معركة 1905
التأسيس والهوية الوطنية في المسرح المصري
في دراسة بعنوان "النساء
والطب والسلطة في مصر في القرن التاسع عشر"
تناول الدكتور خالد فهمي تاريخ أول مدرسة لتعليم الفتيات في الشرق الأوسط وهي
مدرسة القابلات تالتي أسست عام 1832 والتي كانت تهتم بالأساس بتخريج حكيمات (أو
طبيبات) وليس مجرد قابلات بتدريب أوربي ، وبالطبع تطرق إلي عمليات بناء الهوية
الوطنية وعمليات التحديث ودور مدرسة الطب للذكور والنساء في تطوير سيطرة الدولة
وقدرتها على اختراق النظام الاجتماعي والسيطرة على الموت والحياة ...لكننا هنا لن
نتوقف طويلاً أمام تلك الورقة البحثية وما تكشفه من آليات بناء الدولة الحديثة في
مصر بل سوف نكتفي بالتوقف أمام أحد المداخل الأساسية التي اعتمدت عليها الدراسة
وهي هوية الطالبات والمسيرة المهنية الخاصة بهم داخل المجتمع المصري في القرن
التاسع عشر.
لقد
كانت اعتمدت الدولة في تأسيس المدرسة بشكل أساسي على شراء جواري سودانيات وحبشيات
من سوق الرقيق بالقاهرة، حيث شكلت تلك المجموعة من الفتيات أول طبيبات بالمعني الذي
نفهمه اليوم في الشرق الأوسط وذلك لأسباب متعلقة بالمقاومة الاجتماعية لعمليات
التحديث على المستوى الاجتماعي... وبتتبع الدراسة لبعض النماذج فأننا يمكن أن
نكتشف أن الطبيبات كن يقومن بما يشبه القتال اليومي لصالح الدولة في الشوارع
والحارات بل والدخول في معارك مع رجال الدين والقيادات الشعبية في أحياء القاهرة
القديمة التي كانت تقاوم امتداد سيطرة الدولة المصرية الحديثة على أجسادهم وحيواتهم.
الأمر الذي جعل منهم أحد الكوادر الأولي والأساسية في بناء الدولة المصرية الحديثة
لأنهم كانوا يمتلكون القدرة على النفاذ إلي حيث لا يمكن للجنود وموظفي الدولة
الوصول إليه وهو الأسرة والتأثير فيها
طبعاً
هناك سؤال طبيعي من الممكن أن يثار هنا وهو هل الحكيمات السودانيات ذات البشرة السمراء
مصريات أم هن مجرد أسيرات أو مستعبدات أو حتي مقيمات بدولة أجنبية ؟!
هل
يبدو ذلك السؤال ساذج بعض الشيء؟ مغرض؟ ينم عن فهم خاطئ لطبيعة تكوين المجتمعات
ومفهوم الهوية الوطنية في القرن التاسع عشر ؟!
أن الأزمة الأساسية لهذا السؤال هي أنه يتجاوز الموضوع الأساسي هنا
وهو كيفية بناء الدولة لنفسها وكيفية توغلها في النظام الاجتماعي والآليات التي اعتمدت
في عمليات السيطرة والمقاومة أو الاستبعاد السياسي للمصرين من التعليم ... الخ. او
تناول عمليات الإخضاع والاستغلال التي مارستها الدولة المصرية ضد الجنوبي/السوداني سواء في تشكيل القوات المسلحة أو الأمن الداخلي أو حتى في المؤسسة الطبية. أنه سؤال يختزل وضع كامل في تحديد عرقي أو وطني يسعى لتضمين أو أستبعاد تلك المجموعة. أننا في النهاية سوف نجد أنفسنا متوقفين أمام هويتهم العرقية كما لو كانت عنصر
حاسم برغم أن تلك المجموعة من النساء أكتسبن ثقافة مغايرة عبر التعليم الغربي من ناحية وتمت
عمليات أدامج اجتماعي لهن من ناحية أخرى عبر زواج بعضهن من أطباء مصريين أو حتى
عبر توطينهم داخل الدولة في كافة أرجاء مصر تقريبا.
بالمجمل
لم تكن قضية الهوية الوطنية هي العامل الحاسم هنا بل كيفية عمل الدولة وتشكيلها
لذاتها ولعلاقتها مع المجتمع.
لنعد
إذن إلي تاريخ ١٩٠٥ بوصفه تأسيس المسرح المصري الذي يبدو متأخراً للغاية بل وغير
منطقي لذات المنطلق وهو ان الدولة المصرية الحديثة كانت تمتلك مشروع واضح -ولا
يمكن انكاره أو تخطيه لأسباب شيفونية أو قومية -على مستوى إدارة الثقافة، حيث تبنت
الدولة سياسة ثقافية متعددة المستويات بداية من بتشكيل البنية الأساسية مثل بناء
دور العرض المسرحي ودار
الاوبرا ، مروراً بعمليات الإنتاج والدعم المالي لبعض الفرق ، وإلي جانب ذلك الدور
المجتمعي الذي ساهم فيه مئات الأفراد من المثقفين المصريين والعرب ممن انتموا للمشروع التنموي الخاص بالدولة أو ضمن الحراك الاجتماعي المتصاعد منذ منتصف القرن التاسع عشر
نحو تشكيل الأمة المصرية ، تشكيلات وحركة هي أكبر بكثير من تشكيل فرقة مسرحية ،
بالإضافة لذلك فإن تعبير "المسرح في مصر" لا يختلف كثيراً في معناه عن
تعبير "المسرح المصري" لان معظم الفرق السابقة التشكيل على عام ١٩٠٥ كانت فرق مقيمة وليست فرق زائرة.. بالإضافة
لكون معظم اعضاء تلك الفرق المختلطة الأعراق (او الطائفية) مقيمين وهو ما يجعل من المنطقي
أن نستنتج أنهم أنتجوا عروضهم للمسرح المصري ولمتفرجين مصريين أومقيمين بالأساس
وتحت رعاية ودعم الدولة المصرية (أو الولاية الخديوية المصرية إذا أردنا الدقة) سواء
أكان هذا الدعم مالي أم قانوني أم مجرد تضمين وقبول سياسي واجتماعي لفن المسرح
ولممارسيه.
من هنا فإن المسرح في مصر (او المسرح المصري بمعنى أخر)
مشروع كبير وعميق ودراسته ترتبط بالضرورة بدراسة الدولة المصرية في كافة مراحل
نموها ذلك إن انكار أو تجاهل تلك العلاقة او التغاضي عنها يسقط كل الجهد
الفني والبحثي الذي بذل (ويبذل) منذ سبعينات القرن التاسع عشر وحتى اليوم كما يفتح
الباب أمام تصورات وطنية متعصبة ومتشنجة مثل نفي مسارح جورج ابيض والريحاني خارج
مجال المسرح المصري لان أولهم لبناني والأخير عراقي وبالتالي يصبح من الطبيعي
شطب أنجازهم من تاريخ المسرح المصري وأستبعادهم منه !!! أو أن يجعل من بعض الوقائع
مثل زيارات الفرق الأوروبية لدار الأوبرا المصرية أو بعثة جورج ابيض على نفقة الدولة المصرية أمور
مجانية وعديمة المعني... بالمجمل سنجد أنفسنا أمام تصورات ضيقة وعدائية للمحيط
العربي ومحاولة لنفيه من ناحية ونفي الأدوار التاريخية لبعض الفرق والأفراد لمجرد
أنهم ليسوا مصريين أصلاء (وأن كانت فكرة الأصالة التاريخية غير واردة في التاريخ
المصري منذ عصر الفراعنة وحتى اليوم) ... بالمجمل سوف نتحدى التاريخ ونلقي بجزء
هام من تاريخ الحركة المسرحية في مصر والمنطقة العربية في مناطق مظلمة لان جورج
أبيض والريحاني وبيرم التونسي وعزيز عيد وروزاليوسف وحتى وليد عوني ليسوا مصريين
بالمعني العرقي القائم على روابط الدم.. لكن أبدعهم وتاريخهم الفني لا يمكن احتسابه
بوصفه جزء من المسارح السورية او التونسية او العراقية او اللبنانية... ومماثل
لنفي ليلي مراد وأنور وجدي و خان ويوسف شاهين من تاريخ السينما المصرية.
