في
زمن بعيد بعد أزمنة الأساطير و التواريخ القديمة وبالتحديد في تلك اللحظات السابقة
على ثورة 25 يناير .. كان المسرح المصري يحمل خطاب مفعم بالإحباط واليأس وفقدان
الأمل في التغيير.. بل أن العروض التي كانت تحمل بعض من النزق ثوري.. كانت تحاصر
بخطاب نقدي يتعامل معها كتعبير عن مراهقة سياسية غير قادرة على الإمساك بالعالم الأبدي
/المغلق والمنتهي الصلاحية الذي كانت تؤسسه وترسخ لوجوده قبضة نظام قديم قدم الدولة المصرية الحديثة بكل
ثقلها وحضورها الضاغط... وكان ذلك الخطاب النقدي ينطلق من كون هذا النظام يعتمد على
الطبقة الوسطى - ويمثلها في المؤسسات التي تهيمن عليها الجيش و الشرطة و الأزهر ..
الخ - لتأكيد وجوده المادي و ترسيخ ذاته كتجسيد للدولة الوطنية الحديثة التي تتوزع
سلطاتها بين تلك المؤسسات... لكن أحداً لم يكن ينتبه في ذلك الوقت أن المسرح
المصري نفسه – بطبيعة تكوينه – أحد مؤسسات ذلك النظام وأنه في النهاية لا يعبر إلا
عن خطاب تلك الطبقة المهيمنة... وأن ذلك الإحباط و هذا اليأس لم يكونا في النهاية
سوى خطاب تم تشكيله من خلال (كما أسهم في تشكيل) خطاب تلك الطبقة المنزعجة التي
كانت تشعر بتعاظم المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على مصالحها و مصالح
الدولة المصرية... وهو ما يعني أن خطاب الهزيمة كان أكثر التعبيرات الثورية الداعمة
والدافعة لتلك الحركة الاحتجاجية الواسعة و المستمرة التي تسود المجتمع المصري منذ
25 يناير.. فالثورة خرجت من رحم اليأس المصطنع .. ولم تخرج من رحم العروض
التبشيرية ... لقد كانت سيادة تلك الأفكار المؤكده على اليأس أحد أهم الدوافع
للطبقة للتحرك بقوة وعنف لحماية مصالحها وترسيخ وجودها.
وربما
يكون لعودة ذلك الخطاب إلي المسرح المصري
بالتدريج بعد موجة العروض الاحتفالية و القلقه التي سادت خلال الفترة الماضية جزء
من تعبير تلك الطبقة عن تلمسها لواقع الهزائم
و النكبات التي تضرب مسارها وهي تتحرك دفاعاً عن ومصالحها ... ودافع لها للاستمرار في حركتها الاحتجاجية الواسعة و
المستمرة ضد قوى اليمين والقوي المجتمعية المحافظة التي لم تزل مهيمنة على معظم
الفئات والطبقات الاجتماعية بداية من الفلاحين والنظم القبلية المحافظة ونهاية
بحثالة الطبقة العاملة التي يطلق عليها أحياناً البلطجية.
إن
عرض (حلم بلاستيك) لفرقة (أتليه المسرح الصغير) والمخرج والمؤلف شادي الدالي الذي
عرض يوم 22/7 في بيت السنارى بالسيدة زينب نموذج لما نتحدث عنه هنا .. فنحن أمام
عرض يؤسس لخطاب يائس يكتسب قيمته من هدم كافة الخطابات التي تناهض مشروع تلك
الطبقة بل و مناهضة خطاب تلك الطبقة ذاته لتأكيد انسداد الافق وعدم وجود أمكانية
لتجاوز تلك اللحظة المفعمة بالفشل .
ويمكن
أن نلحظ ذلك منذ بداية العرض من خلال انتفاء وجود أي ملامح لبنية درامية متماسكة
ومتصاعدة.. واستبدالها بإطار مكون من مجموعة الشباب الذين يقومون بتشكيل و هدم - و
أعادة تشكيل- شبكة من العلاقات و البنى
الحكائية الصغيرة من خلال استخدام تقنية
البوح والحكي على امتداد العرض .. وكذلك نفي أي إمكانية لطرح أي حل.. أو أمكانية
لمجاوزة تلك الرؤى المعتمة التي يطرحها العرض.. للحد الذي يجعل من النهاية تبدو
مفاجئة للمتفرج.. أو التي تجعل من العرض مجموعة من اللوحات التي لا ينظمها أي شيء
غير تجاورها.
وبالتالي
فإن العرض يطرح ذاته كمجموعة من اللوحات الدرامية المنفصلة التي لا يوجد بينها من
رابط واضح سوى عرضها لمشاعر الإحباط واليأس لمجموعة شباب من واقعهم داخل وطنهم من
ناحية.. وتحطيمهم لأي أمكانية لتوليد حلم بديل عبر تحطيم العرض لأسطورة الحياة
المثالية في الغرب...
ويتجلى
ذلك من خلال إصرار العرض على نفي كافة القيم التي يطرحها الواقع ويؤسس لها - ويدعمها
- سواء تلك التي يطرحها الخطاب الديني أو التي يطرحها الخطاب الثقافي الغيبي (مثل
مشهد الشبشب المقلوب) أو حتى الذي تطرحه الطبقة البرجوازية التي ترى في نموذج
الغربي نموذجها المثالي (مشاهد السعادة بالنسبة للشاب الغربي و المؤتمر الصحفي
المشترك و بين الرئيس المصري و الرئيس الغربي .. الخ)
إن
ذلك اليأس البادئ لا يدمر كما يطرح مشروع تلك الطبقة لصالح عدمية بلا أفق بل يظل
حاملاً في داخله لخطاب إصلاحي يري إمكانية تغيير ذلك الواقع و إعادة تشكيله من
خلال مناقضة كافة تلك الخطابات لصالح مجتمع تهيمن عليه رؤى هؤلاء الشباب التي تقوم
على مناهضة الغيبيات التي تقيد العقل و مناهضة الصورة التقليدية للمرأة في المجتمع
وأخيراً التحرر من المركزية الغربية لصالح مشروع بديل .. ليس في حقيقته إلا مناهضة
لمشروع قوى اليمين المحافظة
إن
العرض يؤكد على ذلك الطرح من خلال كافة عناصره بداية بالأداء التمثيلي الذي يستخدم
فيه المخرج المجموعة ككتلة تشكيلية وأصوات للخطابات الاجتماعية المحافظة في مقابل
شخصية(أو شخصيتان) تبوح باغترابها (أو مركزيتها)
في كل لوحة درامية سواء عبر تحولها
إلي مركز للهجوم من خلال الضغط المباشر للخطابات عليها أو عبر بوحها بمشاعر الاغتراب
عن واقعها .. أو حتى بتأكيدها على مركزيتها كما في مشهد مونولوج (المال)..
وبالتالي
فإن الأداء التمثيلي في العرض ليس قائم على تجسيد شخصية أو نمط.. بل القفز بين
خطابات من خلال الممثل الحاضر كمؤدي حامل لتلك الخطابات.
ولعل
ذلك الاستخدام للمثل كصوت للخطابات أنعكس على حضوره كوحدة تشكيلية مركزية في
الفضاء الفارغ غير المشغول بأي وحدات تشكيلية عدا قطعة قماش سوداء قام الممثلين
باستخدامها لتشكيل المشاهد سواء عبر تحريكها أو عبر لفها حول أجسادهم لتشكيل وحدات
تشكيلية خلف الشخصية المركزية في كل مشهد .
إن
ذلك الحضور الدائم و المستمر للممثلين ( سمر جلال،فهد ابراهيم، أحمد يحيى، أسماء أبو اليزيد ،راندا
عصام، محمد مسعد، محمود
سامى، وئام عصام، رنا حمدى، ربا شريف) ربما كان أحد
أهم عناصر تشكيل خطاب العرض إلي جوار النص .. فحضورهم كشباب يعانون من ثقل الواقع
و قسوة الخيارات التي يطرحها عليهم و رفضهم لكافة تلك الخطابات ومشاعر اليأس التي
يقومون بتسريبها عبر سخريتهم و دموعهم و حماستهم و غنائهم كانت هي الحامل الأساسي
للعرض.
ولكن
وفي النهاية يظل العرض قابع في مرحلة البوح.. في مرحلة الرفض و المناهضة لكل ما
يطرحه الواقع عليهم من خيارات.. دون حتى محاولة التفكير أو التحليل لتلك الخطابات
و ما تمثله وما تحميه أو تدعمه مثل مشهد ذكر مميزات الحياة في مصر التي يشارك فيها
جميع الممثلين و مناهضة تلك المميزات بذكر خطاب مناهض يتناول نقض تلك المميزات..
فالعرض يتوقف عند حد العرض للخطاب و نقضه دون التفكير بالقوى الحامله لذلك الخطاب
و القوى التي تكتسب سلطاتها من وجود ذلك الخطاب .. الخ.
ولكن
ورغم كل ذلك يظل العرض – ورغم اعتماده على البوح دون تأمل أو تفكير ما يتم البوح
به – معبراً عن رغبة فئات اجتماعية في استمرار الخط الاحتجاجي (أو الثوري) للطبقة
الوسطي عبر تخليصها من الخطابات التي تدفعها للسكون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق