ربما
يبدو الأمر مملاً بعض الشيء .. ففي العادة يفقد الكلام معناه مع تكراره، ويتحول
إلي صدى بلا روح للصوت الذي أنطلق أول مرة محملاً بالانفعال و الحياة و المعني.
ولكن دعونا نتحدى الممل قليلاًُ، ونعيد تكرار بعض الأفكار التي سبق أن طرحت حول
السيناريوهات الأكثر مأساوية للمسرح المصري علنا نجد في تلك الإعادة ما يخفف عن
اعتاقنا بعض من مسئولية المشاركة في انهيار الظاهرة المسرحية تحت أقدام الهجوم المزدوج للقوي الدينية
المحافظة و القوي الرأسمالية .
ربما
كان أكثر السيناريوهات مأساوية هو ما يتحقق الآن، فالدولة شارفت على إنهاء انسحابها
البطيء من أداء أدوارها تجاه المجتمع – وهو الأمر الذي أستغرق قرابة العشرون عاماً
- لكنها لم تستطع أن تتجنب الأعراض
الإنسحابية المتمثلة في انهيار سلطتها و صعود سلطات تقليدية ومحافظة داخل المجتمع
لتقوم بسد الفراغ الذي تركته الدولة ، فتحول المسجد من دار عبادة إلي مركز لفض
المنازعات في ظل فساد جهاز الشرطة ومن ثم انهياره ، كما تحول المسجد لمركز اجتماعي
وثقافي عندما تآكل دور قصور الثقافة في المحافظات ، ومع مرور الأيام أصبح لرجل
الدين أدورا سياسية و رقابية وهو ما يعكس تردي واضح لدور الدولة و غيابها ،
وبالتأكيد فإن الانهيار السريع لحكومة مبارك أدي لتسارع وتيرة عملية التفكك تلك ،
ليتحول الأمر في النهاية نضال مقدس ضد الدولة القومية الحديثة وتأسيس دولة جديدة -
بعقد اجتماعي جديد - قائمة على تخلي الدولة عن أدوارها الحيوية والداعمة للطبقات
الأكثر فقراً لصالح قوي المجتمع المدني التقليدية – والمحافظة- التي تسارع من خطواتها لسد الفراغات التي تنشاء
عن تقاعس الدولة عن أداء أي من أدوارها في ظل تبني نموذج الليبراليين الجدد على
المستوي الاقتصادي.
ربما
تبدو الصورة التي نطرحها هنا شديدة التعقيد و التداخل ، فلقد أصبح من الطبيعي
التفكير أن العلاقة بين الإسلام السياسي و النظام الرأسمالي متوترة وقلقة ، خاصة
إذا ما وضعنا في اعتبارنا الفتاوى المحرمة للنظام البنكي ، والتحايل على النظام
الليبرالي نعته بالكفر والانتماء للغرب .
ولكن
أليس من المثير للدهشة أن تستمر الدولة في انتهاج ذات الخيارات الاقتصادية في ظل
ثورة كانت ترفع شعارات ذات صبغة يسارية (عيش، حرية، عدالة اجتماعية) ؟ أوليس من
المثير أن يتحول ذلك الشعار وتظهر صياغات بديل وموازية مثل (عيش - حرية - كرامة
إنسانية) و (تغيير – حرية – كرامة إنسانية) كما لو أن هناك رغبة في القضاء على أي
ملمح لانعدام المساواة الاقتصادية بين الطبقات.
أوليس
من المثير للدهشة أن تتعالي أصوات من التيار الإسلامي و الليبرالي في ذات الوقت
بإلغاء وزارة الثقافة ودفع مستحقاتها إلي القطاع الصحي أو التعليمي بينما على أرض
الواقع لا توجد قوي مدنية قادرة على القيام بدورها من جهة وتخلي الدولة التدريجي
عن الدعم لكافة القطاعات بما فيها قطاعات التعليم والصحة للحد الذي يصل لحد اعتياد
المواطن على فكرة أن التبرعات والصدقات هي السبيل الأول والوحيد لتوفير رعاية صحية
للفقراء ؟
بالتأكيد
إن تلك الملاحظات وغيرها تبدو غير ذات معني في ظل عدم الربط بينها ، لكنها يمكن أن
تصبح ذات معني عندما نضيف إليها خبراتنا بالمؤسسات المسرحية المدعومة من قبل الدولة،
فخلال التسعينيات والعقد الأول من الألفية بدأ مسرح الدولة في حصد نتائج عمليات
التخريب المنظمة التي قادتها الدولة منذ
عصر الرئيس الراحل أنور السادات ، فالمؤسسات المسرحية أصبحت متخمة بعمالة تفيض عن
حاجتها وفي المقابل تم تفريغ تلك المؤسسات من دورها الاجتماعي وعزلها عبر الجمود
الإداري والتشويه الإعلامي وإفساد الفنانين بالمرتبات الحكومية التي لا تطلب عمل
في المقابل ، وقبل كل ذلك غلق الأبواب دون المواهب الجيدة وانعدام التدريب وتردي
المنتج الفني وتدهور أحوال دور العرض سواء قبل حريق بني سويف أو بعده .
ولكن
بعد الثورة تم تسريع عملية الانهيار تلك لنجد
أصوات مختلة بين المثقفين تطالب بإلغاء وزارة الثقافة وفتح المجال أمام المجتمع
المدني ودور النشر الخاصة و الفرق المستقلة ..الخ وهو ما تلاقي مع دعاوي التيارات
الدينية التي تمتلك ذات التوجه وإن كانت على وعي بان التخلص من وزارة الثقافة يسمح
لهم بمد نفوذهم إلي نهايته. فلا يوجد ذلك المجتمع المدني الذي يحلم به المثقفين
خارج القاهرة والإسكندرية ويعتمد على تمويلات من جهات أجنبية يمكن التخلص منها
بسهولة .
ويصل
الأمر إلي نهايته مع إيقاف ميزانيات البيت الفني للمسرح ومخصصاته من وزارة المالية
لنصل إلي ذروة جديدة ، لكنها لن تكون الأخيرة أو القصوى ، فالحصار يفرض وتشتد
قبضته وأصبح الفنان الشاب الذي يعمل بمسرح الدولة بلا عمل بعد إيقاف الميزانيات ،
وبأجر شهري أقل من 500 جنية شهرياً –
المرتب والحوافز .. الخ - في ظل عدم صرف الزيادات التي حظي بها كافة
العاملين بالدولة.
هل
يبدو ذلك الكلام مملاً كالعادة ؟! أظن أنه
كذلك ...
فالجميع
لم يزل يحمل ذلك الوهم القائل أن أحداً لن يستطيع الاقتراب من مسارح الدولة .. غم
أن الدولة نفسها تتخلى عن المسرح وتلفظه عبر إيقاف ميزانياته ، وعبر القيادات
الحالية والمستقبلية التي لم تزل ترغب في ممارسة القيادة عبر الخطط الجزئية
والمحدودة الأفق التي تتوقف عند حدود تغييرات تكتيكية على ظاهرة في طور الاحتضار
مثل اختزال مستويات فرق الثقافة الجماهيرية
وتطبيق نظام التجارب ! أو الاهتمام بدعم العاملين في البيت الفني و حماية
حقوقهم المالية في ظل عدم وجود ميزانيات لإنتاج المسرح أصلاً.
ولكن
لنترك كل ذلك جانباً... فالملل يتسرب من جديد وصرخات التحذير من المستقبل لم تعد
ذات معني بعدما بدء ذلك المستقبل في مداهمته الواقع من جديد.
في
النهاية لن تصبح لهذا المقال أهمية طالما سوف يذهب لينضم لمئات المقالات والندوات
و الأحاديث الشخصية التي ظلت تحذر من الانهيار منذ السبعينيات دون مجيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق