الأربعاء، فبراير 05، 2014

عن التآكل البطيء لدور الدولة في دعم مسرح الثقافة الجماهيرية


ليس من قبيل المبالغة اعتقاد البعض – وأنا منهم – أن المسرح المصري يمر بمرحلة حرجة (ربما تكون الأصعب في تاريخ الظاهرة المسرحية منذ وضعت بذرتها الأولي في منتصف القرن التاسع عشر) فمنذ بداية عقد الألفية تتابعت على المسرح المصري الكثير من الضربات التي أنهت عصر العلاقات المستقرة بين الدولة و المسرح ، وهي علاقة لا تقتصر دعم الدولة المالي للكتلة الأكبر من الظاهرة المسرحية فحسب بل تمتد لتشمل الدعم المتبادل بين الظاهرة المسرحية و الدولة المصرية على كافة الأصعدة تتصاعد بداية من حماية الطبقة المهيمنة على الدولة للمسرح كفن راقي .. ويستمر تصاعدها مع تنظيم الدولة للممارسة المسرحية من خلال قوانين و أجهزة رقابية وأمنية ونقابة، ويصل ذلك الدعم في قمته في صورة دعم الفرق الهاوية و توفير أبنية و مسارح لها لتقديم عروضها.. الخ.
وبالمقابل ظل المسرح المصري وفياً لمشروع الدولة المصرية الحديثة حتى وهو يعارض الأنظمة المتتابعة التي تعاقبت على قيادة جسد الدولة. فلقد ظلت الدولة المصرية الحديثة تحتل مكانة خاصة في خطاب المسرح المصري..حتى في أكثر تلك المسارح راديكالية.
ولكن تلك السنوات الأخيرة كانت فاصلة في تاريخ تلك العلاقة بحيث نتج عنها تحول حقيقي في علاقة الدولة بالمسرح، فخلال تلك الفترة تصاعدت عملية التحول لاقتصاديات السوق – بل وتبني النماذج الأكثر تتطرفاً -  الأمر الذي دفع بالدولة لتبني سياسة الانسحاب التدريجي من الدعم المباشر للظاهرة للمسرح عبر أساليب ملتوية مثل ترك المؤسسات دون تطوير أو تحديث (كما حدث مع القطاع العام) حتى تتساقط وحدها ، وكذلك تجميد الميزانيات وربطها نسب زيادتها بالتضخم (وأحياناً عرقلتها في مقابل التضخم) و تشديد القبضة البيروقراطية على المسرح  و التغاضي عن التضخم غير المتوازن للكتلة الإدارية في مقابل العناصر الفنية التي لم يتم تدريبها أو تحديثها .. الخ... وبشكل موازي فتح منافذ بديلة للعناصر الفنية تحقق لهم  المرونة الكافية لتنفيذ أعمالهم من ناحية وتتيح للدولة التخلص من عبء دعم المسرح من ناحية أخرى.
ربما يمكننا أن نلمح في كافة المؤسسات المسرحية التابعة للدولة ذلك الحضور الطاغي لتلك الملاحظة حتى اليوم لكن مسرح الثقافة الجماهيرية تعرض ولم يزل يتعرض للعديد من المؤثرات التي تتضافر مع ذلك الخنق التدريجي للدعم المقدم من الدولة للمسرح لتزيد من مشاكله وأزماته  .. فخلال عقد الألفية صدم مسرح الثقافة بعدد من الصدمات القوية و العنيفة لعل أبرزها حريق بنى سويف الذي أسس لشق عميق ومؤلم بين المسرحيين و الدولة ، كما أدي الحريق لوفاة الكوادر الأكثر تأهيلاً لقيادة الظاهرة المسرحية في الأقاليم و الدفاع عنها .
لقد شكل حريق بني سويف نقطة فاصلة في تاريخ أدارة المسرح ثم تضافرت الظروف (والخيارات الخاطئة لكثير ممن تولوا تلك الإدارة) في تفتيت ما تبقي منها ليصل الأمر بها في النهاية لوضع ضبابي وملغز.
كذلك فإن صعود التيارات الدينية المحافظة و سيطرتها على الحكم (ثم سقوطها) شكل ولم يزل ضغطاً حقيقياً على المسرح بشكل عام (وفي الأقاليم الأكثر سخونة بشكل خاص).
وهو ما يعني أنه لن يقدر للمسرح الإقليمي (حتى لو وصلنا لوضعية استقرار سياسي مؤقتة) إمكانية الوصول لوضعية أفضل من وضعيته الحالية.
فالصراع العنيف الدائر حالياً على المستوي السياسي بين القوى اليمينية لا يشي بمستقبل مختلف عن ذلك الذي كانت تعده الدولة للمسرح منذ بداية عقد الألفية.. بل سوف يزداد انسحاب الدولة تدريجياً و ستتسارع وتيرته في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والارتفاع التدريجي للأصوات المنادية بوقف الدعم بأشكاله المختلفة (صحية ، ثقافية ..الخ ) وهي الأصوات التي تعالت في التسعينيات وتزايدت خلال عقد الألفية لتصل لمداها الأقصى خلال العامين السابقين .
ربما يبدو الحديث هنا مبتعداً عن القضايا الفنية التي تستحق أن يتم التوقف عندها.. لكن واقع الحركة المسرحية خلال الأعوام الماضية وعمليات التقليص للميزانيات (حتى لو ارتفعت ظاهرياً وهو ما لم يحدث) وما ساد داخل أروقة الهيئة العامة لقصور الثقافة من دعاوى تتبناها قيادته والتي تقوم على اتهام المسرحين بالفساد المالي.. كل ذلك لم يؤدي (ولن يؤدي بالتأكيد) إلي  تحرك حقيقي لتبديل الظروف الإنتاجية أو انتزاعها من وضعية الفساد المالي و الإداري أو تخليص المسرح من ثقل الجهاز الإداري المتضخم  أو تآكل البني الأساسية (المسارح .. أجهزة الصوت والإضاءة ..) .
إن الهيئة تقوم بخنق متزايد للظاهرة المسرحية في الأقاليم وهو ما يؤثر بالتأكيد على المستوي الفني للعروض و على قدرتها على تحقيق تنافسية جمالية .. حتى لو أستطاع بعض المخرجين التحايل على الظروف العصيبة وتخليق حلول تقنية وجمالية تحول فقر المواقع و ضآلة الميزانيات إلي دافع للابتكار (كما شاهدت هذا الموسم في الصعيد). ففي النهاية يظل المسرح الإقليمي نشاط خدمي تتكفل به الدولة لتحقيق مجموعة من الأهداف التنموية (إلي جانب الترفيه بالتأكيد) بالأقاليم المختلفة وهو ما يعني بالضرورة أن تخلي الدولة أو تقلصيها لحضورها  أو تبديلها لخططها (أو قائمة أهدافها) يستتبع بالضرورة أما انهيار ذلك المسرح أو تحول نظامه الإنتاجي ليتناسب مع التوجهات الجديدة .. وهو ما لم يحدث وبالتالي يظل التراجع و الجمود و التآكل هو السمة الرئيسية للمسرح الإقليمي ويزداد تفسخ الأشكال الإنتاجية (قصور- قوميات - بيوت) التي تم تأسيسها على أنها مراتب إنتاجية و فنية لكنها وصلت  - نتيجة لتدني الميزانيات - إلي حد  يصعب معه على المتلقي أن يجد فروقاً حقيقية بين عروض القصور والبيوت على سبيل المثال .. وهو ما تضافر مع تآكل تلك الفرق و ترهلها وانعدام قدرتها على القيام بالأدوار التي اسست لتقوم بأدائها نتيجة عدم تحديثها المستمر.
وبالتالي تصبح كافة المحاولات التي تقوم بها الإدارات المتتابعة والأفكار (الإبتكارية !!!) التي تتبناها الإدارة تدور في فلك من أثنين:-
أولهما ينطلق من محاولة تشديد القبضة الرقابية عبر قواعد تحاصر الأعراض الجانبية للأزمة الإدارية و المالية وتتجاهل المسببات أو تتعامي عنها لعدم قدرتها على مواجهة خيارات الدولة الاقتصادية وسياستها التي تقلص الدعم و تجففه تدريجياً..
وثانيهما قائم على محاولة تحديث للأشكال الإنتاجية بمعزل عن القواعد الإنتاجية التي لا تضعها و لا تحاول فرض شروطها (أو مطالبها) حتى على مستوي الهيئة.
في النهاية ربما لا يوجد سوى حل من أثنين (على الأقل من وجهة نظري) الأول ان تترك الأمور على وضعها الراهن في انتظار قرار من الدولة بمزيد من التقليص للدعم (تحت أي مسمى) أو حدوث المعجزة وأن تقوم الدولة بتدعيم المسرح ..

إما الحل الثاني فهو أن يحاول مسرحي الأقاليم (وبدعم من الإدارة) الدفاع عن مصالحهم (كجماعة).. وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه.

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...