السبت، فبراير 25، 2023

يا خليج ... عالم الرمال والبحر الضبابي

 

ربما يصعب الاقتراب من عرض "يا خليج" للمخرج "عبد الله البكري" وفرقة جلجامش دون محاولة  التوقف عند ثنائية البحر والرمال التي يعيد العرض انتاجها المرة تلو المرة في كافة لوحاته وذلك من خلال التأكيد المستمر على الطبيعة الجافة والرمال في مقابل غياب البحر، حيث تتردد تلك الثنائية في كافة عناصر العرض بداية من النص " ليوسف الحمدان" مرورا باعتماد المخرج على الرمال والغبار وهيمنة اللون الرملي على قطع الديكور والملابس الخاصة بالمؤدين بوصفهم عناصر أساسية في تشكيل الصورة المسرحية وكذلك في مقابل الملابس التراثية التي ترتديها مجموعة الغناء الجالسة في أعلى يمين خشبة المسرح بموقع محجوب ومشوش بسبب وضع قطعة ديكور تمنع المتفرج من رؤيتهم بشكل واضح. وأخيرا على مستوى الأداء الجسدي حيث نحى العرض نحو إبراز ذلك التناقض بين أداء جسدي متشنج وتقييد أجساد المؤدين بالأرض في مقابل الفرقة الموسيقية التراثية التي تجلس في هدوء وسكون.

في مستوى أول فإن تلك الثنائية التي نشير إليها هنا ربما يمكن تأويلها بوصفها تجسيد لحالة الصراع المستمر ومقاومة الإنسان الدائمة للطبيعة بهدف السيطرة عليها عبر الثقافة. كما يمكن في مستوى ثان تفسيرها وبصفها تجسيد لأزمة تلك الثقافة ومحاولتها التواصل مع هويتها التي تأكلت والتي تشوشت والتي يشير إليها العرض باستعارة البحر الغائب الذي ابتلعته الرمال، البحر الذي يحضر في ترديد شخصية السيدة ذات الدلاء "لمياء الشويخ"  لجملة "لا بحر" وكذلك الأسطر الحوارية الخاصة بالشاعر "فهد الزري" وعبر موسيقى البحارة وأغانيهم ، كما يمكن في مستوي ثالث فهمها من خلال شخصية ابن زمنه " أحمد محفوظ" بوصفه المستوى الأساسي الذي يستوعب ويؤطر عالم العرض، فعند بداية العرض يدخل الشاب المعاصر حاملا حقيبة سفر أمام ستارة المسرح المغلقة لتفتح الستارة ويظهر العالم الذي تتصارع عليه الرمال والموسيقى، إنه يتجول داخله بقدر من الحرية والعشوائية بملابسه المعاصرة والأجهزة التي يحملها ويستخدمها (الكاميرا، سماعات الرأس، الهاتف المحمول ... الخ) إنه يظهر في بعض الأحيان بوصفه صانع ذلك العالم ومبتكره وأحيانا بوصفه سائح يتجول ويراقب بصحبة المتفرج عالم الرمال، يندمج أحيانا في عالم العرض وينفصل أحيانا، ليشكل في النهاية علاقة بين الماضي الغارق في الصراع بين الأنسان والطبيعة القاسية في مقابل الحاضر الملتحم بالتكنولوجيا والذي لا يتواصل مع أصوله الثقافية أو يحاول أن يفهمها. وأخيرًا في مستوى رابع يمكن مقاربة العرض من خلال تلك الطبقة الإضافية لمستويات بناء عالم العرض المتمثلة في التعليقات والفواصل المقدمة على شاشة العرض والتي يستخدم فيها الرسم على الرمال والاقتباسات مثل شطر بيت شعري من المتنبي أو سطر شعري من قصيدة لقاسم حداد... إن ذلك المستوى الشارح ربما كان يستهدف تخليق قدر من إزاحة الغموض الذي يكتنف العرض وتخليق مسارات للتأويل لدى المتفرج مثل الإشارة للطفرة النفطية أو محاولات بناء صور تعبيرية من الرسم على الرمال... لكن هذا المسار الذي سلكه المخرج في تشكيل ذلك المستوى لم يحقق المستهدف بقدر ما أضاف المزيد من التراكم للمصادر التي يعتمدها العرض كما يراكم من المستويات التي يمكن تفسير العرض من خلالها .

إن تلك المستويات ليست هي المستويات الوحيد التي يمكن اعتمادها في تفسير وتلقي العرض بل هي مجرد إطارات عامة لتراكم وتكديس مستمر من قبل العرض لاستعارات شاعري حيث يمكن طوال الوقت أن نضيف إليها مثل أن نتوقف أمام شخصية "ذات القناديل/ نورة عيد" التي الرابط بين عالم ابن زمنه وعالم الرمال.

قد يبدو أن تعدد مستويات التلقي ومساحات التأويل التي يفتحها العرض عنصر تميز لكنها وعلى العكس تجذبه بالتدريج عبر تناقضها وتعارضها وتقاطعها لحالة من الإبهام مشكلة الأزمة الحقيقية وهي صعوبة بناء معنى أو تصور مكتمل دون مقاطعة بصرية أو خطابية، حيث لم ينج من ذلك الإبهام سوى حالة الأسى المعمم تتغذى على الفقد والحنين لماضي لا يمكن استعادته والتي رغم مقاطعة العرض لها تظل هي الهاجس الأساسي المسيطر.

بالتأكيد يحسب للعرض رهانه على فتح تأمل متعدد المستويات لأزمة الثقافة العربية بشكل عام والخليجية (البحرينية تحديدا بوجه خاص)،  ذلك التأمل الذي حاول لملمة تاريخ ممتد ومتشعب والبحث في مصادر أزمته بداية من زمن حضارة دلمون وحتى اللحظة الراهنة، لكن ذلك الرهان ربما كان في حاجة لمزيد من الدقة والتحديد الذي يحدد أهدافه والمسارات التي يسلكها حتى لا يسقط في عالم من الغموض والفوضى الدلالية التي ظهر أثرها على العرض على عدة مستويات لعل أهمها حالة التكدس البصري التي ربما أتت استجابة لمحاولة الإمساك والتأكيد على كل ما يشغل العرض (والمحافظة على تجريده وشاعريته في ذات الوقت) لكن النتيجة كانت وجود تشويش بصري على عناصر أساسية في العرض (الفرقة الموسيقية، شاشة العرض) كما أشرنا، ومن جانب أخر فإن إعادة التكرار والاجترار لثنائية البحر والرمال عبر تنويعات مختلفة لم تسهم في دفع العرض للتقدم بل جعلته يدور في دائرة مغلقة حتى النهاية.

 في النهاية ربما يبقى للعرض ومجموعة العمل ذلك الطموح الجمالي الذي تفجر في أكثر من لحظة في صورة تكوينات بصرية وأدائية استطاعت تجاوز الأزمات التي سقط فيها العرض والتواصل مع المتفرج.

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...