اعتقد ان الندوة التي شاركت ضمن فعالياتها في عمليات
التوثيق والتحليل واستخراج النتائج الكبرى لم تكن ناجحة او قادرة على ربط المسرح
المصري بتاريخ متأخر... لأنها ببساطة (لم تخرج بنتائج كبرى تدعم ذلك التصور أو
تحديدات يمكن لها الثبات امام النقد حتى من داخل الابحاث التي شاركت فيها التي
كشفت أهمية النظر إلي التنوع الثقافي والعرقي المشكل للظاهرة في المراحل الثلاثة
الاساسية (التي توقفت امامها الابحاث خلال النصف الاول من القرن العشرين) بوصفه
عامل أساسي ... بالإضافة إلى الارتباطات بالربع الأخير من القرن التاسع عشر.
ولكن هل يعني ذلك أننا أمام تذويب – أو نفي وجود – هوية
وطنية وثقافية مميزة للمسرح المصري ؟
أعتقد أن الفكرة التي طرحت من قبل الدكتور سيد على
أسماعيل حول التفريق بين المسرح في مصر والمسرح المصري والقائمة على محاولة إيجاد تصنيف
للتفريق بين المجهودات الفنية للفنانين العرب (أو المسرح في مصر) وجهود الفنانين المصريين
(أو المسرح المصري ) لا تعتمد إلا على أساس واحد وهو (كما طرحه الأستاذ الدكتور
سيد على أسماعيل) الهوية الوطنية لأن
الرسوخ والتأثير أو بمعني أبسط التأثير في تطور الظاهرة المسرحية وعلاقتها المجتمع
وشرط الاستمرارية هي أمور تتوفر شروطهم في المسرح
المصري منذ تبني الدولة للمسرح بوصفه جزء من عمليات التطوير والتحديث الاجتماعي
ذلك أن عمليات الترسيخ الإداري والمؤسسي للمسرح عبر إدارة التياترات ورعاية مجلس الوزراء
(أو النظار)...كما هناك عمليات ترسيخ جمالي واجتماعي من خلال أدوار المجتمع المدني
ونمو الكتابة المسرحية في مصر واستمراريتها خلال الربع الأخير في القرن التاسع عشر
وهي فعاليات أصيلة في عملية الترسيخ والنمو للمسرح بصيغه الأوربية وهو ما نجد
عشرات الأدلة التاريخية والوثائق الداعمة له سواء عبر المساهمات البحثية التاريخية
للدكتور سيد على أسماعيل أو من سبقه وعاصره من الباحثين في مجال التأريخ أو
المسرح.
وهنا من الممكن لنا التوقف أمام الإعلانات الصحفية
بوصفها دليل واضح على نمو طبقة متعلمة مهتمة بالمسرح وغيرة أشكال الترفيه وتتوجه
إليها إعلانات الصحف والمجلات ..الخ ، أو التوقف أمام دعم بعض الأفراد للفرق
المسرحية أو حتى دعم الدولة المصرية بوصفها نماذج فلا وجود لانقطاعات للظاهرة كما
حدث في بلاد الشام على سبيل المثال اللي كانت ظروفها الاجتماعية والسياسية غير
داعمة لوجود استمرارية إلا عبر مجهودات أفراد لهم أهمية تاريخية لكن أحداً منهم لم الاستمرار في ظروف عدائية (أو في أفضل الأحوال
غير مواتية) على عكس ما حدث لهم في مصر التي كانت الدولة فيها والمؤسسات
الاجتماعية بالإضافة لوجود طبقة تدعم المسرح.
إذن فإن
المشكلة ليست في الرسوخ أو الاستمرارية ولكن في تحديد الهوية الوطنية وهو أمر شديد
الصعوبة في وضع الدولة المصرية فهو من ممكن دراسته في مسارح دول مثل سوريا والعراق
والمغرب والجزائر لأسباب عرقية أو طائفية أو لخليط منهم ... لكن الدولة المصرية تمت
عمليات تأسيس الهوية الوطنية فيها على أسس مختلفة حيث كانت رابطة الدم أو الطائفة
مجرد مكون ضمن مكونات عديدة تحدد الهوية الوطنية وبالتالي فإن الانتماء للدولة كان
العامل الأساسي لبناء مفهوم المواطنة والهوية الوطنية.
من هنا
يمكن لنا التحدث عن قاعدة بسيطة وهي أن وجود عمل مؤسسي متنامي ومستمر تقوم عليه
الدولة بالإضافة لوجود فرق دائمة أو متوالية (انتقال الفنانين بين فرق مختلفة)
ومستمرة تقدم عملها للمصرين والمقيمين بشكل دوري مستمر (وليس فرق تقدم أعمالها ضمن
جولة فنية)
أن هذه القاعدة
يمكن لها أن تحل أزمة الريادة (وهو مفهوم
هامشي أمام معيار الرسوخ والتأثير ) وبالتالي أزمة التأسيس ذاتها.
وهذه
القاعدة تقوم على
ملاحظة أولي:
الدولة المصرية لم تكن قائمة في الفراغ بمعنى
أنها كانت لها ارتباطات بالإمبراطورية العثمانية بوصفها ولاية ... كما أنها كانت منفتحة
على أوربا بشكل مختلف عن العلاقة التي تربطها بالغرب اليوم وهو ما يعني أن الحراك البشري الكبير في حوض المتوسط وبين
السودان ومصر يتيح لنا الحديث عن أن التشكيل الأساسي للطبقة الوسطي المصرية
المتعلمة في القرن التاسع عشر كان من أتراك وجراكسة وأرناؤوط وشوام وأوربيين وأفارقه
ينتمون للدولة المصرية وهو ما تعقد مع الزيجات مختلطة الأعراق بالإضافة للمصريين
أصلاء مثل خريجي الأزهر من أبناء الفلاحين ...
الملاحظة
الثانية : أن هذه الدولة نمت بشكل تدريجي .. خلال قرن من الزمن وحققت تراكم في
الخبرات وشكلت كوادرها عن طريق التجربة والخطأ ... بمعني أن الدولة في مصر بنيت حجر
بحجر فعليا ... وهو ما يصعب من عملية مقارنتها بالمنطقة العربية حتى المناطق
الأكثر تتطوراً وانفتاحا على الغرب لأسباب طائفية مثل سوريا الكبري
أن الدولة
المصرية وهي بتبني نفسها وطبقتها الوسطي لم تكن تعتمد الكوادر المصرية دماً فحسب
بل كانت تعتمد على كوادر تعمل في ظل تلك الدولة وتتبني سياستها (وهو ما يشبه وضعية
المسرح في الخليج العربي الذي يعتمد على كوادر عراقية وشامية ومصرية ومغربية.. مع
فارق جوهري أن الدولة المصرية لم تكن تتبني رؤية لنفسها قائمة على أساس روابط الدم
مثل دول الخليج بل كانت أكثر تسامحاً وأكثر استيعابا لهذه للكوادر وأكثر ميلاً لتخليق
أنتماء حقيقي للدولة لديهم.
ملاحظة
ثالثة: قراءة التاريخ ليست قراءة ظاهر الوثائق فحسب ... بالطبع فإن الوثيقة لها
سحرها وقيمتها لقدرتها على تحويل المرويات التاريخية إلي بشر من لحم ودم .... لكن
في مثال قراءة وثائق مثل إيجار مسرح أو
تخصيص دعم مالي لفرقة إلخ ...فإننا لابد أن نربط بين الدعم المالي من الدولة لعرض
أو فرقة أو شخص وبين المعاني السياسية التي تتخطى أنتاج عرض فنحن أمام رؤية دولة
لنفسها وعلاقتها مع المجتمع ومع العالم ... فالدولة لا يمكن أختزلها في شخص أو
فكرة محددة.
بالمجمل
لقد كان الشوام المصريين فاعل اساسي في بناء هوية الدولة المصرية وتفعيل المركزية
المصرية لأسباب متعددة منها ما هو متعلق بتمزق الشام الكبير بين قوى طائفية وعرقية
من ناحية ونمو طبقة مثقفة غير قادرة (وهي ازمة تاريخية في سوريا والعراق لبنان)
على مواجهة نظام اجتماعي شديد الجمود رافص للتطور ... الأمر الذي جعل من الدولة
المصرية مركزية سياسيا النموذج المثالي لهم والذي يمكن أن يكون قاعدة لبناء دولة
الاحلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق