الاثنين، فبراير 09، 2009

هلوسة في البوسطة .. عالم النيون و الهلاوس



في إطار مهرجان البقية تأتي (العدد التجريبي كما يطلق عليه منظموه) والذي أقيم على مسرح روابط قدم المخرج هاني عبد الناصر عرض (هلوسة في البوسطة) المأخوذ عن نص للكاتب الإيطالي (الفريدو بالدوتشي) .
والعرض بصفة عامة يقوم على الصراع بين عالمين (عالم الهلاوس وأحلام اليقظة ) في مقابل (عالم العمل والتشيؤ ) حيث يُطرح طول الوقت ذلك الصراع عبر ثنائية شديدة البساطة والمباشرة فعالم العمل البارد والروتيني تسوده إضاءة النيون التي تتسيد مساحة الأداء مُخلفة حالة ثلجية وملقية بظلال باردة على وجوه الممثلين ... ظلال تطبع على وجوههم شحوب ناتج من طبيعة ضوء النيون وإلي جوار ذلك يطرح ذلك المصدر الضوئي – الغير معتاد مسرحياً – العديد من التساؤلات حول دوره - كمصدر إنارة عامة غير مميز- يستخدم داخل عرض مسرحي... هذا إذ ما أخذنا في الاعتبار عدم اهتمام مصنعي العرض بتحديده أو التحكم في كميات الضوء الصادرة عنه بهدف تخليق خالة ضوئية بشكل فني بل تم التعامل معه في صورته الفجة – بل والمزعجة لعين المتفرج – بشكل يستدعي تاريخه ليس فقط كمصدر إضاءة واقعي يرتبط فحسب بمفهوم الإنارة وإنما يتعده إلي شبكة معقدة من العلاقات و الترابطات التي قد تحيله – وفي مستوي ما- إلي عالم الاقتصاد كمصدر إضاءة رخيص ومرتبط داخل ذهن المتلقي بحياته اليومية... هذا إذ ما حولنا استشراف تلك الإمكانات التأويلية التي قد يطرحها النيون والتي ترتد بالمتلقي إلي استكشاف علاقته اليومية والمعتادة بأحد مصادر الإنارة المعتادة له وقد دخلت في شبكة من العلاقات الكاشفة ليس فقط عن دورها كمصدر إنارة بل كجزء من شبكة متكاملة من التفاصيل تشغل عالمه وتشكله وتحدد دوره ومكانه داخل منظومة الواقع ... التي تدفع بشخصية (سلوي/ هند رضا) نحو التشيؤ .
إما طرف الثنائية المقابل فهو عالم الأحلام وهو عالم شديد الدفء قائم على الإضاءات الخاصة ذات الألوان الساخنة بل والإضاءة البيضاء لكن نوعية الأجهزة المستخدمة هنا في الإضاءة تكسب ذلك الحياد اللوني الصادر عنها جمالية تزيح عنه حياده في مقابلة مع ذلك عالم الواقعي (عالم النيون).
ولعل تلك الثنائية التي أشرنا إليها هنا كانت هي الشاغل الأكبر والأهم لدي مصنعي العرض ليس فحسب على مستوي التشكيل الضوئي فحسب بل أنها قد امتدت كافة عناصر العرض بداية من الملابس (الألوان الباردة لعالم العمل ) في مقابل (الفستان الأحمر الذي ترتديه سلوي خلال حلم النجومية) كما برزت في حركة الممثلين داخل فضاء العرض بين الثبات في وضعية الجلوس لمعظم الوقت في عالم العمل في مقابل استغلال مساحة الأداء بأكملها في عالم الحلم ..
بالطبع يمكننا أن نعدد تلك الثنائيات المتعارضة التي تخلق عالم عرض (هلوسة في البوسطة) في كافة عناصره والتي قد تصل بنا إلي حد عقد مقارنات بين التكوين الجسدي المائل للسمنة لكل من شخصية زميل العمل (سمير/ محمد عبد المعز) (والزوج/ محمد طعيمة) في مقابل شخصية (سلوي) الأميل للنحافة ....
بالتأكيد أن تتبع تلك الثنائيات قد يحقق قدر من المتعة والتسلية بل قدر من المرح العقلي الناتج عن قدرة المتلقي على اكتشاف التعارضات -على مستوي ما - لكنها وفي النهاية تظل غير قادرة على تجاوز تلك الثنائيات المتعارضة الأولية الطابع نحو أسكشاف أعمق لعالم العرض الذي يطرح علينا وعبر تلك الثنائيات وفي النهاية رؤية متشائمة لإمكانية تجاوز الواقع .. فعالم الحلم يظل دائماً هو العابر والمؤقت في مقابل عالم الواقع الممتلك للحقيقة والديمومة .
ولكن تلك الرؤية ليست في النهاية هي الرسالة الوحيدة التي قد يخلفها العرض...
ذلك أن هناك وفي مستوي ما من مستويات العرض يمكننا أن نكتشف وعبر سلسلة كاملة من التفاصيل المتجاورة عالم ظلي يمكن أن يبدأ بالحديث عن رتق الجوارب أمام التلفاز أو عبر دور شاشة العرض التي تعرض لخليط غير متجانس في بداية العرض للقطات غير مترابطة وإن كانت تؤسس لرؤية رافضة لعالم المدينة ... أن أياً من تلك التفاصيل قد تجذبنا صوب عالم أكثر أتساعاً من تلك التعارضات السابقة كما يمكن لتلك التفاصيل أن تحيلنا لمجموعة من التحليلات قد تبدو في ظاهرها متناقضة إذ ما تعاملنا بشكل منفصل عن تجاورها.. لكن هذا التجاور المستمر لن ينتج عنه سوي تخليق لرؤية طوباوية (قد تصل إلي حد المراهقة ) في تناول الواقع ؛ فالعرض يذيب الواقع ويقيمه بالسلب دون أن يتوقف عند ما قد يكتنز داخل تلك التفاصيل العابرة المجردة والمجتزئة .. وهو ما يعود وبشكل أساسي إلي محاولات المخرج تخليق رؤية بصرية - في الأساس- تعتمد على تلك التعارضات الأولية التي سبقت الإشارة إليها في ظل نص كوميدي - نص العرض - يطرح بنية تعارضات مخالفة تنطلق من رؤية للعالم تتسم بالبراءة والسذاجة المتخمة بروح طوباوية ذكورية الطابع تنظر لأحلام (سلوي) كهلاوس أنثوية تتنوع بين حلم النجومية واستعادة صورة الأب من خلال شخصية (القبطان/ د. سمير عبد الصمد) أو حتى في التخلص من القمع الجنسي الذي مارسته (الأم/ سهام عبد السلام) عليها في مرحلة مراهقتها ... مجرد هلاوس ساذجة لأنثي لا تمتلك في عالمها سوي رتق الجوارب أمام التلفاز والاستغراق في أحلام اليقظة التي ترتحل بها بين كل الأحلام الممكنة والمستحيلة .. ولا مجال لها للخروج من ذلك العالم البغيض .
إن تلك الرؤية الطوباوية لم تجد ما يدعمها – فحسب- في التعارض بين النص وبين محاولات المخرج التأكيد على رسم حدود فاصلة بين عالم الحلم وعالم الواقع بل أنها قد وجدت مخرجها في تخليق تلك التعارضات التي لم تحاول التعمق في استكشاف تلك الخطابات الداخلية التي قد تنشأ داخل تلك التعارضات نفسها فهي تقوم بعملية حذف ونفي للواقع ككل دون مناقشة وفي المقابل تدين الحلم بداية من عنوان العرض مروراً بالأحلام التي تستبطن قدراً غير هين من السخرية المريرة (شخصية سلوي) ... ولكن للأسف لا يملك العرض أن يقدم لنا وفي النهاية سوي الهلاوس(كما يطلق عليها) كخلاص من الواقع والروتين اليومي وعالم البرجوازية الصغيرة الخشن والمتداعي .
ولعل ذلك يتضح بشكل واضح في أداء الممثلين فعلى مستوي الواقع قدم (محمد عبد المعز) وكذلك (محمد طعيمة) أنماط الواقع بشكل ساخر يحط منها ويحط من قيمها وأفكارها في مقابل ما تتميز به شخصية سلوي التي ظلت هي النموذج الإنساني الأكثر اكتمالا داخل العرض ومن ثم لم يتعرض العرض لها بالسخرية على مستوي الأداء – اللهم إلا في مستوي أكثر عمقاً – بل على العكس فلقد حاول المخرج استخراج كافة الطاقات الممكنة من الشخصية/ الممثلة للتأكيد على تفرد تلك الشخصية داخل عالم العرض حتى لو تم تسفيه عالمها من قبل زميل العمل أو اكتشاف انفصالها عن الواقع من خلال أصوات الزبائن .. فأنها تظل هي النموذج الإنساني الأكثر اكتمالا داخل عالم العرض لكونها تحلم.. فحسب .



هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

لسه ماقريتش حاجة في مدونتك، بس عجبني "جدا" تعليقك العقلاني الهادئ عند أحمد عبد الرحمن بخصوص الإضراب، وحبيت أحييك عليه.

لينا لقاء تاني لما أقرأ تدويناتك اللي متأكد إنها كويسة لأنها طالعة من شخص متحضر زيك.

محمد مسعد يقول...

أنا اللي شاكر ليك على تلك الزيارة .. وعلى رأيك في تعليقي عند أحمد عبد الرحمن ..

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...