عبر أكثر من قرن نمى المسرح المصري بوصفه جزء من الفنون الجماهيرية الاستهلاكية التي تقدم المسرح بوصفه سلعة تتوافر فيها مجموعة من السمات الفنية القياسية المحددة والتي يقوم المشترى/ متفرج بشرائها ليسهم في استكمال دورة انتاجية تفضي في النهاية لتنمية المهنة المسرحية وتخليق أرض جاذبة لممارسة المهنة ونمو الفرق المسرحية واستقرارها وبالتالي تحقيق تنافسية تجارية وفنية، لكن وبذات القدر الذي نمى فيه المسرح بوصفه سلعة فنية فإن تدخل الدولة ورعايتها للمسرح الجاد (منذ القرن التاسع عشر) وفر الفرصة للمسرح غير التجاري (بأشكاله المختلفة) للوجود والمنافسة على جمهور الطبقة الوسطى الذي ظل هو المستهدف الأساسي للمسرح المصري...
وكنتيجة لذلك الوضع كرست
الحركة النقدية جزء أساسيًا من خطابها لدعم المسرح الجاد في مقابل المسرح
الجماهيري ووضعت العديد من الحدود والشروط
الفاصلة بينهما معتبرة تلك الحدود هي الفاصل بين ما يمثله كل منهم من قيم،
خطاب وصل إلى التأكيد على وجود قطيعة حقيقية بين المسرحين، لكن ورغم سيطرة ذلك
الخطاب الذي كان يمتلك صفة اليقين فلقد كان من الطبيعي أن يتحرك المخرجون بين
المشاركة في عروض المسرح التجاري لتحقيق الأمان المادي ثم العودة لتقديم واستكمال
مشاريعهم الفنية في المسرح الجاد... وهو ما يعني أن المسافات أو الفواصل بين
المسرح التجاري والجاد لم تكن على هذا القدر من الحديه أو الثبات... فكما لجأ
المخرجون للقطاع الخاص للحفاظ على استقرار
أوضاعهم المالية فإن المسرح التجاري لجاء (أحيانا) للمخرجين المتميزين لتطوير
جمالياته وتقنياته حتي يصبح أكثر قدرة تنافسية، ويمكننا هنا أن نشير بشكل عابر إلي
أن المسرح التجاري في مصر كان غير ملتفت لتطوير أدواته وتقنياته إلا في أضيق
الحدود وضمن تجارب إنتاجية بعينها وهو ما تضافر مع عناصر ومؤثرات اقتصادية وتقنية
أخرى أدت في النهاية لانهيار المسرح التجاري وهو ما أدى لاختفاء الأفق المهني الهش
الذي كان يوفره ليجد المسرح الجاد نفسه مكلف بأن يحمل الحركة المسرحية كلها وأن
يتقدم بها عبر أنواع مسرحية لا تستجيب ولا تمتلك متطلبات الفنون الجماهيرية
وبالتالي تراجع المسرح بالتدريج نحو الظل وأصبحت الممارسة للمسرح غير قادرة على
توفير الأسس التي تجعلها احترافية برغم كافة المحاولات الهادفة لتحقيق شغل للفراغ
الذي خلفه انهيار المسرح التجاري، وهو ما تزامن مع تحلل الدولة التدريجي من
أدوارها في الدعم والرعاية للمسرح الجاد فوجد المسرحيين أنفسهم بين تأكل المهنة
سريع وعنيف مصحوب بعمليات تقشف مالي وانكماش متواصل ... حيث لم يستطيع المسرح
الجاد الاستمرار في تطوير تقنياته الجمالية والاندفاع خلفها، كما لم تؤدي محاولات
إنقاذ المهنة عبر العودة لخطاب الاندفاع نحو الجمهور والخضوع لمعايره الجمالية
التي تشكلت من الصور النمطية للمسرح التجاري الكوميدي. وبالتدريج أصبح المسرح
المصري أسير لجماليات هجينة تجمع بين الميراث الجمالي والتقني للمسرح الجاد والذي لم
يتطور بشكل حقيقي وبالمقابل خطاب يدعم طوال الوقت الاندفاع نحو الجمهور.
في تلك الأجواء ولدت الأزمة
الفنية الكبيرة التي أعتقد أنها قد وصلت لذروتها خلال السنوات القليلة السابقة
ودفعت كافة الأنماط الإنتاجية نحو تبني خطابات مناهضة في بعض الأحيان لمشروعها
الأساسي فنجد البيت الفني للمسرح الذي شهد عبر تاريخه العديد من الصراعات بين تيار
الاندفاع نحو الجمهور وتيار التوجه الجمالي يميل بشكل متصل لصالح تبني تيار المسرح
الجماهيري لأسباب متنوعة (نحن هنا نتحدث عن خطاب وليس نجاح فعلي في تقديم عروض
جماهيرية)، كذلك مسرح الثقافة الجماهيرية الذي يشكل الوصول للجمهور المحلي هدف
استراتيجي أساسي أصبح يتخلى ببطء عن ذلك الهدف ومحاولة تحقيق تطلعات جمهورها، بل
أن ذلك الخطاب يمكن أن نجد أثره في المجموعة الأساسية للمسرحين للمستقلين الذين
تخلوا في بدايات العقد الأول من القرن الحالي عن مشروعهم المناهض للجماليات
التقليدية في المسرح المصري تحت شعار الاحترافية .... بل لقد امتد ذلك الأثر ليشمل
حتى المسرح الراقص مؤخراً حيث تخلى المسرحيين هنا أيضا عن التقاليد ما بعد
الحداثية التي ميزت عروض مؤسس ذلك التيار لدرجة أننا نجد فرقة الرقص المسرحي
الحديث تنتج عرض تعتمد رواية تنتمي للأدب الجماهيري مثل الفيل الأزرق... وبالتأكيد
هناك التجربة الهجينة التي يقودها الفنان أشرف عبد الباقي والتي تعد من أهم
المؤثرات في النمو الحالي لمفهوم المسرح الجماهيري... وفي مقابله عروض المسرح
الجامعي التي أصبحت تميل بشكل متصاعد نحو الاستجابة لشروط جمهورها الخاص.
أننا نتحدث هنا عن سيادة
بطيئة ومتصاعدة لأنماط جمالية تعتمد على مجموعة من التقنيات بداية من اختيار النص
المسرحي الذي بدأ يستجيب بشكل واضح لمتطلبات جمهور تستحوذ عليه السينما التجارية
(وتحديدًا السينما الأمريكية) فظهرت النصوص المسرحية التي المعدة عن سيناريوهات
سينمائية (عبر التمصير والتعريب أو الأعداد للمسرح بدون تدخل) ولعل قمة تلك الموجة
هو ظهور نصوص مسرحية مؤلفة تدور أحداثها في أجواء أوروبية وكذلك نصوص تندفع لتبني
أنواع مثل الخيال العلمي والدراما البوليسية والفودفيل... الخ. نصوص تخضع لمتطلبات
عرض المسرحي الذي لا يحاول أن يستعير نصوص السينما فحسب بل يحاول أن يتماهى معها...
إن النص المسرحي يمر بالعديد
من المراحل وعمليات الاختيار والرقابة والتقييم والتصفية... الخ عمليات تحدد النص
الذي يمتلك القدرة على الوصول لخشبة المسرح.... ولذا فإن تحول النص - الذي يتبني
تقاليد الفنون الجماهيرية وأنواعها وطرق بنائها الدرامي (سواء أكان مؤلف أم مقتبس
أم معد ... الخ) -إلى عرض يخبرنا بالكثير حول الأفكار السائدة ليس داخل ماكينة
الإنتاج الفني فحسب بل وداخل المجتمع ككل.. لكن لنتوقف عند ما يهمنا هنا وهو أن
المخرج المسرحي المصري (ونحن هنا نقوم بتعميم مخل بالتأكيد) أصبح أكثر ميلا نحو
محاولة الاقتراب من النصوص التي تتماس مع توجهات التيار السائد بالنسبة للجمهور الذي
يفرض متطلبات درامية وبصرية تشكلت ونمت معظمها خارج الفن المسرحي وبعيدا عن
المسارات الجمالية المحلية والعالمية. بالطبع نحن هنا نتحدث عن جزء من الحركة
المسرحية وليس حالة عامة ومعممة لكننا أيضا نتحدث عن تسرب للعديد من تلك التقنيات
للمسرح وتحولها إلى نمط عام يطرد أي جماليات مختلفة حيث تراجعت العديد من الأنواع
والخطابات التي كانت سائدة في المسرح المصري لزمن طويل وبدأ حضورها يتضاءل نتيجة
تضافر مجموعة من العوامل منها الرقابة المتصاعدة التي جعلت من المخاطرة أن يقوم
العرض بمحاولة ملامسة الواقع أو تقديم أي نقد بالإضافة لسيادة التيارات السائدة
وهيمنتها وتراجع البدائل وقيمتها..... بالمجمل فإن المسرح المصري أصبح يميل أكثر
فأكثر للهروب من أي أفكار أو جماليات مفارقة والاتجاه نحو التسلية والترفيه
بوصفهما أرض أمنه سياسيا ومقبولة ومدعومة من الجمهور وتحقق الأحلام التقليدية بالوصول
للجمهور الواسع وتحقيق النجاح المهني.
بالطبع يتحقق ذلك على مستوى
العرض المسرحي عبر العديد من التقنيات في مقدمتها بالتأكيد هو الأداء التمثيلي
الذي يصبح أقرب لتقنيات الأداء الواقعي لكنه بالمقابل يصبح أكثر ارتباطا
بالمبالغات والكليشيهات الأدائية المرتبطة بالطبيعة النمطية لشخصيات الدراما
الجماهيرية، وهو ما ينعكس على جسد المؤدي في صورة انفعالات مضخمة وحركة حادة
وتكرارية أو تراخي للجسد وعدم الاهتمام بجسد الممثل من قبل المخرج. وفي مقابل ذلك
نمى اهتمام - في بعض الأحيان- بابتكار تشكيلات حركية جماعية ذات طابع استعراضي
تستهدف تحقيق خدع أو القيام بحركات ذات طابع أكروباتي أو الاهتمام بالتقنيات
المستمدة من السينما مثل المونتاج المتوازي بين مشهدين أو أكثر أو المزج بين
المشاهد... الخ وهي كلها تقنيات تظهر وتختفي لا لتحقيق أو تطوير شيء بقدر ما هي
متجه نحو المتفرج لجذب انتباهه وربطه بالعرض.
بالطبع نحن هنا نتحدث عن
مجموعات محددة من المخرجين الذين ينتمون في أغلبهم لأجيال جديدة تحاول استكشاف
عالمها الخاص المحاصر بالموانع والضغوط الاقتصادية والمثيرات البصرية التي تنهال
عليهم من وسائط تروج بإلحاح لتيارات وأنواع فنية بعينها. ربما يمكن التوقف أمامها
في وقت أخر من زاوية أخرى خاصة أننا نتحدث عن
في المقابل ربما لا يمكن
تجاهل عمليات الاستعادة لأساليب المسرح التجاري الذي يمتلك تراث طويل من المزج بين
الكوميديا الخفيفة والاسكتشات والكوميديا الشعبية وهي الأساليب التي تلقت دفعة
كبيرة مع تجربة مسرح مصر.
إن المسرح الجماهيري يتمدد بتقنياته وأساليبه المختلفة في المسرح المصري جاذبا معه الحركة المسرحية كلها نحو تبني أنماط محددة من المسرح الذي لا يهتم ببناء الصورة المسرحية أو التجريب وفي المقابل فإن لا يحقق على أرض الواقع أي اختراق حقيقي لأزمة المسرح المصري على المستوى الاحترافي من جهة كما لا ينسحب أمام أنواع مسرحية مناهضة نتيجة فشله ... الأمر الذي دفع بالمسرح المصري للاضمحلال والانكماش والتكرار والاجترار لذات الجماليات بشكل متصل يزداد ضحالة مع تزايد القيود الرقابية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق