لم
تكن الثورة الفرنسية هي مجموع الأحداث والوقائع الدموية التي حدثت بفرنسا خلال الفترة
الممتدة من نهايات القرن الثامن عشر و بدايات القرن التاسع عشر فحسب، فلقد كانت -
ولازالت - هي الثورة الملهمة لكافة المجتمعات و الثوريين حول العالم بسبب تلك
النتائج الكبري التي صاحبتها و التي أنهت عصر كامل في تاريخ البشرية و أسست لبداية
عصر جديد لم يزل المجتمع البشري يحيا في ظلاله حتى اليوم .ومن هنا فإن استعادة
أحداثها ووقائعها أمراً شديد الأهمية لفهم القوي الكبري التي ولدت في ذلك العصر و
التي لم يزل الكثير منها فاعلاً حتى يومنا هذا ، خصوصاً في حال مجتمع يمر بتغير
كبير وتاريخي مثل المجتمع المصري الذي قادت طبقته البرجوازية ثورته لتحمي مصالحها
المهددة ولتحاول إعادة صياغة مشروعها القديم والذي فشلت في تحقيقه حتى الآن .
من
هنا كانت العودة إلي نص مارا صاد للكاتب (بيتر فايس) هي من الخيارات الأولي التي
يمكن أن تتبادر إلي ذهن أي مسرحي يفكر في البحث عن نص مسرحي يمكن أن يستوعب تلك
المتغيرات الكبري التي تمر بالمجتمع المصري من ناحية ، ويستطيع من ناحية أخري يتيح
له أن يتأمل في تلك الظروف التي تمر بالمجتمع البشري في تلك اللحظات الكبري في
تاريخه (فترة الثورة).
وبالتأكيد
فإن طبيعة الشكل الفني الذي أختاره فايس
لتقديم تلك عمله تسهم بشكل كبير في ترجيح ذلك الخيار ، فالمسرح التسجيلي يقوم على
إعادة بناء عن الوقائع عبر السجلات والمحاضر والرسائل والبيانات الإحصائية ونشرات البوصات والتقارير السنوية للبنوك
والشركات الصناعية .. الخ. بهدف الكشف عن القوي التي صاغت ذلك الواقع وبهدف الوصول
إلي طبيعة و توجهات الخطابات التي قادت تلك الأحداث بطريق مباشر ، وليس عن طريق المقولات
التجريدية والأفكار السابقة التجهيز والتي تمنعا من اكتشاف تلك الخطابات وتخفيها
تحت تلك المقولات فتضللنا.
ولعل
تحليلات (ميشيل فوكو) وطرق قراءته للوثائق التاريخية كما في دراسته الهامة
(المراقبة والمعاقبة) يمكن أن تكون سبيلاً لفهم الكيفية التي يمكن التعامل مع تلك
الوثائق والبيانات التاريخية بشكل نقدي وتحليلي يتخلص من الأفكار النهائية الثابتة
والأصول القارة التي لا يمكن مرجعتها ، ففي النهاية أن نعي الظروف والوقائع التي
شكلت حدث كبير مثل الثورة الفرنسية يمكن أن يفتح لنا الأبواب لفهم مختلف لتلك
الثورة ولواقعنا بالضرورة... وبالتأكيد فإن التعامل الإبداعي مع نص مفتوح ودافع
للمبدع كي ما يتعامل معه بحرية يمكن أن يسهم بشكل أفضل في الغوص داخل تلك المساحة
المشتركة بين المجتمع الفرنسي في عهد الثورة والمجتمع المصري الثائر في 2011.
ولكن
وبالعودة إلي نص بيتر فايس (مارا- صاد)
يمكننا نرصد داخل النص مجموعة من الوقائع التاريخية المثبته مثل مقتل الزعيم
الثوري (جان بول مارا) على يد (شارلوت
كوردي) أو شخصية (الماركيز دي صاد) المتأرجحة بين المرض النفسي و الثقافة الرفيعة
و القدرات الإبداعية ...الخ . ولكن فى مقابل ذلك الإطار التاريخي الجامد فإن النص
يقوم على تخليق علاقة ما بين مارا وصاد ليس لها اصل تاريخي، كما يقوم بتغليف تلك
الوقائع التاريخية بإطار فني شديد الثراء
وعبر
ذلك كله فإن (بيتر فايس) يستكشف الأصوات الطبقية و الخطابات الأيديولوجية التي
شكلت زمن الثورة الفرنسية من أجل الوصول إلي تصور واضح عن تلك الفترة الخصبة من
تاريخ العالم ، وكذلك من أجل تفهم واقع المجتمع الأوربي في الستينيات والذي كان يشهد
صعود لمد ثوري كبير ضد مفاهيم ومرجعيات وأفكار الطبقة البرجوازية بهدف إحداث تحول
في وعي تلك الطبقة بذاتها ورؤيتها لعلاقتها بالعالم ودورها فيه .. وهو التحول الذي
يشكل واقع المجتمع الأوربي الآن بعدما تخلص من بقايا التمييز العرقي والنظرة
الدونية للمرأة وقبوله بالاختلاف الجنسي والفكري والثقافي للإفراد والمجتمعات (حتى
لو كان ذلك على مستوي الفئات الأكثر ثقافة).
وعلى
ذات الطريق الذي سار عليه (فايس) فإن أي محاولة إخراجية لنص (مارا- صاد) في ظل
واقع ملتبس ومعقد نتيجة وضع ثوري - مثل الواقع المصري - ينبغي أن تكون مرتبطة بأكثر
من معطي يأتي في مقدمتها بالتأكيد الاستفادة
من الطابع الاحتفالي والغنائي الذي يغلف النص من ناحية ومحاولة استغلال ذلك
الطابع الغنائي للتأكيد على الروابط التي تجمع الثورات حول العالم من حيث أنها حراك
اجتماعي عنيف يهدف إلي دفع التاريخ وعبور العقبات التي تحول دون تقدمه ، ومن ثم
فإن التحرك في عملية تأويل النص إخراجياً يجب أن تعتمد على إيجاد نص بصري يستوعب
ملامح التقارب ويؤكد عليها من ناحية ، ويقوم بإخفاء الاختلافات (أو إضعافها) بما
يضمن عدم اغتراب العرض عن واقعه . وهو ما يمكن أن يتحقق عبر النص من خلال وجود أكثر
من مستوي أدائي ، فهناك نزلاء "مصحة شارنتون" من المصابين بأمراض نفسية
وعقلية ، وهم يؤدون مسرحية اضطهاد واغتيال جان بول مارا ، وهناك المسرحية الداخلية
التي تقدم عملية اغتيال جان بول مار وملابساتها ، وهناك إلي جانب ذلك تداخل بين
العالمين طوال الوقت.
إن
تلك المستويات داخل نص يمكن أن تفسح المجال لتخليق نص بصري (أو نصي) يحمل تلك
المستويات الدرامية المتداخلة، بما يُمكن المبدع من التعليق علي ما يطرحه النص أو
يعارضه أو يقوم بتأويله في ظل علاقته بالواقع المصري في اللحظة الراهنة. وبالتالي
فإن التعامل الإبداعي مع النص ربما يكون شرط أساسي في ذلك النوع من النصوص، وإن
كان ذلك التعامل الإبداعي يحمل المخاطرة بتشويش النص أو إفساد العالم الدرامي فإن
الحل المثالي لتخطي تلك المخاطر يتمثل في حتمية وجود رؤية تتخطي التفسير السطحي
للنص والفهم المسطح للواقع المصري ، وقبل ذلك كله دراسة المتعمقة لموضوع النص
وخلفياته التاريخية.
وعبر
ذلك كله يمكن الإمساك بالصراع الأساسي في النص والذي يشتعل بين الرؤى المختلفة
للمستقبل التي تتصادم بدموية داخل النص ، كما يمكن التأكيد على الخطابات المختلفة
التي تطرح نفسها عبر الشخصيات الدرامية كما
هو الحال في حالة الهوس الديني التي تصيب شارلوت وتدفعها إلي قتل مارا باسم الله .
في النهاية ربما لا توجد هنا وصفة نهائية - أو
متكاملة - لكيفية تقديم نص(مارا- صاد) بعرض مسرحي ناجح وقادر على ملامسة الواقع ، فهنا
لا يوجد سوي طرح للإمكانيات التي يمكن تفعيلها من قبل المخرج القادر والراغب في
ملامسة واقعه.
بالمجمل
يمكن أن تكون الرسالة : كن متحرراً وشجاعاً في اقتحام عالم فايس ولا تهتم بالقواعد
النقدية أو الآراء السابقة التجهيز ، فقط
كن على مستوي ما تتعامل معه وأدرسه بدقة وعمق ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق