يمكن بشكل مبدئي أن نحاول التفريق بين نوعين أساسين من المسرح .. الأول يحاول التأمل في الكائن الإنساني وأزماته الروحية والعقلية والأخلاقية..إنه مسرح محلق ومنفصل عن الواقع (بدرجات متفاوتة) يحاول تلمس الجوهر البشري ويطرح الصراعات الكبري التي تواجه البشر كجنس على المستوي النفسي والعقلي ... إما النوع الثاني فهو مسرح خشن يطرح نفسه كجزء من الواقع ومعارض له في ذات الوقت.. أنه مسرح يثق في ذاته وفي قدرته على التغيير الاجتماعي والسياسي بالأساس.. ولكنه وبالمقابل يفتقد للثقة في قدرته على التواصل مع جمهوره.. كما يشعر بالشك في فنيته طوال الوقت .. ولعل ذلك ما جعله المسرح الأكثر ميلاً للبحث في أساليب التواصل مع المتلقي والتجديد التقني خلال القرن العشرين منذ بريخت وحتى الآن .
بالتأكيد أن لذلك التقسيم مسالبه التي يمكن أن تهدمه من أساسه... والتي من أهمها صعوبة إيجاد ذلك النمط الخالص من مسرح وكون كل من الشكلين مجرد فرضية للتحديد فحسب... وكون المسرح يقبع دائما في الدرجات الرمادية بين الفرضيات والنظريات وليس داخلها...
لكنه ومن جانب أخر يظل وعلى الأقل مدخلاً ملائماً لرؤية عرض (شعوب مستعملة) الذي قدمته (فرقة الغجر المسرحية) ضمن أطار الموسم المسرحي الثالث للفرق المستقلة والذي يرعاه مسرح الهناجر وتقدم عروضه بمسرح روابط .
وحتى لا نبتعد عن مجال العرض فإننا سنبدأ بأن نصنفه كعرض ينتمي لما أطلقنا عليه المسرح الخشن.. وبالتالي فإنه ينطلق من محاولة الجمع بين وقائع تاريخية وتقيمات أيديولوجية فوق أرض زلقة وغير ثابتة تتشكل من الواقع اليومي المتبدل والحامل لخطابات متناقضة والمشكل من سيل دائم وأبدي من الوقائع والأحداث التي تنبري وسائل الأعلام والحكومات والأحزاب والجماعات والأفراد ... الخ لتحليلها وحصرها داخل حدود تأويل يتسق مع توجهات كل منهم.
إن التحدي الذي يواجه هذا النمط من المسرح شديد الصعوبة بل وشديد التعقيد فعرض (شعوب مستعملة) ينطلق من محاولة للإمساك بالواقع وتأويله في ظل حالة السيولة التي أشرنا إليها... ولكن من ناحية أخري فإن نمط المسرح الخشن (وهو ليس حكم قيمة ) يقوم أيضاً على وضوح الخطاب الأيديولوجي بما يسمح للعرض بتجاوز تلك السيولة وتحقيق قدر عالي من التماسك والتأويل للعالم ودفع المتلقي لاتخاذ موقف تجاه العالم وبالتالي النجاح في رهانه القائم على دور الفن في تغير العالم وصنع عالم أفضل ...
ولكن في عرض (شعوب مستعملة ) للمخرجة (عزة الحسيني) يمكن لنا أن نلمح حال غياب خطاب أيديولوجي واضح وقادر على جمع شتات الواقع تحت عباءته.. وهو ما ترك العرض عرضة لأن تتقاذفه تيارات وتأويلات مختلفة للواقع بل وان تتجاذبه خطابات متنوعة وضعته في مآزق عديدة ومتنوعة وأثرت على العرض بشكل عام .
ولكن ربما كان من الأفضل أن نعود للخلف قليلاً حتى نتمكن من رؤية صورة أوضح وأكثر تحديداً لما نحاول طرحه هنا.. ولعل نص العرض يمكن أن يقدم لنا المفتاح لإيضاح ذلك التصور الذي طرحناه عن أزمة عرض شعوب مستعملة لعزة الحسيني.
يقوم نص العرض - للمؤلف(سيد فؤاد الجناري) - على تلاقي عالمين الأول هو عالم من المستهلكين المتقدمين تقنياً (دولة الإنقاذ كما يطلق عليها في العرض) (مستر يو/ لوليتا / آرنولد ... الخ) في مقابل عالم الشعوب المستعملة(كما يطلق عليها العرض) أو المتخلفة تقنياً وحضارياً والتي تجمع (آي/ بلحة / آدم..الخ)
ويلتقي العالمين فوق سطح سفينة الإنقاذ التي يقودها (مستر يو/ محمد رضوان) والتي تقوم بانتشال/أو خطف (آي/ محمد فاروق) حيث تدور حوارات ويتم تبادل الاتهامات في ما بينهما قبلما ينتهي العرض بتحول (آي وعالمه) إلي دمي في يد (مستر يو) ... ولكن ذلك النمو الدرامي لخط التصادم بين العالمين لا يمنع من تنامي الخيط الدرامي الخاص بكل عالم من العالمين بشكل مستقل سواء عالم المستهلكين أو عالم المستعملين.. من خلال بحث عائلة (آي) عنه وتشردها وثم مقتل كافة أفرادها خلال عمليات القصف التي تقوم بها قوات الإنقاذ .. وفي المقابل استهلاك شخصية لوليتا/ حمادة شوشة لشخصية لآرنولد/ سيد عبد الخالق جنسياً ..واستمرار التواصل بين (مستر يو) و(لوليتا) ... الخ
وبين العالمين وعلى حافة العرض هناك قارئ نشرة أخبار الطقس(هيثم عصام).
وكما يبدو من نص العرض فإن هناك رؤية شبه واضحة للعالم وتقسيمات حادة وأيديولوجية للعالم بين (مُستهلكيِن/ مُستعمليَن) أو بين (جناة/ضحايا) أو (شمال غني/ جنوب فقير) إلي أخر تلك التقسيمات التي تطرح رؤية وخطاب حول العالم وتحاسبه من خلالها بل وتدينه وتقوم بتثوير المتلقين عليه في النهاية .. بل أننا من الممكن أن نري وعلى مستوي العلاقات المشكلة في فراغ المسرح تجسيد لتلك الرؤية من خلال الديكور الذي صممه / محمد أدم والذي يضع عالم مستر( يو) بمستوي مرتفع ومهيمن على الفراغ بينما يضع عالم (آي) في أسفل ذلك العالم .. كما يتم تأكيد اللقاء بين العالمين من خلال مجسد سفينة الإنقاذ الذي يقبع في باطنها عالم (آي) بينما يهيمن على سطحها عالم (مستر يو)
ولكن وبرغم كل تلك الإشارات الواضحة والتي يمكن لنا من خلالها رؤية ملامح مسرح ملتزم بقضايا العالم الثالث ومدافع عن حقوق الفقراء ... برغم كل ذلك فإن العرض ولغياب تخيل واضح أو رؤية متكاملة للعالم يغرق في أمواج الوقائع التاريخية والتأويلات وسيولة الواقع التي تبدو متجاوزة اللحظة الزمنية التي يناقشها العرض والتي تقوم على إشارات خافتة يبعث بها النص وتتأكد عبر الصور الوثائقية التي تعرض أثناء العرض والتي ترد بشكل مباشر للمعركة التي قادها جورج بوش الابن ضد العراق .. إلي جانب بعض الصور العائدة لمعتقل أبو غريب والتي قامت المخرجة بإعادة تخليقها على خشبة المسرح.
بالتأكيد أن عملية تأمل وقائع التاريخ الماضية مهمة مسرحية شديدة الأهمية في هذا النوع من العروض لكونها كاشفة عن أزمات الواقع كما تقدم توقعات للمستقبل.. ولكن وفي عرض (شعوب مستعملة) تهبط تلك الوقائع بالعالم الدرامي - الذي حاولنا تحليله في ما سبق – إلي حد الالتصاق بالواقع التاريخي.. وهو ما يجعل من الإطار الدرامي مجرد حلية جمالية يتخفي خلفها المؤلف/ المخرجة لتقديم تصور لحرب العراق وموقف سياسي من التطورات التي تحدث بالعراق الآن فحسب...
ولكن ذلك غير واقعي فالعرض يمتلك من الطموح ما يفوق ذلك ولكنه لا يمتلك بالمقابل رؤية أكثر وضوحاً للعالم تمكنه من اتخاذ موقف من يحميه من ذلك الخلل الذي ظهر على سطح العرض في صورة حوارات عديمة الجدوى بين (مستر يو/ آي) بل أنها كانت تبدو في بعض الأحيان مثيرة للملل بسبب كونها إعادة إنتاج رتيب لخطاب وسائل الإعلام حول طبيعة الصراع بين أمريكا والعرب ..الخ . وهو ذاته ما يمكن قوله عن قارئ النشرة وما يقدمه فما يقوم به محاولة للتعليق على مشاهد العرض المتخمة بالتعليقات على العالم الواقعي.. وبالتالي فقد قارئ النشرة دوره وأصبح مجاني الظهور والاختفاء..
ويمكن أن ندعي بالمجانية أيضاً على عمليات كسر الإيهام المتعمدة والتي ظهرت في بعض أجزاء العرض من خلال إشارة الممثلين الصريحة لحالة المسرحة أو قيام ممثل(حمادة شوشة/ بدور أنثي " لوليتا" - محمد جلال / طفل "بوبو" ) أو من خلال المبالغات الأدائية أو المبالغة في أحجام بعض قطع الإكسسوار مثل القلم الذي يحمله (آي) والذي يمثل مهنته (كاتب/مثقف..الخ) .
والسبب في إدعائنا مجانية تلك التقنية هو كونها لم تكن مؤثرة بشكل فاعل في العمل بل لقد كان استخدامها يتم في الغالب لإثارة الضحك .. وبالتالي أصبح دورها التعليقي أو دورها كفواصل كاشفة للتناقضات أمر غير وارد بل وزائد في بعض الأحيان عن قدرة العرض على التحمل إلي الحد الذي أصبح يرسل بإشارات إدانة أخلاقية لعالم دولة الإنقاذ قائمة على العلاقات الجنسية المنحرفة والفساد الأخلاقي .. وهي رؤية مستمدة من الخطاب الديني الأخلاقي ..
ربما كنا بذلك قد وصلنا إلي منطقة يمكننا فيها التصريح بحالة الخلل التي تسيطر على العرض والتي أدت إلي تذبذب الأداء التمثيلي في كثير من الأحيان بين انفصال عاطفي وميل لإثارة ضحك الجمهور( كما نجد في أداء رضا ذكي / بلحة .. محمد جلال /بوبو .. هيثم عصام /قارئ النشرة والجد ) وذلك في مقابل حالة فوران انفعالي – ربما يحتاج للتحجيم والضبط – في أداء (محمد فاروق/ آي) .. أو توازن انفعالي وأدائي كما عند (محمد رضوان/ مستر يو) .
بالتأكيد أن ذلك التنوع الأدائي مستحسن بل وقادر على إضفاء حالة من الحيوية للعرض ولكنه هنا جاء متناقضاً وغير فاعل سواء لعدم وجود مساحات كوميدية داخل النص تساعد الممثلين على إثارة الضحك مما جعل الممثلين يبذلون جهداً مضاعفاً دون جدوى حقيقة إلا في مناطق محدودة وهو ما يعد أهدار للطاقة ولحالة التناغم التي يفترض توافرها في العرض .. خاصة مع المشاهد الطويلة التي تجمع بين (آي و مستر يو ) وهي المشاهد التي تمتلئ بالدموع والصرخات والصيحات والتصريحات الخطابية ...
ولكن في النهاية يبقي للعرض تلك الحيوية التي أضفاها فريق العمل (بأكمله) عليه والتي استمدت جذوتها من تلك الحماسة الوطنية والقومية التي سادت العرض والتي كانت هي العلاقة الأساسية بين المتلقين والعرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق