من العناصر المشاركة في عمليات الإنتاج المسرحية التي تثقل كاهل مسرح الدولة.
إلي جانب العديد والعديد من الآراء المشابهة أو الجامعة بين تلك العناصر.
من المؤكد أن تلك الآراء لا تمثل صوت أصحاب مصالح شريرة فحسب بل أنها أيضا تمثل أصوات الكثير من أصحاب الآراء النزيهة والدافعين للإصلاح والمعايشين لواقع الهيئة والممارسين ..الخ .
ولعل تلك الآراء تنطلق من أرضية الواقع وتتأثر بظروف وعوامل واقعية لكنها وفي مجملها تصب في صالح فساد وظيفة الباحث المسرحي بوضعيتها الراهنة وتخلف مستوي الباحثين عن واقع الحركة المسرحية سواء بضعف الجانب العلمي أو المهني أو كلاهما بما يجعلها عبء على نظام التشغيل في البيت الفني للمسرح ويستلزم وضع حل لوجودها .
وكما سبقت الإشارة فإن أسهل الحلول – وبما أننا غير قادرين على تخطي وجودهم بحكم كونهم معينين – هو تجاهلهم.. وبالطبع يمكن أن يسقط داخل تلك الفئة بعض العناصر المتميزة أو الكوادر الحقيقية. فطالما أننا سنتخلص من فئة مفسدة وفاسدة فلا ضير من سقوط بعض الكوادر ليتحولوا لبطالة مقنعة.
أن أسلوب التعامل يقدم لنا مصغر لمنطق عام يسود المجتمع.. منطق مريض يقوم على تغطية أي مشكلة وإخفاء التشوهات من خلال حلول بهلوانية تقفز من فوق المشكلة ولا تقوم بحلها. وهو ما يؤدي في النهاية إلي ذلك الوضع الشائك والملتبس وغير عقلاني الذي تحدث عنه أ. أحمد هاشم -عبر مقاله- حول انعدام قيمة لجان القراءة من خلال تجربته الطويلة معها أو الأستاذ هشام إبراهيم بملاحظته حول (تسريح الكوادر) المتخصصة.
لا توجد مشكلة بلا حل .. مقولة قديمة ومبتذلة لكنها صالحة في حالتنا.
محاولة للبحث
ربما وضع الناقد أ. هشام إبراهيم يده على جوهر المشكلة التي نحن بصدد التفاعل معها عندما تحدث في مقدمة مقالته عن أن القضية" هي آلية اتخاذ القرار الفني والإداري فيما تقدمه هذه الفرق من عروض، وبالتالي مدي مسئولية هياكل هذه الفرق المختلفة، خاصة ما يسمي بـ"لجان القراءة" ، والمفترض أنها جهة الصلاحية الفنية في سياق عملية الإنتاج المسرحي"
وحتى لا نعيد طرح ما قاله الزميل فإننا سنطلق من تلك الفكرة المطروحة صوب القول إننا إزاء عملية توزيع السلطة داخل الفرق المسرحية التابعة للبيت الفني للمسرح والتي تخضع لحسابات شديدة الدقة تتداخل فيها صلاحيات رئيس البيت الفني كسلطة عليا في مقابل مديري المسارح كسلطات فنية والباحثين و الإداريين..الخ .
وبالطبع فإن صراع السلطة المحتمل هنا سيصب في صالح إفساد عملية اتخاذ القرار الفني والإداري لصالح الاستبداد بالسلطة الفنية والإدارية والدكتاتورية داخل الفرق أو داخل الهيئة.. وهو ما ييسر دخول أصحاب المصالح ومن يمتلكون القدرة على الضغط على المدير أو رئيس البيت الفني للمسرح.. فالسلطة غير مطلقة والفراغ الذي تتركه الفرقة والمكتب الفني والباحثين تستولي عليه الشياطين.
وفي النهاية لا يؤدي ذلك كله إلا إلي حرق الكوادر والعناصر الصالحة في محرقة التجاهل عبر لجان القراءة العليا أو عبر استبداد المديرين ورؤساء البيت الفني المتلاحقين باتخاذ قرارات لم يؤدي حتى الآن إلا للمزيد من التراجع في وضع البيت الفني للمسرح الذي يعد الجهة الإنتاجية الاحترافية الأكبر والأهم في مصر ..
وإلي جانب ذلك - وهو الأخطر - تفتيت مفهوم الفرقة المسرحية إلي الحد الذي أصبح من الممكن الحديث فيه عن كون الفرق تصبغ بطبيعة وتوجهات المديرين.. فينتفي التميز بينها وتصبح مجرد أبواق تضخم صوت المدير ورئيس البيت الفني حتى لو كان ذلك الصوت أجوف وفارغ...
وحتى لا نبتعد عن هدفنا فمن الواجب أن نعترف أن دور الباحث المسرحي تآكل ومنذ زمن طويل نتيجة لتضخم سلطات المدير الفني.. وهو ما أدي إلي نتيجتان أولهما : هو تراجع الوضع المهني لمهنة الباحث الثقافي .. فلقد أصبحت مجرد عنوان بدون قيمة أو عمل وعندما كان أحد المديرين يتنبه لوجود تلك الوظيفة فإنه كان يصطدم إما بمعارضتها لتوجهاته فيحاربها حتى يقضي عليها بالتجاهل أو الرفض... أو يصطدم بعدم مهنيتها نتيجة إهمال تكوين كوادرها لزمن طويل فيهملها ويتحرك بمفرده .
أما ثاني النتائج فهي متعلقة بالباحثين أنفسهم حيث أدي ذلك إلي تفتيت مهنتهم وتحولوا لعناصر خاملة داخل الفرق غير مرتبطة بواقع الحركة المسرحية إلا من كان منهم يحمل قدر من الاهتمام يفوق كل ذلك الإحباط المهني.
ومن خلال ما سبق يمكن لنا أن نجزم بأن العبث بكيانات الفرق المسرحية في البيت الفني للمسرح ليس في حاجة إلي أثبات بقدر ما هو في حاجة للتحليل... وأن الحلول لا يمكن أن تأتي بتبادل الاتهامات وإنما عبر محاولة البحث عن صيغ جديدة تتيح عودة دور باحث الثقافة المسرحية إلي مساره الواقعي لا أن يتوقف فحسب عند مرحلة قراءة النصوص – والتي هي جزء أصيل من عمله – وإنما أن يعود إلي مجال عمله الحقيقي (كباحث) يقوم بدراسة أوضاع الفرقة التي ينتمي لها والمستوي الفني وعلاقتها بجمهورها ويقدم منتجه ذلك لمكتب فني ومدير فني يقومون بدراسة تلك الأوراق البحثية كمعطي ضمن معطيات أخري ...
أفكار حالمة ومثالية بالتأكيد .. بل وأجزم أنها غير واقعية في ظل تراجع عام لا يوفر حتى أبسط المقومات لقيام مثل تلك الأحلام.
ولكن ومن جانب أخر أليس من العبث الحديث عن فشل الباحثين ونحن غير مهتمين بتحديد أدوارهم داخل كيان الفرقة أو تحديد مهام لهم أو تحديد قواعد يتبعها الباحث في عملية اتخاذ القرار الفني تجاه النص.. أو حتى تدريبهم وتنمية قدراتهم خاصة وأن مجال عمل الباحث هو مجال تقني يمكن أن يكون تطويره أبسط من تجاهله أو نفيه أو القفز عليه بحجج تدين البيت الفني للمسرح مثل تلك التي سبق عرضها.
اعترف أنني حالم ومثالي ولكن الواقع ليس واقعي هو الأخر.. فواقع الحركة يهرب من مسئولياته ويتهرب من تنفيذها بشكل يجعل من حلمي بأن نجعل من الباحث الثقافي أسماً على مسمي يقف على ذات المستوي الذي تقف عليه ذلك الواقع المأساوي.. وما يميز حلمي هو تفاؤله.
وفي النهاية أعتقد أن من واجبي أن أدعو الجميع كما دعانا كل من أ.أحمد هاشم و أ. هشام إبراهيم للمشاركة في إنقاذ أحلامنا ومهنتنا من الضياع أو التآكل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق