هذه الأيام تشهد غضبًا ضد إدارة البيت الفني للمسرح بسبب مجموعة من القرارات
المتعلقة بالتعاقدات وهي تشابكات إدارية بسيطة – أو معقدة - يمكن حلها كما حدث مع سوابق، لكن تلك الأزمة تبقى - برغم ذلك- قادرة على كشف وجود أزمة حقيقية وعميقة في البيت
الفني للمسرح، أزمة تتجاوز التحولات الضريبية والرقابية ، لذلك أعتقد أنه يجب
علينا أن نرجئ طرح الحقائق والبدائل أو الغضب أو البكاء أو النقد أو الإشادة
بالمجهودات وأن نتوقف عند مرحلة الوصف على الأقل لوضع البيت الفني للمسرح قبل
تحليله أو المشاركة في ترسيخ أو هدم ما يحدث، ذلك أن تاريخ البيت الفني للمسرح شهد
العديد من عمليات التأويل والتنازع وأصبح هناك سردية تمتلك شكل اليقين حول تلك
الإدارة والكثير من الأفكار والمسلمات المتناقضة والمتوافقة.
في البداية ربما لا يمكن أن نتناول وضعية البيت الفني للمسرح دون التوقف عن
وصف تقليدي له بالفاشل (تلك مسلمة حسب تلك السردية) بحسب طرحين متناقضين يختلفان
في السبب ويتفقان في النتيجة ... الأول ينادي بأن البيت الفني للمسرح فشل بسبب فشل
من تولوا إدارته وعجز الإدارة الفنية عن تحقيق أهدافها وابتعادها عن مسارها، في
مقابل ذلك يوجد الطرح الثاني الذي يرى أن فشل الإدارة جاء نتيجة لظروف خارجية (أو
مؤامرة) وليس لفشل من تولوا رئاسته (وهذه ليست مجاملة لأحد أو لصالح شخص أو مجموعة
أشخاص) فعبر مراجعة سريعة للأسماء التي تولت يمكن أن نرى مجموعة من الأشخاص الذين
يمتلكون مشاريعهم الخاصة لتطوير تلك الإدارة سواء على مستوى محاولة الوصول للطبقة
الوسطى كما نجد عند دكتور أسامة أبو طالب أو التسويق وتوسيع قاعدة الإنتاج وزيادة
الموارد المالية عند دكتور أشرف زكي أو عبر محاولة فك تكلسات الجهاز والوصول
لموارد تدريبية أو فتح المجال المغلق عند الأستاذ ناصر عبد المنعم أو حتى عبر
محاولة طرح تصور لهيكلة إدارية جديدة عند الأستاذ إسماعيل مختار ....الخ. تلك النماذج
لمحاولات يمكن أن نجد مثيلاتها في تجارب السيد راضي والأستاذ سامي خشبة ... الخ..
بالتأكيد يمكن أن نختلف في تقيمنا لتلك التجارب أو أن نرى أشخاص أسهموا في التدمير
وأخرين أسهموا في البناء ... لكن في النهاية لم يزل البيت الفني للمسرح متصدع
ومنهار وضعيف منذ الثمانينيات وغير قادر على استيعاب متغيرات الواقع.. متيبس..
ومتأكل يشيخ ببطء وثبات.
إن ذلك التصور لا يعفي أحد من المسئولية بشكل شخصي لكنه في النهاية يحول
الفشل لمسئولية غير محددة أو يحدد أشخاص بعينهم ويعفي أخرين أو يدين الجميع في إعلاء
لنظرية المؤامرة ...
لكن ذلك التصور لفشل الإدارة لا يكتمل دون تحديد لهوية البيت الفني للمسرح
بوصفه من مخلفات الستينيات والمشروع الثقافي الخاص بها، وبالتالي فإن وضعية البيت
الفني للمسرح تتخذ بشكل مباشر صبغة أيديولوجية فيظهر في قلب الصراع بين القوى
المحافظة والقوى التقدمية... بين القوى الدينية والعلمانية ... بين أنصار الاقتصاد
الحر ومؤيدي الاقتصاد الموجه ... بين ليبرالية واشتراكية ... بين القديم والجديد
.... الخ ... ببساطة يبدو هنا في وضع شديد الصعوبة نتيجة الضغط المستمر لقوى شديدة
الحضور والقوة داخل المجتمع والنظام السياسي، تمتلك خططها الخاصة التي لا تشتمل
على وجود مسرح الدولة (أو بشكل أكثر تفاؤلا ليس بوضعيته الراهنة) الأمر الذي يدفعه
ليتحول لهدف للضغط في الصراع السياسي والاجتماعي، وإن كان على مستوى هامشي
بالتأكيد لكنه، وعلى العكس من إدارة المسرح بالثقافة الجماهيرية فهو الأكثر عرضة
لكافة أنواع الضغوط والصراعات الإعلامية والسياسية داخل النظام السياسي أو بينه
وبين معارضيه أو حلفائه المؤقتين أو حتى على مستوى القوى الاجتماعية.
نتيجة لذلك الوضع المربك والضاغط فإن البيت الفني للمسرح – بوصفه إدارة
حكومية صغيرة- يعاني تبعات التحولات
الاقتصادية والسياسية وانسحاب الدولة من عمليات الرعاية والدعم المباشر لصالح
الحملات والفعاليات والأحداث المؤقتة والمحدودة (مثل حضور رئيس الجمهورية لعرض
مسرحي هنا ... مهرجان دولي هناك... ورش تدريبية ممتدة أو محدودة... الخ) بالإضافة
لعمليات الدعم غير المباشر -وهي عمليات يطول الحديث عنها وليست بموضوعنا الان - كما أنه يعاني من كافة الأعراض المرضية المصاحبة
للشيخوخة الطويلة والمزعجة للجهاز الإداري للدولة الذي يتم ضغطه وتقليصه، كما
يعاني من تبعات مشروع تحولات الجهاز الإداري للدولة التي لم تطرح مشاريع جزئية
للتطوير الإداري الخاص بكل جهة وإنما أكتفت بوضع تصور عام مدمر لقطاع الثقافة بشكل
كامل (في حدود ما نتحدث عنه) .. وأخيرا فهو يعاني من العراقيل التي تقيده على
المستوى المالي تحديدًا نتيجة للتضخم الاقتصادي المتصاعد منذ السبعينيات والعراقيل
القانونية واللوائح التي تجعل من أي محاولة للحركة أمر مستحيل...
في النهاية فإن البيت الفني للمسرح يتجلى بوصفه جهة إنتاج فني تقليدية
ومتكلسة (باستثناء عرض هنا وعرض هناك لعناصر بشرية مميزة وليس لوجود سياسة ثقافية
أو توجهات فنية أو عمليات تحديث) تقيد المسرح المصري وتمنعه من التطور نتيجة لوضعيتها
المركزية داخل مشروع الدولة المسرحي والموقع السلطوي الذي تحتله الإدارة المسرحية
داخل الحركة المسرحية بشكل عام من ناحية ونتيجة لكثير من العوامل الداخلية مثل
الضوابط واللوائح وضعف التدريب والانغلاق من ناحية أخرى، ليتحول في النهاية لجسد ضخم
يعيق حركة المسرح المصري، لكن حتى لا نصبح قساة بما لا يليق فإنه يجب الإشارة للعوامل
الخارجية المتعلقة بانسداد كامل على المستوى الاجتماعي ورفض لعمليات التطوير
والتحديث من كافة نقاط النظام السياسي وحتى التنازع الاجتماعي والسياسي بين اليمين
الديني واليمين المحافظ التقليدي الذي يهيمن على السلطة ، وعدم وجود مشروع بديل
مطروح على تلك الإدارة نتيجة انعدام الإرادة السياسية في وزارة الثقافة منذ
الثمانينات وحتى اليوم لطرح بدائل أو عمليات تحديث لتلك الإدارة، لتتلاشى المشاريع
البديلة أو قابلة الإنجاز، وإلا لكانت قد طرحت نفسها بوصفها بديل على النظام
السياسي على الأقل الذي يحافظ على تلك الإدارة لعدم توافر بديل يوفر امكانيات تغنيه
عن تحمل وزن البيت الفني للمسرح الذي يزداد ثقلا بمرور الزمن.
إن ذلك التصور لوضعية البيت الفني لا تكتمل دون أغنية البجعة الأخيرة التي
ينشدها في صورة مرثية ذاتية طويلة ومحاولة للفكاك وهروب البعض مثل النداء المتكرر
بفصل المسرح القومي عن البيت الفني للمسرح.
تلك مجرد ملامح لتلك
السردية التي توصف وضع البيت الفني للمسرح التي يمكن أن نجد سرديات موازية أو
مخالفة لها... مثل السردية التي تتحدث عن النجاح والنمو المستمر للبيت الفني
للمسرح لكن لنكن محددين هنا فللسرديات البديلة تصور وطريقة مختلفة في التناول لكنها
لا تجعلنا نرى حجم الأزمة التي نواجهها... لذا أفضل أن نتركها جانبا لصالح العودة
لنقطة محددة يجتمع حولها ما حاولنا وصفه.
إن البيت الفني
للمسرح يتعرض للكثير من المتغيرات الواقعية الداخلية والخارجية لكنه لم يشهد أي
متغير حقيقي على مستوى البنية الإدارية أو على مستوى التوجهات الفنية... مما يعني
أنه متكلس ومتيبس (لاحظ تكرار وتواتر تلك التعبيرات ومرادفتها عند وصف البيت الفني
للمسرح) أي أننا ذاهبين بوعي أو بدون وعي لنهاية تلك الإدارة فعليا مع تقدم الزمن
... سواء بقرار حكومي أو بتقدم الزمن .... وتلك حقيقة يعلمها الجميع للأسف... لكننا
لم نزل نقاتل ونحلم بأن ننجح في تبديد ذلك عبر حلول جزئية ومقاومة تتشبث بالأرض
وترفض الموت.
هناك تعليق واحد:
أحسنت وأصبت كبد الحقيقة
إرسال تعليق