الجمعة، أبريل 30، 2010

مسرح الثقافة الجماهيرية .. والتخلص من المشروع القديم

في مرحلة ما من مراحل نمو وتشكل ما نطلق عليه (مسرح الثقافة الجماهيرية ) كان من الصعب حتى التفكير في وجود شخص يمتلك من الشجاعة ما يؤهله لأن يطالب بشكل علني بفصل ذلك المسرح من المشروع السياسي لهيئة الثقافة الجماهيرية وما يترتب على ذلك من توجهات فنية وأشكال إنتاجية (قوميات ، قصور، بيوت).

ولكن ومع التحول السياسي والاقتصادي  لمصر من جهة وتراجع المشروع اليساري بنمطه التقليدي (الأستاليني Stalinism) لصالح أفكار أكثر تحرراً من جهة أخري .. كان من الطبيعي أن نري أثر تلك التحولات وغيرها على حركة المسرح في مصر في صورة تراجع دور مسرح الدولة.. وثبات أساليبه الإنتاجية وضعف ميزانياته تحت ضغط الأزمات الاقتصادية المتتالية التي تضرب مصر وتحقيقاً لسياسية انسحاب الدولة وتقلص سلطتها في ميادين الأعلام والثقافة.

ولكن ولأن الواقع يمتلك من الحيوية ما يؤهله لاستيعاب تلك المتغيرات داخله - خاصة وأن الدولة المصرية تنتهج نظام قادر على ابتلاع كافة المتناقضات داخله وذلك لقمع أية أمكانية للحراك الاجتماعي -  فإن المسرح قد أستطاع وبما أنه جزء من ذلك المجتمع أن يخلق من السبل والحلول ما يكفيه لكي يستمر في معايشة المتغيرات التي يموج بها الواقع الاقتصادي والسياسي من جهة والاحتفاظ بالمقولات الثقافية والشعارات الأيديولوجية من جانب أخر . وقد تجلي ذلك في صورة نمو نوادي المسرح كنظام إنتاجي مرن ومتحرر من المشروع السياسي والجمالي لمسرح الثقافة الجماهيرية ومحدد لدور الدولة في دعمه بالدعم المالي التنموي.

ولكن ومن ناحية أخري ظل النظام الإنتاجي التقليدي راسخ ومعتمد في وجوده على ترابط المصالح الخاصة للأفراد والنظام من جهة والمشروع السياسي والثقافي القديم والذي لم يتم مساسه لعدد من الأسباب لعل أهمها وجود قوي مدافعة عنه وعن شرعية وجوده وحاملة لقيمة السياسية سواء القومية أو اليسارية , وكذلك استفادة النظام من بقاء المقولات القديمة مع تفريغ المحتوي وذلك لتحجيم دور مسرح الثقافة الجماهيرية من جهة وتسكين قطاعات واسعة من الممارسين والمستفيدين واستغلالهم لصالحه عند الحاجة لذلك من جهة أخري.

وبالمجمل فإن واقع الحال في مسرح الثقافة الجماهيرية يعكس طبيعة الأزمات التي يعاني منها الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي للمجتمع المصري بشكل عام... فنحن في ظل نظام مزدوج ومترهل يكتسب قدرته على الاستمرار من خلال ابتلاع المستقبل (مثل الإله كرونوس اليوناني الذي كان يبتلع أبناءه) .. وهو ما يعني بالمقابل أشكال إنتاجية عتيقة ومتحللة  تفككت مراجعتيها الفكرية ونفدت حصيلتها الجمالية وتحولت لهيكل فارغ يعاد شحنه كل عام من خلال المسكنات والمقويات بينما الجسد ذاته أصبح طريح الفراش يحتاج لإعادة تشكيل وفق أسس جديدة ومن خلال ميثاق جديد يعبر عن علاقات مختلقة بين هيئة قصور الثقافة و الممارسين للنشاط من الهواة والمحترفين وأنصاف المحترفين ..

بالتأكيد إن إعادة التشكيل لعلاقة جديدة ووضع ميثاق جديد للعلاقة بين الدولة والمسرح كحدث اجتماعي وكمنتج اقتصادي وثقافي وفني.. يحتاج لكثير من المجهود لدفع الدولة لعقد مثل تلك المواثيق.. وهو ليس بموضوعنا هنا ولذلك سنكتفي هنا وعلى الأقل بالحد الأدنى من الإصلاحات.

المسرح كمنتج تنموي

عند هذا الحد يمكن لنا أن يتحول الحلفاء إلي أعداء.. لماذا؟ لكون الحلول التي يمكن أن تقترح تظل دائماً رهناً بخلفيات فكرية ورؤى سياسية واقتصادية وثقافية.. والتالي جمالية (بما أننا في إطار التعامل مع المسرح ) .

وبالنسبة لي أعتقد أن إعادة تخليق تلك العلاقة يجب أن ينطلق من توجه عام ومشترك لدي الدولة (أو لمن يمثلها كإدارة المسرح ) ولدي المسرحين، بشكل يجعل الدولة تظل محتفظة بدورها التنموي داخل المجتمع (في ظل غياب مجتمع مدني قوي وقادر على القيام بأدوار تعوض غياب دور الدولة التنموي في قطاع الثقافة ).. وهو ما يعني أن تتوقف (إدارة المسرح) عن القيام بالهيمنة على المسرح في الأقاليم وتنمية دورها التنموي من خلال النشاطات التنموية مثل الندوات والتدريب الدائم والموسمي .. وكذلك التدخل لصالح ربط مسرح الثقافة الجماهيرية بالمؤسسات التعليمية والاجتماعية والإنتاجية الأخرى المهتمة بالإنتاج المسرحي كالجامعة.. باختصار إننا نتحدث هنا عن تحويل الإدارة من مرحلة الانغلاق على الذات من خلال قصر النشاط المسرحي على المسابقات والشرائح الإنتاجية نحو تحويل دورها لتنمية النشاط ذاته ودعمه .

العودة للمشاريع القديمة

ينطوي طرحنا لتفعيل الدور التنموي على تفعيل المشروع الذي يطلق عليه (اللامركزية) بأفق مختلف وبمرجعيات جديدة .. وهو ما يعني إعادة تحديد وتعريف مفهوم التنمية المستهدفة وكيفية تحقيقها على مستوي العناصر المشاركة في النشاط أو المجموعات المستهدفة المتلقية له وذلك من أجل تحديد دور الدولة وعدم فتح المجال أمام إشراك الدولة في كافة التفاصيل الخاصة بإنتاج العرض المسرحي ... حتى لا نصل إلي نقطة عدمية مثل ما يحدث الآن من تحول إدارة المسرح ولجانها إلي المنتجين والمتلقين للعمل المسرحي.

أنني أتحدث عن فتح طرق جديدة تتيح للمسرحين التحرر من الأنماط الإنتاجية العتيقة وغير المتماشية مع متغيرات الواقع  لصالح أنماط أكثر تحرراً وفي ظل مساحات من الحرية تتيح التخلص من القيود الإنتاجية المرتبطة بنظام التسابق بكل عيوبه لصالح نظام يقوم على تحويل العرض المسرحي من منتج للتسابق إلي عرض مسرحي يهدف للتفاعل مع المتلقين من خلال مد ليالي العرض وتدوير العروض المميزة .... وهو ما يعني تحجيم نظام التسابق من خلال تحديد مهام محددة للمحكمين وتحويل عملية التسابق ذاتها إلي عنصر مساعد في عملية دفع الحركة المسرحية من خلال تحويلها لفرصة لتلاقي الفرق وتدوير العروض.

وبما أننا نهدف لنظام غير مركزي فإننا سنعتمد فتح الأبواب أمام تحويل الفرق من التبعية المباشرة لإدارة المسرح والمواقع الثقافية إلي نظام تفاعلي دافع ومحافظ على فعالية الأداء لكل من الإدارة والفرق بما يوافق رؤية الفريق المسرحي لاحتياجات واقعه ومحيطه الثقافي وبما يطور من الفريق ويدمجه بالحركة المسرحية في كافة أرجاء مصر (أو الجماعات المسرحية) . وأخيراً تفعيل التدريب المسرحي الدائم والموسمي بما يستكمل الدور التنموي الذي تقوم عليه الدولة .

القضاء على الشرائح

في العادة ما نقصد مجموعة من السمات الخطابية والجمالية المميزة لمسرح الثقافة الجماهيرية عندما ننعت عرض ما بأنه ينتمي إليه.. وكما سبق أن أوضحنا فإن التخلص من المقولات والشعارات القديمة ومحاولة تحديد دور واضح ومهام محددة وتنموية للثقافة الجماهيرية في الأقاليم يمكن أن يحرر الخطاب وبالتالي جماليات العروض من كثير من السمات التي أصبحت جزء منها.. وربما كان تطور مثل ذلك سيصطدم بالتأكيد بأشكال إنتاجية عتيقة مثل الشرائح التي أصبحت لا تستطيع الحياة خارج نظام التسابق والهيمنة التامة للإدارة سواء على المستوي المادي أو على مستوى تشكيل العرض المسرحي بداية من النص الذي يجب أن يكون مجازاً من الإدارة ونهاية بالعرض الذي يجاز أيضاً من خلال ذات الإدارة التي لم تطور دور جديد لذاتها حتى الآن .

وعليه ربما نكون قد وصلنا إلي الحد الذي يمكننا فيه أن نتحدث عن إلغاء الشرائح بشكلها الحالي وإعادة تشكيلها بما يتفق والدور التنموي المطلوب منها من خلال الاستفادة من بعض السمات التي تميز نوادي المسرح كمرونة الشكل وحرية اختيار النصوص والمخرجين والتخلي عن المطالب القديمة التي يتم فرضها على عروض الثقافة الجماهيرية مثل التعبير عن البيئة .. وما إلي ذلك من مطالب تدفع العروض لأن تتخذ شكل محدد يتفق ورؤية الإدارة ولجان التحكيم للمسرح... وهو ما يؤدي في النهاية لنمط من العروض نطلق عليه عروض الثقافة الجماهيرية.

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...