السبت، يونيو 01، 2013

مسرح الأقاليم وكيفية النهوض به المسرح خدمة عامة

"ورقة مقدمة للمؤتمر القومي للمسرح (2013) كمساهمة في محور المسرح الأقليمي (مسرح الأقاليم وكيفية النهوض به)
قدمت الورقة في اليوم الثني من أيام المؤتمر الثلاثاء الموافق 28/5/2013

تلتزم الدولة في العادة بالقيام بمجموعة من المهام الأساسية تجاه المجتمع .. وبالتأكيد فإن تلك المهام تطور و تتبدل مع التطور التقني من ناحية و طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي والثقافي من ناحية أخرى.
فعلى سبيل المثال كانت الدولة المصرية في العصر الفرعوني تتحمل التزامات حماية الحدود و توزيع حصص مياه النيل بين الأقاليم والقرى و تجهيز الطرق وحمايتها من اللصوص ورعاية الحياة الروحية من خلال الدور الديني الذي كان يقوم به الفرعون في حياة المجتمع.
إما اليوم فلقد أصبحت الدولة الحديثة ملتزمة بمجموعة من المهام أكثر تنوعاً و تشعباً.. فلقد أصبحت الدولة تقدم خدمات عامة أكثر تنوعاً بداية من الصرف و المياه و الكهرباء وكذلك الخدمات الأمنية والصحية والمجتمعية المتنوعة التي تصل للأقصى مستوياتها في دول الرفاه وتنحدر لأدني مستوياتها في دول العالم الثالث التي تفقد فيها الدولة قدرتها على القيام بأي من مهامها وبالتالي تتدخل الدول - وقوي المجتمع المدني- الغربية لتحمل بعضاًَ من تلك المهام لأهداف متنوعة و بأساليب  أكثر تنوعاً .
ولكن تلك الخدمات ترتبط أيضاً بشكل مباشر بالنظم الاقتصادية السائدة.. فكلما مالت الدولة إلي الاضطلاع بدور أكبر في الحياة الاقتصادية للمجتمع أزاد بالمقابل حجم الخدمات التي تلتزم الدولة بتقديمها للمجتمع ، وعلى العكس فكلما مالت الدولة للانسحاب وترك الساحة أمام الحياة الاقتصادية لتنمو بشكل حر كلما تقلص حجم الخدمات التي تلزم الدولة نفسها بأدائها للمجتمع .. ولكن سواء أمالت الدولة لذلك النظام (أو ذاك) فإنها تظل ملزمة بالقيام بدورها الأساسي الذي تكتسب عبره شرعية وجودها.
من هنا أصبح من الطبيعي أن يثار التساؤل حول دور الدولة في دعم الخدمة الثقافية للمجتمع.. وحجم ومساحة هذا الدعم وحدود العلاقة بين الدولة كسلطة والخدمات الثقافية.
وخلال العقود الماضية و مع تفكك المنظومة الاشتراكية والصعود السريع للنموذج الرأسمالي الأمريكي تبنت الكثير من الدول ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالعمل الثقافي أفكار تري في قيام الدولة بدعم العمل الثقافي بشكل مباشر خطر حقيقي على حرية الإبداع من ناحية و تعويق للنمو الطبيعي لاقتصاديات السوق الحر التي ترى أن الدولة يجب عليها حسر نفوذها قدر الإمكان لتمكين الرأسمال الحر من النمو وذلك في مقابل تحميل تلك المؤسسات الرأسمالية بعضاً من المهام التقليدية التي كانت تقوم عليها الدولة كما يمكن أن نجد في حالة مؤسسات اقتصادية عملاقة  كفورد و مايكروسوفت وشل .. الخ التي تبنت الكثير من المشروعات التنموية للمجتمعات الأقل نمواً لأهداف متنوعة بداية من تخفيض حجم الضرائب و تبيض ساحة تلك المؤسسات ، من اتهامات الاحتكار و تلويث البيئة و الاستغلال ، ونهاية بتجهيز أسواق جديدة وفتحها عبر تشكيل احتياجات لدى تلك المجتمعات عبر عمليات التنمية البشرية و الاقتصادية والثقافية.
ولكن وإنصافاً لدور المجتمع المدني فإن هناك مجموعات داعمة تهدف لتخليص المجتمعات التقليدية مما تراه أسباب تخلفها ومظاهر رجعيتها التي تسهم في قمع الأقليات العرقية و الدينية و بالإضافة للنساء و الفقراء بشكل عام لصالح جماعات مستغلة تستفيد من عدم وعي تلك الجماعات بحقوقها .
وبعيداً عن تقييم مدى نجاح تلك الجمعيات و المؤسسات... فإن الملاحظة الأساسية التي يمكن لنا الخروج بها من تلك الأدوار التي تقوم بها المؤسسات والجمعيات هي محورية العمل الثقافي بالنسبة لها.. مما يعني بالضرورة أن الخدمات التنموية للمجتمعات المحلية ظلت تدور في فلك الخدمات الثقافية حتى لو اتخذت صورة خدمات صحية أو توفير مصادر مياه نظيفة أو حملات التوعية بالحقوق المدنية و السياسية..الخ.
وحتى لا نبتعد كثيراً عن مجال عملنا هنا سوف نقوم بإعادة تدوير كافة تلك الأفكار (حول العمل الثقافي ومصادر تمويله وأدواره التنموية للمجتمعات المحلية.. الخ ) من منظور دور المسرح الإقليمي و كيفية النهوض به للقيام بأدواره الثقافية والتنموية و الجمالية داخل المجتمعات المحلية في كافة أرجاء مصر.
بالنظر للحالة المصرية يمكن للملاحظة العابرة أن تكشف لنا مدى ضخامة دور الدولة المصرية في دعم المسرح كخدمة عامة.. فسواء تحدثنا عن الدعم المباشر و المركزي (الذي تقوم به الدولة ممثله فى جهاز قصور الثقافة)أو في الأدوار غير المباشرة التي تقوم بها الدولة (في دعم فرق المستقلين والهواة بالمراكز الحضرية) فإن النتيجة النهائية هي الجزم بأننا أمام دولة تقوم بدعم الخدمة الثقافية عبر المسرح بشكل كامل تقريباً .. خصوصاً في ظل تراجع دور قوى الرأسمالية الوطنية التي لم تهتم تاريخياً (إلا في حالات محدودة ) بالقيام بأي دور في مجال الدعم التنموي للمجتمع ، سواء لمحدوديتها وهزالها التاريخي أو لعدم وجود ثقافة مجتمعية تدعم العمل العام .
كذلك فإن الدولة المصرية نتيجة لهيمنة القوي الدينية على المجتمع المدني في مصر (في مجملها) - وهي قوى لا تهتم بدعم أي عملية تنمية ثقافية إلا بما يتفق مع رؤاها الرجعية والمنغلقة-  كان لابد لها من القيام بذلك الدور في دعم الخدمة المسرحية في الأقاليم.
وأخيراً فإن الدولة المصرية الحديثة ومنذ نشوئها علي يد محمد على ظلت تدور في إطار الدور الذي رسمته لنفسها وهو الهيمنة على الفضاء العام ومد سلطتها لكافة الأقاليم عبر الأدوار القمعية و التنموية التي كانت تقوم بها.. وذلك لتحقيق عدد من المهام أولها تحقيق التنمية السريعة و المستدامة للمجتمع المصري للحاق بالمركز الحضاري الغربي . وثاني تلك المهام هي تحويل كافة القوي المجتمعية لتتحول إلي عناصر في بناء و دعم الدولة.
وكان يقود كل ذلك الخوف التاريخي من السقوط من جديد في عصر ما قبل الدولة الحديثة بكل ما فيه من فوضي و تراجع لسيطرة الدولة على الأقاليم.
من هنا كان المسرح الإقليمي أحد الأسلحة التي اعتمدتها الدولة في تنمية المجتمعات المحلية وتحقيق الهيمنة الثقافية و السياسية على الأقاليم لصالح المركز القاهري على وجه التحديد.
من هنا فإن صعود و ازدهار النشاط المسرحي في الأقاليم  لم يتحقق بشكل كامل إلا مع تركيز الدولة على تفعيل المسرح كخدمة ثقافية وتنموية للأقاليم  في الستينات بعدما كانت الدولة قد نجحت في توطينه خلال النصف الأول من القرن العشرين بالمراكز الحضارية والثقافية (القاهرة و الإسكندرية) ، فقبل الستينات كان النشاط المسرحي مقتصراً على فرق الهواة المحدودة التأثير التي كانت تظهر وتختفي في عواصم المحافظات ولم يكن هناك من دعم حقيقي لتلك الفرق سوى الجولات المتباعدة التي كانت تقوم بها الفرق الكبري لتلك المحافظات.
لم يكن هناك من إمكانية لنمو مجتمع مدني داعم للمسرح الإقليمي في ظل وضعية مثل تلك سواء في الستينيات وما بعدها أو ما قبلها .. وبالتالي فإن الدولة المصرية هيمنت واحتكرت مجال المسرح الإقليمي في ظل عدم وجود من يقوم عليه أو ينازعها في السيطرة عليه من ناحية، وفي ظل الأهداف العامة و الرؤية التي قامت عليها من ناحية أخرى.
ربما يمكننا الآن الاقتراب أكثر من تلك الوصفات التي شاعت خلال الفترة الماضية للنهوض بالمسرح الإقليمي للقيام بدوره.
أول تلك الوصفات وأقلها تداولاً يقوم على سحب سلطة الدولة وفتح الباب أمام المجتمع المدني للقيام بالدور الرئيسي في دعم وتنمية المجتمعات المحلية.. وهي الرؤى التي يدفع بها التيار الديني المحافظ و التيارات الأكثر تطرفاً في اليمين الرأسمالي.. ولكن المخاطر التي تحيط بتلك الوصفة كبيرة وغير مضمونة العواقب ولن تؤدي في الأغلب إلا لتراجع كبير وحاد في حجم الإنتاج المسرحي وتآكل كبير في الأرضية التي يعمل عليها الناشطون المحليون ... وذلك لأسباب مختلفة ومتنوعة بداية من أن رهان تلك القوي الداعمة لمثل تلك الوصفة يقوم على محاصرة و تحديد مجال عمل الظاهرة المسرحية للسيطرة علي خطابها ، أو التحكم في اقتصادياتها لصالح مجموعات محدودة.
كذلك فإن تلك الوصفة تتجاهل الدور السلبي الذي قامت به الدولة عبر تاريخ دعمها للنشاط المسرحي في الأقاليم حيث ساهمت بشكل كبير في تقليص أي امكانية لنمو جماعات مسرحية خارج سيطرتها لاحتكارها البنية الأساسية (دور العرض) ومصادر التمويل.
وأخيراً فإن تلك الوصفة تقوم على تجريد يفترض وجود قوي مجتمعية إقليمية يشكل الفن المسرحي جزء من ثقافتها وهو شيء أثبتت التجربة فشله.. فالرهان الممكن طوال الوقت هو الرهان على العناصر المشاركة في النشاط وليس أكثر من ذلك.
إما ثاني الوصفات فإنها الوصفة المنطلقة من أن الحفاظ على المكتسبات أهم من محاولة التفكير في المستقبل وهي الوصفة التقليدية التي ترى أن الحفاظ على وضع المسرح الإقليمي بصورته الراهنة هو أفضل الخيارات الممكنة (مرحلياً على الأقل) ، لكن مشكلة تلك الوصفة هي أنها تدعو لتثبيت وضع هو بحكم الواقع في مهب سيل من المتغيرات التي تجرفه يوماً بعد يوم نحو هاوية مظلمة سواء أكانت تلك المتغيرات سياسية أو ثقافية .. الخ.
أخر تلك الوصفات وأكثرهم رواجاً منذ بداية التسعينيات هي الداعية إلي تفعيل دور الأقاليم و تقليص الدور المركزي للدولة في العمل الثقافي لصالح تنمية أدوار نشطاء المجتمع المدني / المسرحي ، ولكن مع الحفاظ على التزام الدولة بتقديم الدعم للمسرح الإقليمي على أنه خدمة عامة للمجتمع المحلي... لكن مشكلة تلك الوصفة الحقيقة هي عدم وجود نسق قانوني وتنظيمي يمكن أن يوفر القاعدة لمثل تلك الوصفة للنمو الطبيعي وبالتالي فإن عمليات نموها في ظل الشكل الحالي لجهاز الثقافة الجماهيرية لم ينتج غير تجارب ناجحة محدودة و تشوهات بالجملة.
وعليه يمكننا في النهاية أن نستخلص من كل ذلك مجموعة من الأفكار محدودة و غير مكتملة نتيجة للظرف السياسي والاقتصادي الذي تمر به الدولة المصرية والذي يصعب التنبؤ بمستقبله وأثره على المسرح الإقليمي.

1- إن أول ما يمكن أن يسهم في تحقيق نهضة للدور التنموي الذي يقوم به المسرح الإقليمي هو التفاف المسرحيين حول ذلك الشعار الذي أطلقه جان فيلار في منتصف القرن العشرين بفرنسا (المسرح خدمة عامة) خدمة تلتزم الدولة بها تجاه المجتمعات المحلية لتحسين أوضاعها و مجابهة العناصر الثقافية التي تدعم القمع و الظلم الاجتماعي لفئات أو طبقات أو لأشخاص بناء على انتمائهم العرقي أو الديني أو الثقافي أو الجنسي.
2- إما ثاني الأفكار التي يمكن لنا طرحها في هذا السياق فهو التأكيد على أهمية تنشيط المسارح الإقليمية عبر رفع الهيمنة المركزية التي تفترض في نفسها القدرة على تحديد المعايير والضوابط المحددة للمسرح الإقليمي.. ولعل المثال الأكبر لذلك هو الدور المتعالي للمركز في تحديد مفهوم المسرح الإقليمي ومحاولة قصر نشاط المسارح الإقليمية على أنماط بعينها من المسرح مثل المسرح الشعبي أو التيمات المحلية في تجاهل واضح للتمازج الدائم و المستمر للثقافات المحلية مع عناصر ثقافية تخترقها طوال الوقت. إن إجبار المسرح الإقليمي على الخضوع للرؤية المتعالية والطوباوية للمركز (الذي يعتقد بوجود ثقافة محلية نقية )أسهم لسنوات في تحديد قدراته وحصره.
3-   إعادة تنشيط الدور الذي تقوم به إدارة المسرح كإدارة ذات دور تنسيقي وتنموي.. فإذا كنا نفترض الحفاظ على دور الدولة فإن إدارة المسرح تمثل وجه الدولة الأكثر تماشياً مع ذلك الدور خاصة إذا ما تم تنشيط للأفكار التي طرحت من خلالها (وبها) منذ بداية التسعينيات والتي أسهمت في بناء نواة لناشطين مسرحيين من ناحية ، وكذلك إذا ما تم تحجيم الأفكار الرقابية التي تطفو بين الحين والأخر بها في صورة ضوابط غير ناجعة في تحقيق أي أثر على مستوي تحجيم الفساد المالي بل أنها تؤثر على المستوي الفني بالسلب.
4- ربما كان من الضروري التأكيد على أهمية دعم و تحفيز تجربة نوادي المسرح كنموذج مثالي للمسرح الإقليمي الذي يتيح الفرصة لفئات الشباب بالأقاليم للتعبير عن رؤاهم للعالم بحرية وبدون الخضوع للقواعد الرقابية المنغلقة.
5- ربما أصبح من الضروري الشروع في معارك لتعديل الوضع الإداري والقانوني والمالي الحاكم للنشاط المسرحي الإقليمي لتحقيق قدر من التوافق بين واقع الظاهرة المسرحية في الأقاليم التي أثبتت تجربة نوادي المسرح أنها لا تنمو إلا في ظل علاقة متوازنة بين الفنان الإقليمي و الإدارة بما يتيح له الحرية من ناحية ويحقق للإدارة القيام بالدور التنموي الخدمي الذي تقوم عليه من ناحية أخرى .
6- من الطبيعي أن يسود إيمان بأهمية تفعيل آلية لتنمية التجارب الناجحة و دعمها مالياً و فنياً ...
7- ربما كان من اللازم العودة من جديد للحديث عن أهمية الحفاظ على الطاقات البشرية الموجودة بالفرق التابعة لهيئة قصور الثقافة (بيوت – قصور - قوميات) من ناحية وتنميتها ودعمها عبر تدريبها ،وكذلك تطوير شكل وآلية أنتاج تلك الفرق بما يؤهلها لتصبح فرق حقيقية وليست جماعات محدودة بعرض سنوي.
8- أخيراً ربما كان الاستعداد لتقشف طويل وقاسي (منطقياً في ظل الظروف الحالية) بسبب شروع الدولة في سحب التمويل عن مشروع المسرح الإقليمي عبر تنمية أساليب للتعامل مع ذلك الواقع سواء أكان ذلك في صورة دمج لفرق وتفتيت لميزانيات لإنتاج عروض أكثر أو في صورة الصراع مع الدولة لإجبارها على القيام بدورها.  
9- أثبت الأحداث خلال الفترة الماضية وجود تنوع كبير في مستويات التعليم والطبيعة الاقتصادية والثقافية بين الأقاليم ومن هنا فمن الضروري تشكيل كيانات إقليمية مساعدة وداعمة للإدارة في تحديد طبيعة الدعم المسرحي الموجه لكل إقليم وطبيعة الأفكار التي يجب أن تسود العروض التي تقدم داخل ذلك الإقليم . 

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...