ستار خلفي فاقع الحمرة يتكتل أمامه شباب يرتدون ملابس رسمية توحي بالحداد، يشربون القهوة بنظرات مفعمة بحزن وحسرة على عالم انقضي، وهو العالم الذي يتمثل في ركام من صور شخصية لفنانين راحلين ومفكرين وزعماء سياسيين ينتمي معظمهم إلي النصف الأول من القرن العشرين بجوار ركام من أجهزة مذياع قديمة ومخلفات.. على خلفية من غلاف صوتي منتقي من أغان وموسيقي ومقاطع من حوارات وخطب تنتمي إلي ذلك العالم المندثر وموتيفة موسيقية – شبه ثابتة - تحمل طابع الشجن والحزن .
وبين ظهور واختفاء تلك اللوحة المركزية تتوالي المشاهد التي تعرض بعضاً من مظاهر الواقع اليومي بشكل ساخر ومرير يؤسس لمشاعر الحنين إلي ذلك العالم المثالي الطابع وذلك في مقابلة مع الواقع الذي هو عالم مفكك - لا يمكن إدراكه إلا عبر السخرية منه وتسفيهه من وجهة نظر العرض - وكأن لسان حاله يطرح علينا إجابة عبثية تري الحل في إعادة النظام الذي تبعثر عبر الزمن إلي حالة كماله الأول ... إلي اللحظة التي لم يكن فيها النظام -والمتجسد هنا في تلك البقايا الأثرية الموضوعة على خشبة المسرح - قد تحلل وتفكك إلي الحد الذي أصبح معه من غير الممكن تأمله إلا عبر ذلك الإطار العجائبي الذي يبرز فشل الواقع اليومي وانعدام معقوليته...
وبالتأكيد فإن العرض ورغم ذلك الإيحاء الدائم بتلك الفكرة غير العقلانية أو المحددة لماهية أو طبيعة ذلك الماضي وتوقيت تلك اللحظة التي يفترض فيها أنه قد بلغ كماله أو حتى جوانب تفوقه على اللحظة الراهنة (اللهم إلا عبر بعض المقارنات والإشارات العاطفية) يطرح أفقاً مأساوياً حول ذلك الماضي الذي يقدم طيلة الوقت كعالم مثالي انتهي ولم يعد من الممكن استرجاعه ومن ثم ولم يبق لنا سوي البكاء والنواح عليه ..
وعبر هذا البكاء وتلك الضحكات يكشف لنا العرض عن رؤية عدمية... لا تري في الواقع سوي الفشل والتناقض ولا تري بديلاً لذلك الواقع سوي الماضي- الميت - الذي لا يمكن لنا أن نري فيه سوي مادة صالحة لإثارة مشاعر الحنين الساذجة والأولية دون رغبة في التفكير فيه بشكل عقلاني يبرر ذلك التجاور غير المبرر للشيخ الشعراوي مع الموسيقار محمد عبد الوهاب وصور القاهرة القديمة والفنانين الراحلين والنحاس باشا وسعد زغلول ....الخ
وكأن الماضي هو وحدة مكتملة في ذاتها تستحق الرثاء .. والماضي هنا هو أي ماضي وكل الماضي سواء أكان صورة الإمام محمد عبده أو خطاب مسجل للشيخ الشعراوي ...!!
أما المستقبل فهو محض تكرار للواقع.. تكرار يبرز لنا ومنذ المشهد الأول - الذي يدور في المستقبل - وفيه يستدعي الضيف ومقدم البرنامج لحظة من الحاضر تكاد تماثل المستقبل في فشلها وعبثيتها ومقدار سخرية العرض منها... تكرارا يصل إلي درجة التماثل في بناء التكوين البصري للمشهد في مقابل صورة الماضي (الرصينة وغير المبهرجة...!!).. وهو الأمر الذي يدفع بالعرض، ومنذ تلك اللحظة، إلي حافة إصابة المتفرج بالملل طيلة الوقت ويصبح تتالي المشاهد (أو اللوحات ) أقرب ما يكون إلي الاسكتشات الكوميدية – إن لم تكن قد تحولت إلي ذلك بالفعل – سواء قدم العرض نقداً فانتازي لأزمة رغيف العيش أو سخرية من حالة التخمة التي تعيش فيها الطبقة المسيطرة.... أو العنوسة أو إرضاع الكبير ...الخ
أياً ما كانت القضية أو المشكلة التي يتناولها المشهد فإن الإجابة الممكنة التي يطرحها العرض محسومة وغير قابلة للتفاوض أو المراجعة.. لقد انتهت الحياة في ذلك الجزء من العالم وكل ما بقي لنا هو البكاء على الماضي وتجرع عبثية الحياة حتى النهاية أو الهروب كما يطرح العرض في النهاية من خلال مشهد غرق الشباب الهاربين إلي أوربا...
إن العرض يكرس لغياب المعني ولا إمكانية التجاوز... وهو ما يؤكده مركزية لوحة ارتشاف القهوة (لوحة الحداد) بهذا الإطار الذي يقدم استعادة ضمنية لذلك الماضي عبر اللون الأحمر والملابس الرسمية وطبيعة التشكيل الجماعي الذي يقوم بدور التعليق الصامت والمترفع عن تلك العجائبية الساخرة التي تقدم في مقدمة خشبة المسرح مما جعل العرض يدور حول ذاته بلا نهاية تقريباً، وحول السخرية إلي سخرية جوفاء لا تهدف لنقد الواقع أو لكشف تناقضاته بقدر ما تهدف إلي السخرية والضحك الذي يبطن قدراً غير محدود من فقدان المعني.
وهذا الفقدان للمعني ساهم فيه تلك العشوائية الفجة التي اتسم بها العرض في بناءه بشكل كبير، فنهاية العرض محض اختيار عشوائي تماماً كبدايته محض اختيار عشوائي.... اختيارات تعتمد الصدفة والتداعي الحر لكافة ما يقع في نطاق صناع العرض من ظواهر اجتماعية وسياسية واقتصادية بشكل يمكن التبديل في ما بينها أو الحذف والإضافة بدون حدود لانعدام وجود نسق نقدي أو تحليلي يجمعها سوياً أو يراها كوحدة .
بالطبع لقد حاول المخرج أن يواجه تلك الطبيعة العشوائية للعرض الناتج عن ارتجالات مجموعة الممثلين– كما يبدو- لكن تلك المحاولة لم تنتج سوي إعادة أنتاج وتكرار لنفس الفكرة برغم اجتهاده في تخليق حالة من التنوع في بناء المشهد على المستوي البصري داخل المشاهد ذلك أن العرض كان قد طرح خطابه منذ اللحظة الأولي بكل ما فيه من عدمية وسذاجة وتخبط... ولم يعد من الممكن تجاوز ذلك إلا عبر تنمية الحدث المسرحي وهو ما لم يحدث بالتأكيد.
وهو ما يعني أنه لولا ذلك الفيض من الحيوية التي كان الممثلين يطرحونها طيلة الوقت – عبر استثارة ضحكات المتلقين واستعراض مهارتهم الأدائية - لكن جانب كبير من المتفرجين قد انسحبوا قبلما ينتصف العرض وهو ما يعود بشكل أساسي إلي عدم إدراك صناع العرض لذلك التناقض الجوهري الذي يكمن بين الخطاب العدمي للعرض، وبين تلك الحرية التي يتيحها الشكل الفني الذي اختاره العرض والذي أغري القائمين عليه بإمكانية قول كل شيء وأي شيء ... وهو التناقض الذي حول المشاهد المتتالية إلي أسكتشات ساذجة تعيد تكرار نفس الجملة بشكل مثير للملل لمدة تجاوزت الساعة والنصف.
وهو الأمر الذي ربما يستدعي التفكير في الشكل الفني الذي قام عليه العرض وتلك العلاقة الغريبة التي قامت بين ذلك الشكل المتحرر المنطلق وبين ذلك الخطاب الذي يطرحه العرض فهذا الشكل الفني طالما ارتبط بمسرح الطليعة السياسية التي تطرح أنماط الاستغلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي مشيرة عبر ذلك المرور السريع بالواقع إلي أسباب عدم معقوليته ومبشرة بإمكانية التغيير عبر ما يحمله الواقع المقدم من إمكانات ...أو حتى وفي أكثر مستوياتها بدائية تدفع المتلقي إلي اعتناق الحلم بإمكانية تغيير الواقع بعيداً عن ذلك الخطاب الذي يطرحه العرض والذي هو بطبيعته ينطلق من يأس تام وكفر بأي إمكانية لتجاوز لا معقولية الواقع ومن ثم أمكانية تغييره...
لقد نجح ذلك الخطاب في تضمين أطار فني طالما كان على طرف النقيض من ذلك النمط من الأفكار... بالتأكيد أن العرض فشل إلي حد كبير في توصيل رسالة متماسكة ولكن – ومن جانب أخر – فإن العرض وبتلك البنية يمكن أن يطرح علينا أنماطاً جديدة هي في طور التكون ، أنماط قادرة على استيعاب أي خطاب حالم أو تبشيري أو أيدلوجي داخل أفق عدمي ويائس يتمدد مع تنامي حالة الفشل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي أصابت مصر والعالم بدرجات متفاوتة.
وهو ما يستدعي التفكير والتأمل من صناع العرض بما يتجاوز التفكير الجمالي الأولي الذي يحاول بناء تناسق جمالي بين أجساد الممثلين أو من خلال استنفاذ الحيل التكنيكية أو حتى عبر أسطورة التنوع اللوني والحيوية التي يمكنها أن تخفي السطحية في تناول العالم والتعامل معه ككتلة جامدة غير قابلة للتأمل في عناصر بنائها والقفز إلي الحكم النهائي كخلاص مريح يتماس مع التوجه العام للنظام الاجتماعي والسياسي الذي أصبح أسير تكرار ذاته متحصناً بعدمية تنجيه من التساؤل حول المستقبل وتنجيه من التساؤل عما يمكن أن يؤدي إليه ذلك التكرار من خراب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق