ربما
كان من المنطقي أن يتراجع الحديث عن المسرح في ظل تلك العواصف التي تزلزل الوطن
وتقسمه بين قوي دينية ومدنية.. وربما كان من الطبيعي أن تبدو مشكلات الفن المسرحي
محدودة وهامشية و مترفة إذ ما قورنت بالدم الذي يسفك في مدن مصر منذ إصدار الرئيس
للإعلان الدستوري.
ولكن
أليس من الجائز وسط كل تلك المخاطر التي تحيط بالوطن أن نتوقف قليلاً أمام موقع
المسرح داخل تلك الشبكة الكبيرة و المعقدة التي يتشكل منها واقعنا المضطرب بما
يسهل علينا اكتشاف موقعنا كمسرحيين من ذلك الصراع الدموي الذي يمزق الوطن
والعلاقات التي تربطنا بكافة أطراف الصراع من ناحية والإمكانات التي يمتلكها المسرح كفن
للتأثير بذلك الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي المحتدم حالياً والذي ستنعكس على
المسرح والفنون بشكل عام نتائجه بشكل أسرع مما يتخيل أي أحد .
بالتأكيد
إن محاولة الإمساك بتلك العلاقات التي تربط الظاهرة المسرحية بالواقع أمر يحتاج
إلي عملية رصد ثلاثية الأبعاد مترابطة ومتكاملة تمتد من بعد العملية الإنتاجية
وأنماط الإنتاج المسرحية المعتمدة و توجهاتها و السلطات التي تحكمها وتسيطر عليها
وأثرها في عمليات تشكيل المنتج المسرح جمالياً والدور الذي يقوم به على المستوي
الاجتماعي .
بينما
يتشكل البعد الثاني من العلاقة التي تربط بين المجتمع المصري بالظاهرة المسرحية و
مدي تجذر تلك الظاهرة داخل المجتمع وهو ما ينعكس على حجم الظاهرة ومجال انتشارها...
والخطابات الاجتماعية المحيطة بتلك الظاهرة.
وأخيراً
يتشكل البعد الأخير من علاقة الظاهرة المسرحية مجموعة من القيم و التوجهات
الاجتماعية و الثقافية السياسية ذات طبيعة تقدمية وتحررية ومدنية.. وذلك في مقابل
عدائيتها للقيم المحافظة والرجعية والريفية/ البدوية ..الخ.
ومن
خلال تلك الأبعاد الثلاثة يمكننا أن نعين موقع تلك الظاهرة الفنية والاجتماعية
التي نطلق عليها (مسرح) داخل شبكة العلاقات الاجتماعية و الثقافية والاقتصادية...
الخ. ومن خلال ذلك التحديد لموقع المسرح يمكننا أن ندرك ما هو دور المسرح في تلك
المرحلة ؟وما هي المخاطر التي تكتنف وجوده وتهدده ؟وما هي القوي التي تعاديه ؟وما
هي تلك القوى الداعمة له؟ وما هي الأسلحة المتوافرة له في مواجهته لتلك المخاطر ؟
وبالتأكيد أن نجيب على السؤال الخاص بدور المسرح في تلك المرحلة المضطربة من تاريخ
الوطن ؟
ربما
يبدو للمدقق صعوبة تحقيق عملية الرصد لتلك الأبعاد الثلاثة التي أشرنا إليها..
فالأمر يحتاج لمتابعة وتحليل لبيانات و دراسة لوقائع وميزانيات وتحليل لخطابات ..
الخ.
لذلك
سوف نخفض من سقف طموحنا هنا ونكتفي بدراسة نموذج مثالي ألا وهو نوادي المسرح. حيث
تتميز ظاهرة نوادي المسرح بأنها نموذج مثالي وناجح للغاية، فلقد استطاعت في سنوات
عمرها القليلة أن تخلق لنفسها مسار في تاريخ المسرح المصري، وأن تكون مركزاً
لتقديم مخرجين موهوبين وممثلين... الخ. والأهم من ذلك أنها قد استطاعت المرور من
حيز الهامش إلي مركز الظاهرة المسرحية مع ازدياد الاهتمام النقدي بشكل تصاعدي..
كما نجحت في تخليق أساطيرها الخاصة.. سواء بالنسبة لمنتجي العروض أو عند متلقيها
من النقاد والمهتمين .. لقد صارت جزء من المسرح المصري مثلها مثل مسرح الثقافة
الجماهيرية (الشرائح) ومسرح الدولة، و مسرح المستقل... حتى لو ظلت إدارة المسرح
تتعامل معها على أنها مجرد هامش لنشاطها الأساسي المتمثل في الشرائح الإنتاجية
(القوميات والقصور والبيوت).
وعبر
كل ذلك يمكننا أن ندرس البعد الأول للظاهرة وهو البعد الإنتاجي.. حيث ساهم نمط
الإنتاج البسيط والأولي الخاص بظاهرة نوادي المسرح في تشكيل وتحديد الكثير من
السمات الجمالية التي صارت من مميزات نوادي المسرح.. فالإنتاج يقوم على دعم بسيط
وأولي لخامات الديكور والملابس وبالتالي فهو يحدد نوعية المساهمين في العرض ، كما
يدفع بالمخرج لاستغلال خياله وكافة العناصر
المتوافرة تحت يديه لتشكيل العرض ، وأخيراً فإن الإدارة (الإنتاجية) حافظت بشكل
واضح ولزمن طويل على قصر السلطات المشكلة للعرض في لجان من المتخصصين بعيداً عن
أيدي الإداريين أو رجال الرقابة أو الجمهور العام .. وبالتالي فلقد أصبحت التجربة
المسرحية الخاصة بنوادي المسرح تتميز بقدر عال من الجمالية للدرجة التي أزعجت
الكثير من المتابعين الذين نعتوها بالبعد عن المتلقي أو التشبه بعروض مهرجان
المسرح التجريبي.. أو بعدها عن مشروع الثقافة الجماهيرية.. الخ.
وبالتأكيد
فإن ذلك النمط الإنتاجي أصبح جاذباً لفئات بعينها و لعناصر طالما كانت طريدة النسق
المسرحي فهم ليسوا أعضاء بالفرق المسرحية بالهيئة العامة لقصور الثقافة أو هم
أعضاء مهمشين بسبب صغر سنهم وحداثة عهدهم بالفرق .. الخ .
إما
البعد الثاني الذي سبق أن قدمنا له والمتعلق بحجم الظاهرة اجتماعياً تجذرها فبالتأكيد فإن ظاهرة نوادي المسرح لم تكن في
يوم من الأيام ذات اهتمام بالجمهور ، فالجمهور المستهدف هو العاملين بالحقل
المسرحي فهي تنتج في إطار تنافسي بين الفرق
بداية من اختيار المشاريع التي سيتم إنتاجها مروراً بالتسابق الإقليمي
ونهاية بالتسابق على مستوي الجمهورية .. ومن هنا فإن اختيار المشروع و بناء العرض
يظل مرتبطاً طوال الوقت بذلك المتلقي المستهدف الذي يمتلك القدرة على التقييم
أيضاً والتصعيد وإعطاء العرض فرص أخرى للحياة أمام لجان أخرى وجمهور متخصص أخر.. وبالتأكيد
فإن ذلك ينعكس على حجم الظاهرة ومجال انتشارها فهي ظاهرة موسمية يمكن تفتيتها
بسهولة عبر رفع الغطاء الداعم لها من قبل الهيئة العامة لقصور الثقافة لأنها ظاهرة
تهتم بإنتاج المبدع وتنميته وإتاحة الفرص أمامه ليتم تسكينه داخل المجتمع المسرحي
كعضو ، كما يمكن أن يتم تفتيتها عبر تفتيت تلك الطبيعة التنافسية المميزة لها ...
كما
أدت تلك الطبيعة الخاصة بالظاهرة لنمو خطابات حولها بداية من الخطابات المعارضة
التي تري أهمية تفتيت الظاهرة أو تقيدها أو حصرها ، كما أنتجت خطابات داعمة لها و
داعية لمزيد من الترسيخ لمبدأ الحرية .
وأخيراً
يأتي البعد الأخير المتمثل في دور النوادي
داخل الصراع بين القيم المحافظة والقيم التقدمية و التحررية داخل الظاهرة المسرحية
والاجتماعية ، بالتأكيد سوف نكتشف أن تلك الظاهرة بطبيعتها تقبع في اقصي يسار
الحركة المسرحية نتيجة كونها غير خاضعة للرقابة على المصنفات الفنية، كما أنها غير
خاضعة للجان اختيار نصوص .. وبالتالي يمكن أن نكتشف تلك العلاقة بين نموها و بين
التحرر والمدنية فكلما اتجهنا نحو المدن كلما نشطت تلك الظاهرة و نمت وكلما
ابتعدنا عن المدنية كلما تآكلت تلك الظاهرة وخفتت و أصبحت هشة.
بالمجمل
تبدو الظاهرة غير فاعلة في الصراع الاجتماعي والسياسي الدائر حالياً. تبدو منفصلة
و غارقة في ذاتها .. ولكن هل هي فعلاً كذلك؟ أم أن مجرد أنتاج ما يزيد عن مئة عرض
سنوياً لشباب ربما تكون تلك هي فرصتهم الوحيدة التي ينالونها في المجال المسرحي هي
فرصة لدعاة المدنية و التحرر والديمقراطية من خلال القيم التي ترسخها في أذهان تلك
المجموعات من الشباب .. ربما تكون تلك هي قيمتها الأساسية الفاعلة التي يجب
المحافظة عليها في مقابل القوي التي تريد هدم المسرح عبر رفع غطاء الدعم عنه بدعوي
التحرر الاقتصادي .. أو عبر نعته بالانحلال والفجور والكفر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق